العلَّامة الشَّيخ محمّد جواد مغنيّة مشتغلاً بالعلوم العقليّة

العلَّامة الشَّيخ محمّد جواد مغنيّة مشتغلاً بالعلوم العقليّة

25/09/2011

العلَّامة الشَّيخ محمّد جواد مغنيّة مشتغلاً بالعلوم العقليّة

العلَّامة الشَّيخ محمّد جواد مغنيّة مشتغلاً بالعلوم العقليّة
فيلسوفٌ يُسدِّدُه الفقيه
محمود حيدر*

تُلقي هذه المقالة الضَّوء على واحدة من أبرز الإشكاليّات المَعرفيّة في الفِكر التّاريخي الإسلامي. عَنَينا بها إشكاليّة الجمْع بين الفقه والفلسفة، وستطراداً بين العقلي والنَّقلي ولا سيّما في ميدان العلوم الدِّينيّة الحوزويّة. إذ غالباً ما جرى التّعامل مع هذين المُعطَيَيْن العلميَّيْن وكأنّهما على طرَفَيْ نقيض.
هنا مقاربة للتّجربة العلميّة الجامعة كما تتجلّى في سيرة العلّامة الرّاحل الشّيخ محمّد جواد مغنيّة. فسيتبيَّن لنا من خلال هذه المقاربة أنّنا بإزاء عالِم حَوْزَويّ استطاع أن يُحرز مهمّة المصالحة الخلّاقة بين الفقيه والقاضي والمتكلِّم والدّاعية من دون أن يقطع مع مهمّة الفيلسوف. حيث انصرف للدِّفاع عن الدِّين بما حصَّله من مُنجزات العلوم الفلسفيّة قديمِها وحديثِها.
«شعائر»


إذا كان «الإنسان قد أَشكَل عليه الإنسان» على ما يُبيِّن أبو حيّان التَّوحيدي، فأصل القضيّة في ذلك، مُشتغلات العقل. ويجوز القول: إنَّ الأصل في الإشكال هو الطَّريق الذي يسلكه العقل حين يفكِّر في عِلَلِ الشَّيء ومآلاته.
كذلك سنرى المشهد على أتمِّه في مسارات الفتنة الموصوفة بين النَّقل والعقل، أو بين الفقه والفلسفة. وتالياً بين واجبيّة الدِّين وضرورات الدُّنيا.
لم يُحسم الأمر. ولم تتوقَّف الفتنة. مثلما لم تَقُم المصالحة بين حقلَيْن إشكاليَّيْن يبدوان كأنَّهما في نزاعٍ مفتوح على الأبديّة: التّكلُّم والتّفلسُف.
نقترب من هذه المقدّمة حين نواجه حيّزاً معرفيّاً يتداخل فيه الحقلان معاً. تحيُّز الفقيه متوازياً مع تجرُّد الفيلسوف. ولنا في الكلام على موقعيّة الفلسفة في فِكر العلَّامة محمَّد جواد مغنيّة ما يُضيء على هذه المواجهة.





مقاربة نِتاج العلّامة مغنيّة

لو قاربنا أعمال الشَّيخ مغنيّة لِنُقيم وإيّاها صِلة تعرُّف، لَظهرت على الجملة في وعاء الفلسفة. قد يبدو هذا الكلام مُفارقاً للمأثور من الشَّيخ. فأنتم بإزاء حَوْزَويّ حصَّل علوم الدِّين ليدفع بها عن الدِّين مقالة النّظار والمخالفين. فهو بهذه الصِّفة سوف يَتبوَّأ مقام العالِم، أو الفقيه، أو القاضي، أو المتكلِّم، أو الدَّاعية، أو هذه المقامات على الجملة. فمن أين إذاً جاءنا الفيلسوف، وما الذي حَمَله إلى ما عزَّت مطارِحُهُ في فضاء التَّقرير الدِّيني المألوف لدى مدارس الفقه التّقليديّة.
ثمَّة مَنْ يَمضي بالسُّؤال إلى مسافة أبعد: كيف لِداعية أن يَدنو بالمساءلة من شأنٍ لا يُرى عنده إلَّا على وجه اليقين. أو كيف لِفقيه أن يواجه بعلامات الإستفهام ما هو مركوز في القلب، ومثَبَّتٌ بالإيمان، ومسلََّمُ به على الفطرة؟
لا شيء في السِّيرة العلميّة للعلَّامة مغنيّة يبدو خارج نطاق التَّساؤل. كان ذلك حاضراً لديه منذ الطفولة المسكونة بالفقر. حتى إذا ضمَّه القدرُ إلى محاريب الحوزة، لم يُغادر السُّؤالَ ولا فارقهُ السُّؤالُ لحظة. كما لو أنّه وَعى مبكراً أنّ الدِّين الذي أسلَمَ له الفؤاد لا مناصّ له من عارِف. وأنَّ العارِف لا يكون له مقام التعرُّف إلَّا بطيِّ منازل الجهل، منزلةً منزلة، وإشكالاً إثر إشكال، حتّى يأتيه اليقين.
في امتداد السِّتين كتاباً وأكثر وضعها العلَّامة مغنية، مجاهداتٌ مؤيَّدةٌ بشغف البَحث عن حقائق الكلمات والأشياء. مرجِعُه الأوّل في التّساؤل القرآنُ: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا..﴾ العنكبوت:69. كما لو استَيْقن الشّيخ من أنّ التَّساؤل بالنّسبة إليه هو تقوى الفكر وهداية العقل، وأنّ الهداية موصولةٌ بالمجاهدة والبذل. فَعَلِمَ إذّاك ما يجب أن يكون عليه الأمر. حتّى إذا عزم على التَّوجُّه إلى إستنتاج الأحكام، أدرك أنَّ المقام لا يستوي على الإنصاف إلَّا بالتقوى.
ولقد أخذ صاحبُنا بما دعا به الإمام الغزالي ذات مرّة، حين أَلزم نفسه بالقول المأثور: «أللّهمَّ إنِّي أعوذ بك من فتنة القَوْل، كما أعوذ بك من فتنة العمل». ولمّا كان ذلك كذلك، راح يُوسِّع من أرض القراءة حتّى صارت له مراجع أخرى.
لم يَكتفِ الشّيخ بالمقرَّر الحوزوي الذي امتلأ به وَفَاضَ، بل هو ذَهب في ما يتعدَّى كلمات الحوزة وأسفارها. مضى لِيَغترف المزيد ممّا أَشكَل على الإنسان من بُحور الحداثة الغربيّة ومُنجزاتها. لم يكن العلَّامة مغنيّة، لمّا نَحَا هذا المَنْحى، مأخوذاً بفضولٍ عارضٍ للمعرفة. لقد كان على وَعْي بفضيلة القول الفلسفي كسبيل إلى كمال التَّعرُّف. وعنده أنَّ الأخذ بهذا القول الفلسفي يعني دفعَه إلى حقول الإشتغال الكلامي والفقهي، بل وفي كلِّ ما يتَّصل بعلوم الدِّين. ولذا سنجد كيف سَرَت نصوصُه وكتاباته مَسْرى الممارسة الفلسفيّة، حتّى وهو يتناول أدقَّ المُسَلَّمات من العقيدة.
لعلَّ قراءة ما في الجغرافيا الفلسفيّة الغربيّة من إنجازات، كانت بالنّسبة إلى عالِمٍ كالشّيخ مغنيّة ضرورة لِوَعي الذّات الثّقافيّة الإسلاميّة. فهذه الذّات السّارية في الزَّمن لم تَعُد بالنّسبة إليه محبوسة ضمن قلعة مغلقة. ففي خلال الحقبة التّاريخية التي عاشها كفقيه -النّصف الثاني من القرن العشرين- بدت هذه الذّات في قلب الإحتدام. ولذا فلا بدّ لها من استكشاف مطارح الغير -خصيماً لدوداً كان أو صاحباً ودوداً- لكي تكتمل صورتها عن نفسها. فصورة الذّات تُصنع أيضاً، وبنسبة ما، على عَيْن الآخر.
مع هذا الإقرار العقلاني بِجَدَليَّة الصِّلة بالغير، كان الشَّيخ يؤدِّي فعلاً فلسفيّاً لا مِراء فيه. فعلى حكم العقل يبقى إدراك الشّخصيّة الحضاريّة أمراً ناقصاً لو اكتفى المُتعرِّف بما لديه من أنباء وروايات عن الغير. فلا بدّ إذن، من حضور المقابِل لكي تَكتمل المعرفة. ذلك لأنَّ مثل هذا الحضور هو بنسبة ما، يُعتبر هويَّة أخرى للذّات. فالتّعرُّف بمدلوله الفلسفي الواقعي هو فعلٌ لحدثٍ أصلـُه الإعتراف بنظير. إمّا ليُثبِتُه في حقله على الودِّ والمشاركة، أو ليَظلَّ وإيَّاه على الإختصام، إلى ﴿..ليقضي الله أمراً كان مفعولاً..﴾ الأنفال:44.
على هذا المدرج في النّظر إلى الغير، بما هو قيمة معرفيّة، يُحيل العلّامةُ مغنيّة عمليّة إنتاج الأفكار إلى ما يُمكن وصفه بفضاء التَّفلسُف العملي. ففي هذا المحلّ سوف تَتعيَّن لديه نهاجيّة مخصوصة في عالَم التَّفكير الدِّيني. وعليه سوف يقرِّر أنَّ مهمّته الفلسفيّة تَكمن في العمل الدَّؤوب على إنتاج السُّؤال، سعياً إلى جوابٍ ما، عبر ولادات فكريّة ومعرفيّة تجتاز العصبيّات الصّمَّاء.
في مقدِّمة كتابه (فلسفة المبدأ والمعاد) يعود الشّيخ مغنيّة ليُذكِّر بما كان قد بَيَّنه في مجمل أعماله: من أنّ الفلسفة إنّما تقوم على البديهيّات. بها يُبرهَن على صحّة النظريّات، وبها تُعالَج مشاكل الوجود. وفي ردِّه على مُنكريها سيلاحظ أنَّ الذين شكَّكوا في حُكْم العقل، وأسقطوه عن الدَّلالة والإعتبار هم أنفسهم مَنِ استعملوا منهج الفلسفة ومنطقها، ونقدوا العقل بالعقل. فَمَثلُ هؤلاء كَمَثَل مَن قيل فيهم: «مَنْ أَنكَر الفلسفة فقد تَفَلْسَف».

الهندسة المَعرفيّة للفكر الدّيني

مزيَّة الشّيخ مغنيّة أنّه أدخل الفلسفة في مجال الإستعمال. راح يرى إليها بعين المُتَبصِّر. ثمَّ لِيَكتب فيها. ثمَّ لتكون له مسلكاً في التَّعقُّل والتَّدبُّر والنَّظر والعمل. ولذا لم تكن الفلسفة بالنّسبة إليه كتلة من المفاهيم تمكث بصمتٍ في مقام التَّجرُّد. لقد أمسك بناصية الفلسفة الأولى، ثمَّ، انبرى يُنزلها من عليائها، لكي تَسري، وتَتوالد، وتَنمو في حقول الحياة الخضراء. فما جدوى الفلسفة لو ظلَّت صامتة في أبراجها. لقد فعل ما فَعَلتْه الحداثة الفلسفيّة لكن على نهج ما أوتي من عِلم الكتاب الإلهي. كأنْ تتحوَّل المفاهيم السَّاكِنة في سماء الأذهان إلى حركة تملأ الزَّمان والمكان. حيث تَستحيل آيات الكتاب وعلوم الشَّريعة حضوراً حيَّاً في أدقِّ مفاعيل النَّشاط البشري. لقد أراد أن تكون الفكرة الفلسفيّة حركةً، ولقاءً، واجتماعاً، وصانعة حَدَث، وأن تكون تالياً فكرةً فاعلةً في التَّاريخ.
ها هنا على وجه التَّعيُّن نصل إلى موقعيّة الفلسفة في فكره. حيث تَستحيل في مَسْعاه إلى هندسة معرفيّة للفِكر الدِّيني بأصوله وفروعه ومراتبه المتعدِّدة. بل يمكن القول، إنَّ غايته من الفلسفة هي تأييد العقيدة بعناصر إضافيّة من أنوار العقل.
لقد استطاع العلّامة مغنيّة أن يرتفع بالبحث الفقهي الكلامي إلى التَّجريد الفلسفي، ثمّ لِيَعود به كَرَّة ثانية إلى الواقع التّفصيلي الضَّاجِّ بالحياة. لم يكن الرَّجل «فيلسوف دِين»، كَمَن يدخل أرض الدِّين من باب الفلسفة، وقصدُه في ذلك أن يَدرس العقيدة وفقاً للمقولات الفلسفيّة أنطولوجياً ومعرفيّاً وتاريخيّاً.  كما لم يكن فيلسوفاً دينيّاً، شأن مَن يَعمل بمقدِّمات فلسفيّة من خارج الدِّين، ويصل إلى الدِّين من دون أن يقصد بالضَّرورة إثبات العقائد الدينيّة.
مَنْ كان إذاً، وأيّ مطرح معرفيّ، حلّ فيه العلّامة مغنيّة لِيُصاحب الفلسفة؟
غالب الظَّنّ، أنَّه كَرَجل دِين لم يَكن لِيَستسهل الأمر. والّذين سبقوه إلى مثل هذه المخاطرة كانوا على حَذَرٍ مُقيم. ولذا سَيَلوذ بالسُّؤال والرَّجاء في الآنِ عينه، كما لاذ بعض السَّلَف من الحُكَماء. لكأنَّنا به وهو يجد نفسه داخل ثنائيّة الدِّين والفلسفة يخوض اللُجّة لِيَعثر على جغرافيّة اللّقاء الحميم بين الضَّفَتَيْن.
ولقد كان عليه أن يَتساءل:
ما فلسفة الدِّين.. هل هي تلك التي تَرى إلى الدِّين بعين الفلسفة لِتُعَقْلِنَهُ؟
حسناً .. لِنَمْضِ وإيّاه قليلاً إلى مسرح التّعُّرف:
كَكُلِّ المفاهيم المُعاصِرة، يَشوب الغُموض، والإضطراب، وتعدُّد التَّعريفات، مُصطلح فلسفة الدِّين.
ولسوف نقرأ أنَّ بعضَهُم ذَهب إلى تقريب المُصطلح من عِلم الكلام الجديد، كَوْنه يعمل على قضايا مشتركة مع ذلك العِلم، تماماً مثلما ذهب اللَّاهوت المسيحي للأسباب نفسها. مع هذا، لا يزال النّقاش في هذا الحقل مُحتدِماً من دون التَّوصُّل إلى رؤية معرفيّة واضحة المعالم، في حين أنَّ معظم التَّعريفات التي نُقِلَت عن المشتغلين في هذا الحقل، ترتبط بعضها ببعض ضمن سياق واحد ومتشابه.

تعريفات فلسفة الدّين

لِنَرَ أيضاً وأيضاً إلى‌ ما يحتويه مسرح التّعريفات:
أوّلاً: فلسفة الدِّين عبارة عن استعمال الطُّرُق الفلسفيّة للإجابة عن الأسئلة المُتعلِّقة بالمواضيع الأساسيّة في الفِكر الدِّيني. مع الإشارة في الواقع إلى أنّ طريقة الفلسفة الأساسيّة هي خليط من الدِّراسات التّاريخيّة والتّحليلات المنطقيّة (Logical Analysis) والمفهوميّة (Conceptual) وعلم اللُّغة (Philology).
ثانياً: فلسفة الدِّين هي التّفكّر الفلسفي حول الدِّين. فتكون بهذا البيان جزءاً من الفلسفات المُضافة، وفرعاً من عِلم المعرفة (Epistemology) بالمعنى الأعمّ، ذلك لأنهّا تتطلّع، -بالإنطلاق من موضوعها أي إستقلاليّة الدِّين ومن الخارج- إلى البحث والتَّحقيق في الأمور والموضوعات الدِّينيّة.
ثالثاً: فلسفة الدِّين هي عِلم ثانوي، أو هي عِلم وسائطي، لأنَّها ليست جزءاً من المواضيع الدِّينيّة، بل هي كفلسفة الحقوق، بالنّسبة إلى الدِّراسات الحقوقيّة والمفاهيم والأدلّة القضائيّة.
رابعاً: ميدان فلسفة الدِّين هو الدِّراسات الدِّينيّة الفلسفيّة. أي التّفكير الفلسفي حول الدِّين، لا الدِّفاع الفلسفي عن المُعتقدات الدِّينيّة. وفي هذا الصَّدَد يُمكن القول إنَّ الإلتباس الحاصل بين فلسفة الدِّين ضمن مهمّتها الحياديّة، وبين عِلم الكلام أو عِلم اللّاهوت ضمن مهمّتهما الدّفاعيّة والتّبريريّة عن المُعتقدات، إنّما هو التباسٌ ناجِم عن تداخل وتشابك الأدوار، وطريقة الإستخدام. فقد رأى بعض الفلاسفة أنّ فلسفة الدِّين تَنطوي على سَعي لإيجاد تبرير وتَبيين عقليٍّ لأديانهم، وغيرهم اعتقد أنّ في ذلك سعياً لتبرير وتوجيه إلحادهم، وكان عند قوم آخرين مجرَّد سعي لدراسة وبحث مساحة أخرى من العلاقة والتّجربة الإنسانيّة. وقال بعضهم من جانبٍ آخر، إنَّ فيلسوف الدِّين لا يلزم أن يكون شخصاً عقائديّاً، بل يُمكن أن يكون مُنكِراً لله، أو مؤمناً، أو لا أدريّاً. وعلى أيِّ حال، فإنَّ فيلسوف الدِّين ليس بالضَّرورة أن يكون ملتزماً بِدِينٍ مُعيَّن حتّى يمارس مهمّته الفلسفيّة. ذلك أنّ كلمة الدِّين في فلسفة الدِّين هي كلمة مُطلقة، وغير مقيّدة بأحد الأديان دون سواه، أي إنّها غير مقيّدة لا بالإسلام ولا بالمسيحيّة ولا باليهوديّة ولا بِسِوى ذلك من الأديان.
خامساً: فلسفة الدِّين، هي إحدى شُعَب الفلسفة المُضافة، مثل: فلسفة العلم، فلسفة الجمال، الفلسفة السياسيّة، فلسفة اللّغة إلخ، وهي كلّها في مقابل الفلسفة الأولى. وهذا هو سبب احتوائها لأحد الأحكام الكلِّيّة الفلسفيّة أي تَحَرِّي الحقيقة، والبحث العقلاني الحرّ.
لكنّ الباحث في فلسفة الدِّين أوليفر ليمان (Oliver Leaman) له رأي آخر يُبيِّن فيه ميّزات فلسفة الدِّين عن سائر الفلسفات المُضافة. يقول: «إنَّ أحد الأشياء المُختلفة تماماً في ما يتعلَّق بفلسفة الدِّين هو أنّ لديها إرتباطاً شديد الخصوصيّة بما هو شخصي. وقد اتَّخذ الكثير من المُفكِّرين موقفاً خاصّاً من الدِّين ربّما بالإيجاب أو بالسَّلب. وربما هم يَرَون أنّ فلسفة الدِّين تكتسب لديهم أهميّة أكثر من مُجرَّد الأهمّية النَّظريّة. ومع ذلك من الممكن أن يكون إهتمام المؤمن المُتديِّن، بفلسفة الدِّين، أكثر من مجرَّد الإهتمام الأكاديمي، ربّما لِيُعَبِّر عن مبادئ، أو أساسيّات دينيّة بطريقة عقلانيّة، أو حتّى ليؤسِّس له ويُبرهن على صحَّته. وبِحسب هذه الرُّؤية فإنَّ الكثيرين من المؤمنين يرغبون في انتهاج هذا النَّحو من الإهتمام. غير أنّه سيكون من المُستغرَب لدى كثيرين ممَّن أخذوا بهذا الطريق، أنّهم لا يُطبِّقون هذا المنهج على منظومة الإعتقاد الخاصّة بهم».
وأيّاً يَكن الوضع، فإنَّ من الدَّوافع التي تقود العاملين في فضاء فلسفة الأخلاق مثلاً، هو في الأغلب الأعمّ، الرّغبة في إرساء الأُسُس المنطقيّة لمعتقداتهم الأخلاقيّة الشّخصيّة. ذلك أنّ أبرز الفروق بين فلسفة الدِّين والأقسام الأخرى من الفلسفة، هو أنّ الأولى ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمواقف الشّخصيّة للفلاسفة أنفسهم.
العلّامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة هنا، لا يغادر هذه الدّائرة بالذّات، فمسعاه على الجملة يَؤول إلى عقلَنَة التّفكير الدِّيني من خلال الممارسة الفلسفيّة.
لقد تخيَّر العلّامة مغنيّة منطقة وُسطى من الإشتغال بالفلسفة: دَرَس الدِّين فلسفيّاً على أرض الإيمان الدِّيني. وبمعنى أكثر وضوحاً: لقد استحضر الفلسفة كَتِقنيّة عقليّة فائقة القدرة على توليد المفاهيم، لتؤدِّي مهمّاتها في خدمة العقيدة. وهو حين ذَهب إلى توصيف مهمّته المعرفيّة بأنّها «فلسفة العقيدة»، فقد كان كَمَن يُمَوْضِع الفلسفة بصفة كوْنها الخريطة الاستراتيجيّة لِفَهم المنظومة الدّينيّة.
لعلَّ ظهور عِلم أصول الدِّين في مرحلة متأخِّرة من تطوُّرات الفِكر الإسلامي ربّما يَقترب إلى حدٍّ بعيدٍ مِمّا قَصَدَه العلّامة مغنيّة من «فلسفة العقيدة». من هذا النَّحو، أيقن العلّامة مغنيّة بجدوى الفلسفة في تمكين العقل الدِّيني من إدراك حقائق النّصّ وطبقاته المعرفيّة المُتعدِّدة الأفهام، وبالتّالي في تمكينه عن طريق الفلسفة، من إحراز تحوَّلات التَّجديد والإحياء في الفِكر الدِّيني المعاصِر.
ولسوف نراه يُصرِّح أنَّه سَيَطأ أرض الفلسفة الآلهيّة على أتمِّ أطوارها في حقبة متأخِّرة من عمره العلمي. ففي مدينة «قم المقدَّسة» سينفتح له فضاء معرفي غير مألوف في أوساط المدرسة الفقهيّة الشِّيعيّة الكلاسيكيّة. عَنَيْتُ به فضاء الفلسفة الصدرائيّة لصاحب الحكمة المُتعالية محمّد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بصدر المتألِّهين. فهو يَعترف بأنَّ جُلَّ كـُتبه الفلسفيّة ما كانت لِتظهر لولا أن أُتيح له الإطِّلاع على آثار هذا الفيلسوف العظيم.
مع هذا الإدراك، أَنجز العلّامة مغنيّة الشَّطر الأخير من المُصالحة بين الفلسفة والفقه، لتكون فضيلة الأولى القيام بمهمّة تسديد الفقه وعَقْلنته.

مؤدّى المصالحة بين الفقه والفلسفة

إنَّ مؤدَّى هذه المصالحة سوف يَظهر عبر سلسلة من التَّطوُّرات في الفكر التَّجديدي لدى العلّامة مغنيّة. فمثلما شكَّلَت الفلسفة لديه الباب المفتوح على تكامُليَّة الفِكر الدِّيني، كذلك كان تأويل النَّصّ. فَسَنرى كيف أنَّ موقفه من التَّأويل يتوضَّح في بعض أعماله الكلاميّة من خلال إجراء التَّحليل المُقارِن بين الفريقَين التأسيسيَّيْن في عِلم الكلام الإسلامي: الأشاعرة والمعتزلة. فهو يَميل إلى الأخذ بنظريّة أهل الإعتزال دون نظرائهم، ودليله إلى هذا القاعدة التي تقول: إذا تعارض ظاهر النّصّ مع العقل وَجَبَ تأويله بما يتَّفق مع منطق العقل. فذلك ما يَتَّفق برأيه مع قول الإماميّة بأنَّ الشَّرع والعقل لا يَتصادمان بِحال، ولا يَفترقان، لأنَّ العقلَ شرعٌ من الدّاخل والشَّرعَ عقلٌ من الخارج. وأمّا العقلُ فإنّه يَهتدي بالشَّرع، والشَّرع يُعرَف بالعقل. فهُما أبداً ودائماً مُتحالفان مُتآزِران، كلٌّ منهما يَحكم بما يَحكم به الآخر.
عند هذه المحطّة المعرفيّة سوف يَستحيل التَّأويل عنده ضرورة لِفهم الدِّين. وحجَّته: إنَّ ما يَستغلق من الشَّريعة على الفهم يَتولَّاه العقل بالتَّفسير والجرح والتَّعديل، وصولاً إلى التّأويل، حتى تُرى حقيقتُه.
فلو قرأنا ما يَستهلّ به العلّامة مغنيّة جُلَّ ما أَصدرَه، لَوَقعنا عنده على شغفٍ حميمٍ بتكثير طبقات التَّعرُّف على النُّصوص والأفكار. إذ المعرفة على ما يَرى، تَنطلق من مَنظور قرآني وفلسفي قوامه بَسْط النَّفس والعقل على فضيلة الإختلاف. فالمُفكِّر الإسلامي برأيه لا يفلح بأمره إلَّا إذا أَحرز ثلاثة شروط:
- أن يكون على عِلم بحقيقة الإسلام.
- أن يكون على عِلم بالتيّارات والمذاهب الحديثة ومدى سلطانها وتأثيرها.
- أن يكون عالِماً بعُيوب المجتمع الإسلامي كالتَّعصُّب، والإيمان بالبِدَع، واللَّامبالاة.
لقد عرف الشَّيخ مغنيّة أنّ حضور الإسلام في الزَّمان، وعلى الخصوص في أزمنة الحداثة التي عاشها بامتلاء، لا يكون إلّا ضمن جدليّة الإحتدام والإختلاف والتَّعرُّف. وعنده، إنّ المُتعصِّب، وحده، مَن يَرفض الإنصات لكلام الغير. فلو تكلَّم المُغلَق على نفسه فلن يسمع إلّا أصداء كلماته ترتدُّ إليه صافية من أيِّ شائبة. حتّى ليَأخذْه العُجبُ بما أنشأ من كلمات، ثمّ لِيتوهَّمُ أنّه أدرك الحقيقة.
لقد تعامل «الفقيه/الفيلسوف» مع مواقع الإختلاف سواء بين مذاهب المسلمين أم بين الأديان والتّيّارات الفكريّة والفلسفيّة والعلمانيّة، وفق مبدأ التَّعرُّف قبل الدُّخول معها في ميادين المجادلة. كأنّما استعاد مقالة ابن الهيثم: «إنَّ من الواجب على النّاظر في كُتُب العلوم إذا كان غرضُهُ معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصماً لكلِّ ما يَنظر فيه، ويُجيل فكرَه في مَتْنه، وفي جميع حواشيه، ويَخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتَّهم نفسه أيضاً عند خصامه».

 * رئيس «مركز دلتا» للأبحاث المعمّقة



 
أَيْسَرُ ثوابِ المؤمِن
أَيْسَرُ ثوابِ اللهِ للمؤمن خيرٌ له من الدنيا التي يُقبِل الجاهلون بأنفسِهم عليها (يقتلُ الجاهلون أنفسَهم عليها)، فـ‍ ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾
أمير المؤمنين عليه السلام


 

اخبار مرتبطة

  مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

نفحات