الملف

الملف

11/05/2020

«ولاية العهد» منبر اً رضويّاً

 

«ولاية العهد» منبر اً رضويّاً

تجديد ثامن أئمة المسلمين للبعثة النبوية

 

كان هارون العبّاسي، قد أوصى لابنه محمّد الأمين، ومن بعده لولده عبد الله المأمون، وبعدهما لولده القاسم. كما وزّع المناطق بينهم، فجعل للأمين ولاية العراق والشام إلى آخر المغرب، وللمأمون من همدان إلى آخر المشرق، بما في ذلك خراسان وجهاتها، ولولده القاسم الجزيرة والثغور والعواصم.

ودارت الدوائر على الإمبراطورية العباسية بعد هلاك هارون في خطّين:

الأول: حروب الإخوة.

الثاني: ثورات العلويين.

وما جرى بين الأمين والمأمون معروف، لذا أقف، باختصار، عند ثورات العلويّين.

«في سنة 198 هجرية بعد قتل محمّد الأمين، وانتقال السلطة إلى أخيه عبد الله المأمون، أحسّ المأمون أنّ الأخطار تهدّد دولته من جميع الجهات:

ففي الكوفة: خرج أبو السرايا يدعو لمحمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليه السّلام، وبايعه الناس.

وفي المدينة: خرج محمّدُ بن سليمان بن داود بن الحسن، والحسنُ بن الحسين بن عليّ بن الحسين المعروف بـ(الأفطس)، ودعا إلى (ابن طباطبا)، فلما مات الأخير، دعا إلى نفسه.

ومع كل ثائر عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة الذين أقاموا عروشهم على جماجم الأبرياء والصلحاء وقتْل الأئمة المعصومين؛ محمّد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم عليهم السلام».

 (الميلاني، قادتنا كيف نعرفهم: 4/258)

في تلك المرحلة، وجد المأمون أنّه لا يستطيع إنقاذ الموقف بأسلوب القسوة والعنف، وقد أخذ يعاني من نتائج هذا الأسلوب بعد قتله أخاه الأمين. كما لا يستطيع ذلك بالمنطق والاحتجاج، وهو يعلم أكثر من غيره أنّ السلطة العبّاسية لا تمتلك أيّ شرعية في تسلّطها على الناس.

من هنا أخذ المأمون يفكّر في خطة غريبة من نوعها، تكون بنظره في غاية الإحكام والإتقان، فعمد إلى عَرض الخلافة على الإمام الرضا سلام الله عليه، لكنّه عليه السّلام رفض قبولها أشدّ الرفض. وبقي المأمون مدّةً يحاول إقناعه فلم يُفلح، حتّى استمرّ ذلك في «مَرْو»، أكثر من شهرين، والإمام يأبى عليه ذلك.

(انظر: ينابيع المودّة للقندوزي: ص 384)

وممّا قاله له المأمون: «..يا ابن رسول الله، قد عرفتُ فضلك وعلمك، وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقَّ بالخلافة منّي... فإنّي قد رأيتُ أن أعزلَ نفسي عن الخلافة وأجعلها لك، وأُبايعك.

فقال الإمام: (إنْ كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسَكَه اللهُ وتجعلَه لغيرك، وإنْ كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك).

قال المأمون: لابدّ لك من قبول هذا الأمر. فقال عليه السّلام: (لستُ أفعل ذلك طائعاً أبداً).

فما زال المأمون يحاول أيّاماً حتّى يئس من قبوله».

(انظر: روضة الواعظين للنيسابوري: 1/ 267)

وتنوّعت المحاولات وتعدّدت، إلاّ أنّها باءت جميعها بالخيبة. وكان المأمون قبل ذلك يكاتب الإمام الرضا عليه السّلام وهو بالمدينة ويُلحّ عليه بالقدوم إلى «مَرْو»، وأخذ يتهدّد الإمامَ، تلويحاً وتصريحاً، والإمام يأبى قبول ما يعرضه عليه، إلى أن بان للجميع أنّ المأمون لا يكفّ عنه، وأنّ الأمر بلغ مشارف القتل، فقبل عليه السّلام ولاية العهد مُكرَهاً، وذلك في السابع عشر من شهر رمضان سنة 201 هجريّة.

يقول أبو الفرج الأصفهانيّ: «أرسل المأمونُ الفضلَ والحسنَ ابنَي سهل إلى عليّ بن موسى فعرضا ذلك -يعني ولاية العهد- عليه فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: (إن فعلتَ ذلك، وإلاّ فَعَلنا بك وصَنَعْنا)! وتهدّده، ثمّ قال له أحدهما: (واللهِ أمرني -أي المأمون- بضرب عنقك إذا خالفتَ ما يريد)!

ثمّ دعا به المأمون وتهدّده فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد».

(انظر: مقاتل الطالبيّين: ص 562)

حينها حدّث الإمام الرضا عليه السلام المأمونَ -عن آبائه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله- بحديث شهادته صلوات الله عليه، وأنه يُقتل مسموماً قبل المأمون نفسه، فلا معنى لولاية عهدٍ تُوكل إلى من يُتوفّى قبل الحاكم.

فقال له المأمون بكلّ وقاحة: «يا ابن رسول الله، إنما تُريد بذلك التخفيفَ عن نفسك ودفْع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنّك زاهدٌ في الدنيا!

فقال الرضا عليه السّلام: (واللهِ ما كذبتُ منذ خَلَقني ربّي عزّ وجلّ، وما زَهِدتُ في الدنيا للدنيا، وإنّي لَأعلم ما تريد).

فقال المأمون: وما أريد؟!

قال: الأمانَ على الصدق؟ قال: لك الأمان.

قال عليه السّلام: (تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهدْ في الدنيا، بل زَهِدَتِ الدنيا فيه، ألا تَرَون كيف قَبِلَ ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!).

فغضب المأمون وقال له: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكره.. فبالله أُقسم: لئنْ قبلتَ ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإنْ فعلتَ وإلاّ ضربتُ عنقَك»!

(انظر: أمالي الصدوق: ص 43)

 

حيرة المأمون ودوافعه

ثلاثة أسباب اضطرّت المأمون، على الظاهر، للتقرّب من الإمام الرضا عليه السلام:

1- ثورات العلويين.

2- عداء بعض العباسيّين للمأمون.

3- المدّ الجماهيري الموالي للإمام الرضا عليه السلام.

ولمعرفة حجم هذا المدّ الجماهيري -خصوصاً في خراسان آنذاك- أذكر كلام رجلٍ خراسانيّ مع الإمام الصادق عليه السلام، عن وجود مائة ألف من الأنصار له في خراسان:

«..دخل سهل بن الحسن الخراسانيّ، فسلّم عليه – أي على الإمام الصادق- ثمّ جلس فقال له: يا ابنَ رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يدَيك بالسيف؟..».

(الميلاني: 4/110)

هذا المدّ الجماهيري الذي كان يقدّر بمائة ألف سيف في زمن الإمام الصادق عليه السلام، كيف أصبح في زمن الإمام الرضا عليه السلام؟  لقد وصل إلى حيث إنّ المأمون لم يرَ وسيلة لتثبيت حكمه، إلّا التظاهر باستعداده لتسليم أمر الخلافة أو ولاية العهد إلى الإمام الرضا عليه السلام.

 

منهج الإمام الرضا في مواجهة خطّة المأمون

اعتمد الإمام الرضا عليه السلام، في مواجهة دسائس المأمون، منهجاً يقوم على الأُسس التالية:

1- رفضه تولي الخلافة من قِبل المأمون.

2- رفضه قبول ولاية العهد بالاختيار.

3- قبول ولاية العهد، مكرهاً مضطراً، بشرط أن لا يتدخّل بشيء من أمور الدولة والنظام.

4- اعتماد الحوار العلمي في المجالس العامّة والخاصّة، كوسيلة أفضل لنشر العقيدة والشريعة والأخلاق الفاضلة.

5- اعتماد إظهار الكرامات في عصرٍ دعت الحاجة إليها على أوسع نطاق في مواجهة الهجمة المادية الشرسة، والتضليل والانحراف اللّذين لم تواجَه الأمّة بمثلهما من قبل.

وكان اعتماد الكرامات، كما هو الحوار العلمي، في المجالس العامّة ليموت الذين كفروا بغيظهم وينقلبوا خاسرين. وفي المجالس الخاصة لتثبيت المؤمنين وتقوية عقيدتهم.

 

هارون يسلب الهاشميّات!

لقد قاسى الإمام الرضا عليه السلام وأصحابه من ظلم العبّاسيّين وولاتهم، مثل الذي قاساه، من قبل، أبوه الكاظم عليه السّلام. فقد «بقي الإمام الرضا بعد أبيه الإمام الكاظم عليه السلام عشرين عاماً، منها: عشر سنوات في عهد هارون، وكان يتجرّع خلالها مرارة الأحداث، ويتعرّض إليه هارون بين الحين والآخر بمَن يؤذيه؛ كـ(الجلوديّ) الذي أوعز إليه بأن يهاجم دور آل أبي طالب، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل، ولا يدع على واحدة منهن ثوباً يسترها!

والجلوديّ نفّذ أوامر هارون، فلمّا انتهى إلى دار الإمام الرضا عليه السلام، بِخَيله وجنده، وقف الإمام على باب داره، وجعل نساءه في بيتٍ واحد، وحاول أن يمنعهم من دخوله.

فقال له الجلوديّ: (لا بدّ وأن أدخل البيت وأتولى بنفسي سلبهنّ كما أمرني هارون).

فقال له الرضا: (أنا أسلبهنّ لك ولا أترك عليهنّ شيئاً إلاّ جئتُك به)، وظلّ يمانعه ويحلف له بأنّه سيأخذ جميع ما عليهنّ من حلى وحلل وملابس حتّى سكن، ووافق على طلب الإمام».

(الميلاني: 4/239)

 

اخبار مرتبطة

  تاريخ و بلدان

تاريخ و بلدان

نفحات