الثورة والجمهورية الإسلاميّة

الثورة والجمهورية الإسلاميّة

26/09/2011

الثورة والجمهورية الإسلاميّة

ملحق شعائر
دَوري يصدر عن مجلّة «شعائر»                                                                                                                    2



 
الثورة والجمهورية الإسلاميّة
ثباتٌ واستمرارٌ ونهضة
نَصّ خطاب الإمام الخامنئي دام ظلّه
أمام الجامعيّين في طهران، 9 شهر رمضان 1432 هجريّة


إصدار المركز الإسلامي




بسم الله الرحمن الرحيم
 

تقديم



هذا المُلحَق الذي تضعه «شعائر» بين أيدي قرّائها الأعزّاء، هو خُلاصة حديثٍ مُسهَبٍ للإمام السيّد عليّ الخامنئي دام ظلّه، جرى مؤخّراً (9 شهر رمضان 1432 هجريّة) بحضور حوالي ألفي جامعي، بينهم كبار الباحثين والأكاديميّين وأساتذة الجامعات الإيرانيّة.
في الشّطر الأوّل من هذا الحديث أجاب الإمام بصراحته المعهودة على سَيْلٍ من الأسئلة والآراء ووُجهات النّظر، تَتعلّق بعددٍ من القضايا الحيويّة السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والأمنيّة والتّربويّة والأخلاقيّة التي تعيشها الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، بعد نحْوِ اثنين وثلاثين عاماً من الثّورة الإسلاميّة المبارَكة.
أمّا الشّطر الثّاني من حديث الإمام الخامنئي، وهو ما وجدنا ضرورة لِنَشره في هذا المُلحَق، فيتناول قضيّة في غاية الأهميّة؛ وهي قضيّة ثبات الثّورة والنّظام في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة واستمرارها، حيث عَرَضَ للعوامل الإيمانيّة والفكريّة والمعرفيّة والثّقافيّة التي شكَّلت أساس البناء الحضاري والتّقدُّم الذي أحرزَتْه إيران وشعبها على مدى ثلاثة عقود متواصلة.
في السِّياق نفسه، أجرى الإمام القائد مقارنات معرفيّة وتاريخيّة بين الثّورة الإسلاميّة في إيران والثّورات الكبرى التي حدَثَت في القرنَيْن الماضيَيْن، وبَيَّن المزايا الإلهيّة والأخلاقيّة التي جعلت من الثّورة والدّولة في إيران ظاهِرة استثنائيّة؛ إذ مِن مقاصد الثّورة الإسلاميّة وأهدافها الكُبرى أنّها أعادَت الإعتبار إلى القِيَم الإلهيّة والإنسانيّة العُليا، سواءٌ على مستوى البناء الحضاري، أم في مواجهة الإستكبار العالمي، وحِفْظ استقلال البلاد، وإرجاع الكرامة إلى الإنسان، والدِّفاع عن المظلومين وقضاياهم على صعيد الأمّة الإسلاميّة وفي بلدان العالم كافّة.
وسيجِد القارئ العزيز في هذا المُلحَق-الوثيقة، ما يُمكن أن يُشكِّل بياناً حضاريّاً وإنسانيّاً لرؤية الإسلام إلى مستقبل المنطقة والعالم، حيث يُركِّز الإمام الخامنئي على إيلاء العِلم والتّقدُّم المعرفي الأهميّة العظمى في إنجاز المشروع الحضاري الإسلامي في القرن الحادي والعشرين.
وإذ تُقدِّم «شعائر» هذه الوثيقة المهمّة من حديث السيّد الإمام، تدعو الأخوة القرَّاء من المثقَّفين في الأوساط الأكاديميّة والفكريّة إلى المساهمة في نقاش الأفكار الواردة فيها بما يخدم عالم المعرفة والثّقافة الإسلاميّة الأصيلة.  
    

  «شعائر»

نَصّ الخطاب

المَطلَب الذي أريد التّعرُّض له، هو في الواقع بداية انطلاقة بَحْثٍ يجب عليكم أيّها الشباب متابعته في محافلكم إن شاء الله.
 في الأشهر السَّبعة الماضية أَشرتُ في عدّة كلمات إلى ثبات النِّظام والثَّورة، وقلتُ إنّ هذا الثَّبات والإستمراريّة والإستقرار لِنظام الجمهوريّة الإسلاميّة كان من أهمّ العوامل التي جعلت شعوب المنطقة والشُّعوب الإسلاميّة تعيش الأمل، ويُمكن القول إنّه أدّى دوراً مؤثِّراً في إيجاد هذه الحركة الإسلاميّة العظيمة في المنطقة، وتلك الحرِّيّة واليَقَظة.
وأُريد اليوم أن أتعرّض بشيءٍ من التفصيل لثبات الثّورة واستمرارها واستقرارها.

الثورات بين الثبات والتحوّل

تَحدُث التّغيُّرات الكبرى في المجتمع، ومن نماذجها البارزة الثّورات السِّياسيّة والإجتماعيّة. فمَن هو الذي يُوجِد هذه التّغيُّرات؟
هناك جيلٌ يحقِّق ذلك، وهو بالطّبع نتاج ظروفٍ عاشها لم تَتَسنَّ للجيل الذي سبقه أو للأجيال التي سَتَليه، كما حدث في الثّورة الإسلاميّة. وهنا سيَتحقّق أحد أمرين:
1. إمّا أنّ الأجيال اللّاحقة ستلتزم بما حقّقه هذا الجيل من تغييرٍ، وتُكمِّله وتستمرّ عليه. وفي هذه الحالة، يبقى هذا التيّار مستمرّاً، فيتحقّق قوله تعالى: ﴿..وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض..﴾ الرعد:17 أيْ أنّ هذا التيار يَستقرّ ويَثبت. (وعندما نقول الأجيال لا نعني بالضّرورة المسألة العمريّة، بل أولئك الذين يَستلمون زمام الأمور من المجموعة الأولى، والذين يمكن أن يكونوا من مرحلتها العمريّة نفسها).
2. وإمّا أنّ الأجيال اللّاحقة -وتحت تأثير عوامل متعدّدة- لن تُتابع الأمر، وتُبتلى بالرُّكود أو الإنحراف والإنزواء. في مثل هذه الحالة، سيتوقَّف هذا التَّغيير عن تقديم المنافع للنّاس، وتَقَع الأضرار والخسائر فيه، ولا يُمكن تعويض ذلك فيما بعد.
كلّما أمعنتُ النَّظر في التَّحوُّلات التي حدثت طيلة القرنَين الأخيرَين -وهي مرحلة الثَّورات الكبرى- لم أجد مورداً واحداً يُشبه الثّورة الإسلاميّة -وأنتم تحرّوا بأنفسكم لعلّكم تَجدون موارد أخرى- حيث استمرَّ التَّحوُّل الذي تَحقّق في المرحلة الأولى، طوال المراحل والعقود اللّاحقة، شكلاً وأهدافاً وشعاراتٍ وتموضُعاً.
فإمّا أنّ تلك التّغيُّرات لم تَدُم كما حصل في الثّورة البلشفيّة، وإمّا أنّها دامت، ولكن على فتراتٍ من الزَّمن، ومصحوبةً بالمرارات والشّدائد والمصاعب الهائلة، كما كان حال الثّورة الفرنسيّة الكبرى أو استقلال أميركا، سواء عبّرنا عنها بالثّورة أم أيّ شيء آخر.
لقد تحقّقت الأهداف الأساسيّة لتلك الثّورات في النّهاية، ولكن بعد مشاقّ هائلة وبِفاصلٍ زمنيٍّ طويل، كما حَدث في الثّورة الفرنسيّة الكُبرى؛ ويُقال «الكُبرى» لتمييزها عن الثّورات الأخرى التي قامت بعد هذه الثّورة على مدى الخمسين أو السِّتين سنة في ذاك البلد؛ نعم إنّ تلك الثّورة الأولى كانت الأهمّ والأكثر تأثيراً وقد وَقَعت عام 1789 -ولأجل أن تبقى في ذاكرتكم فهو: ألْف بعدها سبعة، ثمانية، تسعة وهو عام الثّورة الفرنسيّة الكبرى- ضدّ الحكومة المَلَكيّة الفرنسيّة، مثلما حدث في إيران.
تلك الأسرة المَلَكيّة التي كانت تَحكم فرنسا في ذلك الوقت كانت أكثر تجذُّراً واقتداراً من أسرة بهلوي المنحلّة، أُسرة «البوربون»، والتي حكمت فرنسا لسنوات، وكان من بينهم أباطِرة فائِقي القدرة. هذه الثّورة وقعت كما ذكرت عام 1789 ميلاديّاً.

التحوّل في ثوراتٍ عالميّة

كانت الثّورة ثورة شعبيّة بكلِّ ما للكلمة من معنى؛ فالشَّعب في الواقع هو الذي تواجد في السّاحات -كثورتنا- وكان القادة شعبيِّين مائة بالمائة، يمتلكون أفكاراً جديدة، وكانوا يَسعون لتشكيل مجتمعٍ شعبيّ. ولا شكّ أنّ منطلقاتهم لم تكن عقائديّة ومُؤدلَجة، ولكنّهم كانوا يريدون إقامة حكومةٍ منبثقة من إرادة الشعب وتحظى بتأييده.
 هذه الثَّورة حدثت في تلك السَّنة، ولكن على امتداد ثلاث أو أربع سنوات، تمّ تَنْحية تلك الجماعة الأولى التي قادت الثّورة جانباً على يد مجموعةٍ متشدِّدة مُتطرِّفة، وتمّ إعدام بعضهم. ثمّ أمْسَكت هذه المجموعة المتشدِّدة بزمام الأمور لمدّة أربع أو خمس سنوات، وبسبب تشدّدها مع النّاس قام هؤلاء بمعارضتها ومن ثمّ تنحيتها وإعدام عددٍ من رجالاتها، لتأتي مجموعة ثالثة وتستلم زمام الأمور. أيْ أنّه وخلال 12 سنة، حتى سنة 1800، تعاقبت ثلاث جماعات على السُّلطة، وقامت كلّ جماعة باقتلاع وإبادة وقَمْع مَنْ سَبَقَها.
ففي تلك السَّنوات الـ 11 الأولى، تمّ إعدام شخصيّات سياسيّة معروفة من الجماعات الثّوريّة. ولاحقاً عمّت الفَوْضى -من البديهي أنْ تعمّ مثل هذه الفوضى في بلدٍ بهذه الخصائص- فَتَعِبَ النّاس، إلى أن تمّ تشكيل جماعة من ثلاثة أشخاص، وكان نابليون أحدهم؛ فقد كان نابليون ضابطاً شابّاً قد غزا مصر -قصص الغزو كثيرة ومفصّلة- فنال مزيّةً صَيَّرته حاكماً على هذه المجموعة، ليتحوّل فيما بعد إلى ملكٍ وإمبراطور.
هذه الدَّولة التي كانت قد تحمّلت كلّ تلك الخسائر من أجل الإطاحة بالملكيّة، فأَعدَمت لويس السّادس عشر وزوجته، تَحوّلت من جديد إلى ملكيّة يتزعّمها نابليون.
كان نابليون رجلاً عسكريّاً قويّاً ونشِطاً، وقد حقَّق لِفرنسا إنجازات كبرى. كانت له إنجازات غير عسكريّة، لكنّ جُلّ إنجازاته عسكريّةً، فقد قام بإلحاق عدّة دُوَل أوروبية بفرنسا، وجعل إيطاليا وإسبانيا وسويسرا جزءاً منها، احتلّ عدّة دُوَل أوروبيّة وجعلها جزءاً من بلاده. لكن بالطّبع، انفصلت هذه الدّول الواحدة تلو الأخرى بعد رحيله، أي أنّ فتوحاته آلت إلى الزَّوال.
هذا البلد الذي تحمّل كلّ تلك الخسائر من أجل الثّورة، فحازَ على نظامٍ جمهوري، عاد مرّة أخرى وبسهولة ليُصبح نظاماً مَلَكِيَّاً، واستمرّ هذا النظام الملكي قرابة 50 عاماً بعد نَفْي نابليون وموته حوالي العام 1815، كلّ ذلك مصحوباً بتحوّلات شاقّة ومذلّة ومريرة، وأنتم إذا قرأتم روايات القرن التاسع عشر الفرنسيّة -من قبيل روايات فكتور هوغو وبلزاك وغيرهما- ترون فيها بوضوح مصاديق ما عاناه الشَّعب الفرنسي من المرارات والمصاعب والإبتلاءات.
فيما بعد، في سنة 1860 ونيّفاً، قامت ثورة أخرى مجدّداً وتمّت تنحية نابليون الثالث -من أنسباء نابليون الأوّل- وتشكّلت حكومة جمهوريّة، ثمّ تعاقبت الجمهوريّات من الأولى إلى الثّانية إلى الثّالثة، إلى أنْ وَصل الأمر إلى فرنسا التي تَرَونها اليوم؛ أيْ نظام جمهوري وديمقراطي. لقد عانت الثّورة الفرنسيّة من كلّ تلك المرارات، فلم تكن من بداية نُشوئها تَمتلك تلك القدرة والإمكانيّة بحيث تستمرّ وتثبُت بين أهلها.
هذه الحقيقة نلحظها -تقريباً- في كلّ التّحوُّلات التي جرت طوال القرنَين الماضيَين.

الثورة الأميركيّة

هذه القضيّة نفسها حَدَثَت في أميركا. وَقعَت الثّورة الأمريكيّة -وهو ما يُصطلح عليه بتحرير أميركا من الإنكليز- قبل الثّورة الفرنسيّة ببضع سنوات، في سنة 1782، ولم يكن عدد سكّان أميركا حينها يزيد عن خمسة ملايين نسمة.
 نَشأَت تلك الحركة، وأُقيمت دولة، واستلم زمام السُّلطة شخصيّات -كجورج واشنطن المعروف، وغيره وغيره- لكن حدث عندهم ما حدث في فرنسا.
 وبعد ذلك التّحرُّك الأوَّليّ الذي جرى، عانَى الشَّعب الأمريكي من المِحَن والحروب الأهليّة الهائلة والمُتعاقبة وفي أحد تلك الحروب الأهليّة -وهي أهمّ حرب أهليّة بين الشّمال والجنوب؛ في الواقع بين الشّمال الشّرقي والجنوب الشّرقي، لأنَّ غرب أميركا لم يَكُن حتى ذلك الحين تحت سُلطة هذه الدَّولة-، وخلال أربع سنوات قُتل ما لا يقلّ عن مليون شخص؛ وبالتّأكيد، لم يَكن في ذلك الزَّمان إحصاءات دقيقة، فأولئك الذين كَتبوا وتَحدّثوا يقولون هذا. حتىّ وصل الأمر بالتّدريج، وبعد مرور مائة عام، إلى استقلال أميركا، وحَصَلت تلك الدَّولة على استقرارها، وتمكّنت من الإستمرار على نفس تلك الوضعيّة السَّابقة.
إنّ قصص الجرائم التي وَقعت والفجائع التي جَرَت بواسطة أولئك الحكّام وأتباعهم وجيوشهم هي قصصٌ مؤلمة وطويلة وعجيبة: غزو الدُّول المجاورة، والإعتداء على السكّان الأصليِّين -وهم من الهنود الحمر- واقتلاع القبائل الهنديّة وقَمْعها.

إنّني لآسف أنّ شبابنا لا يعلمون عن هذه القضايا. فعندما يعلم الإنسان مدى التّخريب والفظائع والقسوة والظُّلم الذي كان وراء مدنيَّة اليوم، والتَّطوُّر والثَّروات التي تحقَّقت في هذه الدُّوَل، عندها ستَتَّسع آفاقه في ما يتعلّق بما ينبغي أن يقوم به وما هو تكليفه.

الثّورة في الإتّحاد السُّوفياتي

وفي روسيا، حَدَث الأمر بِنَحوٍ آخر. فالأهداف التي رُسمت في ذاك البلد -وهي أهدافٌ عقائديّة وأيديولوجيّة- لم تتحقّق.
في الأساس تمّ الإدّعاء أنّ حكومة روسيا هي حكومة شعبيّة جماهيريّة إشتراكيّة؛ أي أنّ الحكومة شعبيّة جماهيريّة تَقُوم على أكتاف النّاس وتَلتزم بتلبية احتياجاتهم، وقد نُقض هذا الأمر منذ السّنوات الأُولى. فلم تمرّ على سنة 1917، التي هي سنة الثّورة، خمس أو ستّ سنوات حتى تغيّر الطريق وتمّ حذف الشّعب من حسابات الحكومة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وصار الحزب الشيوعي بأعضائه، الذين يبلغون عدّة ملايين، هو الحاكم. وكان يَترأَّس ذاك الحزب عدّة أشخاصٍ بعينهم في كلّ عهدٍ. ففي عهد ستالين لم يَكُن الحاكِم سواه، أمّا في العهود اللّاحقة، فإنّ الهيئة التّأسيسيّة للحزب الشيوعي كانت تُدير جميع الأمور. لقد عانى الشَّعب من الضُّغوط التي مُورِست عليه، ومن القيود، ومن الإبتلاءات.
في تلك العهود، كانت تَتَسرَّب من داخل الإتّحاد السُّوفياتي كتابات إلى الخارج، وكان بعضها يُترجَم إلى اللّغة الفارسيّة وكنّا نُطالعها. وإلى ما قبل سُقوط الإتّحاد السّوفياتي، كان الكثير من تلك الجوانب الشاقّة والمُرّة مخفيّاً، ثمّ تَبيّن كلُّ شيء بعد انهياره، واتَّضح ما كان يفعله ذلك الحزب، والأغلال التي كان يُكبِّل بها الشّعب. تلك الأدبيّات التي ظهرت في تلك الفترة تدلّ على شقاءِ حياة ذلك الشّعب تحت ذاك الحُكم. فالثّورة قد انحرفت منذ البداية بشكلٍ تام. لا أنّها لم تَثْبُت، بل إنّها لم تُنفِّذ وعودها الأولى.

ما يُشبه الثَّورات

وكان هناك ما يُشبه الثَّورات في منطقة الشَّرق الأوسط -بشكلٍ أساسي في شمال إفريقيا- أو في أميركا اللّاتينيّة. لكنّها لم تكن ثورات، بل في الأغلب عبارة عن إنقلابات. وفي أواخر الخمسينيّات وأوائل السِّتينيّات، حَدَثت تحرّكات ثوريّة في بلاد شمال أفريقيا -أي في مصر وليبيا والسّودان وتونس- كانت ذات ميول يساريّة. وكانت جميع هذه البلاد بلداناً ثوريّة؛ وما خلا بعض الإستثناءات المحدودة، فإنّ الذين كانوا من المؤسِّسين للثَّورات انحرفوا عنها. فكانت الثَّورات يساريّةً معادِيَة لأميركا وبريطانيا وفرنسا، وقد تمَّ استدراج الجماهير إلى السَّاحات على هذا الأساس، لكنْ أولئك الذين كانوا يَترأَّسون هذه الثّورات -أنفُسَهم- انحرفوا من النّاحية العمليّة وسقطوا مرّةً أخرى في أحضان القوى الإستعماريّة!
أحد هؤلاء هو «بورقيبة» التّونسي. كان بورقيبة قائد الثّورة التّونسيّة، وفي الأساس هو مَنْ صَنَع هذه الثّورة، لكنّه تَحوّل إلى أداةٍ بِيَد الغرب وفرنسا، فتَحرّك في ذلك الإتّجاه؛ ثمّ  لَحقه بعد ذلك «بِنْ علي».
أمّا في مصر، فقد كان أنور السادات مِن مُساعدي جمال عبد الناصر، ومِن أولئك الذين صَنعوا تلك الثورة؛ «ثورة الضبّاط الأحرار» وفق تعبيرهم. كانت حركة الضبّاط الأحرار في زمان عبد الناصر تَحمل شعار استنقاذ فلسطين، لكنّ أمرَهم آل إلى أن يُصالحوا مَنِ اغتَصَب فلسطين وأن يَتآمروا على شعبها، ووَصَل بهم الأمر مؤخّراً إلى التّعاون مع الصَّهاينة لمُحاصرة فلسطين وغزّة وإبادة شعب فلسطين! أي أنّهم انحرفوا عن ذلك 180 درجة عن انطلاقتهم الأولى.

وفي السّودان، يبدو أنّكم لا تتذكّرون شيئاً عن «النُّميري». نحن نتذكّر مجيئه إلى السُّلطة. لقد كان النُّميري -في الواقع- ضابطاً ثوريّاً خلَّص السّودان من يد الغرب. لكنّه وبالتّدريج سار باتّجاه الغرب ليتحوّل إلى أحد عملائه وأدّى ذلك إلى أن يقوم الثوريّون -الذين يستلَمون زمام الأمور في السّودان اليوم- ضدّه ويُخلِّصوا البلد منه. «جعفر النُّميري» الذي قام بانقلابٍ ضدّ حكومةٍ غربيّة، تَحوّل بالتّدريج من مُعادٍ للغرب إلى عنصرٍ غربيّ يَستخدمه الغرب ويعمل لمصلحته، فأصبح عميلاً للغرب! والباقون كانوا على هذا المنوال.
إنّني أذكر عندما كنتُ في «مشهد» في ستينيّات القرن الماضي، كنّا نتلقّى إذاعة «صوت العرب» المصريّة، في زمن عبد الناصر، ونستمع إليها. ذهب جمال عبد الناصر إلى ليبيا، وبصحبة هذا «القذّافي» نفسه -الذي كان حينها شابّاً لم يَتجاوز الـ 29 وقام بانقلاب عسكري- وجعفر النُّميري، ثلاثتهم كانوا يتحدّثون عبر إذاعة صوت العرب المصريّة، وكانوا يَنطقون بكلماتٍ ثوريّة وحادّة.
 نحن في الأغلب كنّا في خضمِّ النِّضال، وكان الإستماع إلى تلك الإذاعة مخالِفاً للقانون. كنّا مع بعض الأصدقاء -وأحدهم كان يمتلك جهاز راديو- نذهب ليلاً إلى أحد البيوت، ونستمع معاً إلى إذاعة «صوت العرب».
كانت الحركات على هذا النَّحو. أي أنّ الثّورات ولأسبابٍ متعدّدة، إمّا أنّها انحَرَفَت منذ البداية أو بعد ذلك بقليل. وأحياناً كان هذا الإنحراف يَستغرق عشرات السِّنين. وفي بلدٍ كَفَرنسا استغرق هذا الإنحراف أكثر من سبعين سنة، حتّى تمكّن بالتدريج من تحقيق جزء من الأهداف، وليس جميعها.



الثَّورة الإسلاميّة استثناء


الثّورة الإسلاميّة كانت استثناءً. فقد كانت الثّورة الإسلاميّة حركةً ذات أهداف محدّدة، وإن كانت تلك الأهداف التي حُدّدت في بعض الأحيان كلّيّة، واتّضحت بالتّدريج وتبلوَرَت وشُخِّصت مصاديقها؛ لكنّ تلك الأهداف كانت أهدافاً واضحة. كان الهدف هو الإسلام ومواجهة الإستكبار، وحفظ استقلال البلاد، وإرجاع الكرامة للإنسان، والدِّفاع عن المظلوم، والتطوّر، والسُّموّ العلمي والتِّقني والإقتصادي.
هذه كانت أهداف الثّورة.
 عندما يتأمّل المرء في أقوال الإمام رضوان الله عليه، وفي الوثائق الأساسيّة للثّورة، يَرى أنّ كلّ تلك الأمور لها جذورٌ في المصادر الإسلاميّة. فالجماهيريّة [الكَوْن مع الجمهور والنّاس] والإعتماد على إيمان النّاس وعقائدهم ودوافعهم وعواطفهم، كانت ركناً مِن أركان الثّورة الأساسيّة. اليوم يكون قد مَرّ على الثّورة أكثر من 32 سنة؛ وقد استمرّ هذا الخطّ، ولم يَنحرف ولم يَمِل، وهذه حقيقة مهمّة جداً.
هذا هو معنى الثّبات والإستقرار في الثّورة الذي نتحدَّث عنه.
 لقد قلنا كلمةً واحدة: ﴿إِنَّ الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا..﴾ فصلت:30، لقد قال شعب إيران «ربُّنا الله» والتزمَ هذا القول.
 إنتقل التَّمسُّك بهذا القَوْل من جيلٍ إلى جيل. وأنتم -الشَّباب الذين ألقيتم اليوم [في هذا اللِّقاء] هذه الكلمات بنشاطٍ فائق، وحماسٍ وحيويّةٍ وصدقٍ، في هذا المكان- من المحتمل أنّه لم يكن أحدٌ منكم قد وُلِد عند بداية الثّورة، ولم تعيشوا عهدها، ولم تشاهدوا تجربة الحرب، ولم تدركوا زمن الإمام، ولكنّ الخطّ هُوَ هوَ، والطّريق هو ذاك الطّريق، والأهداف هي تلك الأهداف إيّاها، وما يُقال الآن هو ما لو أردنا أن نقوله في ذلك الوقت، كنّا نقوله.
 لقد كنت آتي إلى جامعة طهران مرّةً كلّ أسبوع، وكنّا نعقد اللّقاءات مع الجامعيّين ونُصلّي، وبعد الصّلاة كانت الخطبة والإجابة عن الأسئلة، وقد استمرّ هذا الأمر مدّة طويلة.
تلك الكلمات التي كانت تَصدر في ذلك الوقت منّي ومن الجامعيّين هي نفس هذه الكلمات الآن، وبالطّبع إنّها اليوم أكثر نُضجاً ودقّة وخبرةً. وهذه المشاعر هي بمستوى تلك المشاعر والأحاسيس نفسها، ولكن العقلانيّة في المطالب التي تُطرح اليوم داخل البيئة الجامعيّة أكثر ممّا كانت عليه في ذلك الوقت، ومثلُ هذا الأمر له قيمة عالية جدّاً.
حسناً، هذا ما تَحقَّق لحدّ الآن، فماذا بعد؟
ما أُريدُ قَوْله أَختصره بجملةٍ واحدة:

 إنّ تكليف جيل الشّباب الحالي -وخصوصاً الجامعي- من الآن فصاعداً، هو الإستمرار والتّقدُّم بهذا الخطّ بنفس هذا التّوجُّه نحو المزيد من التَّكامل.

 هذا ما يُشخِّص تكليفنا على الصعيد الجامعي.الأمر مُوكَلٌ إليكم.
 ذاك الجيل الذي كنّا ننتمي إليه وننشط بمعيّته، ونمتلك فيه قوّة الشّباب، وأَنفقنا فيه شبابنا، قد اتّجه نحو الإضمحلال مثل جميع الأشياء في هذا العالم التي تَتَّجه نحو الفناء والزَّوال. والجيل الذي سُلِّمت إليه هذه الحقيقة اليوم، هو أنتم شباب اليوم وجامعيّوه. في المستقبل ستُلقى مسؤوليّات البلاد على عاتقكم. سوف تكونون أنتم أصحاب القرار وواضعي الخُطَط لهذا البلد. يمكنكم أن تستمرّوا على هذا الطَّريق، وتوصلوه إلى كماله، وتستفيدوا من تلك الطَّاقات التي لم يتمّ الإستفادة منها، وتَملأوا الفراغات، وأنْ تزيلوا جميع المسائل التي تدْأبون -وأنتم محقّون في ذلك- على ذكرها تحت عنوان هذا الإشكال وتلك المشكلة، وانتقاد هنا وآخر هناك. ويمكنكم أيضاً -في المقابل- ألّا تؤدّوا هذا العمل.
جيل شباب اليوم يمكنه أن يتّخذ قراراً بالتّخلي عن مسؤوليّته، لكنّه -بالطبع- لن يتّخذ هكذا قرار. أنا لا أَشكّ بذلك. فجيل الشّباب، ولِتَجَذُّر هذه الحركة الدِّينيّة واستِحكام أركانها الإعتقاديّة، سيَستمرّ على هذا الطّريق. لأوّل مرّةٍ في تاريخ الثّورات المختلفة في العالم، قامت ثورةٌ سوف تَعرض نفسها للعالم وسوف تَستمرّ على شعارها الأوّل وأصولها وقِيَمها الأساسيّة بكلّ وجودها وبدون توقّف، وإن شاء الله سوف تتوصّل إلى أهدافها النّهائيّة.

ها أنتم في الأُطُر الجامعيّة وأنتم الزُّبدة والنُّخَب الجامعيّة؛ وأنتم في الواقع باقةٌ من هذه الفئة العظيمة التي تُناهز عدّة ملايين في البلد قد اجتمعتم هنا. عليكم أن تتّخذوا القرار.
إعلموا أنّ هذه الحركة المُباركة والقائمة على القِيَم مرتبطةٌ بدوافعكم، وهِمَمكم، وشجاعتكم، وقدرتكم، وأفكاركم، وعزمكم الرّاسخ. أنتم الذين ينبغي أن تُكملوا هذا المسير.


لم نَحِد عن أهدافنا

الحمدُ لله إنّ الثورة -وإلى يومنا هذا- قد تقدّمت بشكلٍ جيّد. وكما قلتُ، إنّنا لم نَنحرِف عن الأهداف، ولم نَمِل في مسيرنا. لم تُعانِ ثورتنا من المصائب التي نَزلت بتلك الثّورات العُظمى والكُبرى. لقد وَقَعت أحداثٌ كثيرة وتَمَكَّنت هذه الثّورة من التَّغلّب عليها في كلّ مكان، وبموازينها الخاصّة تَمكنّت من الحفاظ على نفسها، والإستمرار على طريق التّكامل إلى يومنا هذا.
 إنّ الثّورة قد تقدّمت بهذا البلد. هذا التّطوُّر الذي تشهدونه اليوم في القطاعات المختلفة في البلاد -حيث أشرتُ إليه في كلمتي مع مسؤولي النّظام قبل أيام بشكلٍ مختصر- لم يَكُن له أيّ نظير في أيّ زمنٍ في القرون الأخيرة على صعيد بلدنا. بالتّأكيد، كان له مثيل في الأيّام الخالية وفي التّاريخ، وهناك موارد شبيهةٌ به بمقتضى زمانها؛ ولكن في القُرون الأخيرة لم يكن له نظير.
أنتم قد أَوصلتُم البلد إلى هنا، ويجب أن يَتقدَّم البلد. ونحن ما زلنا في أوّل الطّريق نخطو خطواتنا الأولى. وقد قلتُ إنّ مِن المميّزات الكُبرى للثّورة هي صناعة القُدْوة. أنتم يمكنكم أن تُواصِلوا هذا الهدف من أجل أن تَصنعوا للمجتمعات الإسلاميّة قدوةً، فتقولون عندئذٍ للآخرين: تحرّكوا بهذا الشَّكل. تَصِلون بهذه الطريقة، فهذا ممكنٌ.
الأُطر الجامعيّة لها دورها بالتّأكيد. ووصيّتي الأولى إلى جميع هذه الأُطر الجامعيّة التي تُفكّر في المجالات المتعلِّقة بالجامعة والبلد والثّورة وبقيّة المسائل، هي:
عندما تَنظرون إلى الجبهات المُخالفة؛ أي الإستكبار، وجبهة الظُّلم، وجبهة الرَّأسماليِّين الدوليِّين، والكارتيلات، والشَّركات الإحتكاريّة، وغيرها... أُنظروا إليها على أنّها جبهةٍ واحدة.

هناك جبهةٌ واحدة متّصلة تواجه الثّورة الإسلاميّة التي هي ثورةٌ معنويّةٌ ودينيّة وثقافيّة وعقائديّة. عندما تَنظُرون إليهم على أنّهم جبهة واحدة متّصلة، فإنّ الكثير من أعمالهم سَتَظهر على حقيقتها.

 هذه القضيّة تُشخِّص واجب الجامعي، أو الأُطُر الجامعيّة.
مثلاً: هناك عمليات اغتيال قد وَقَعت في البلد؛ حيث تمّ اغتيال الشّهيد علي محمّدي، والشّهيد شهرياري، والشّهيد رضائي نجاد.
 هذا عملٌ إرهابي. أحياناً، نَنظر إلى مثل هذه القضيّة بمنظار أّنّها عملٌ إرهابيٌّ يُهدّد الأمن؛ لا بأس، هنا يَتَجرّع المرء الغُصَّة، فعدّةٌ من علمائنا استهدفهم العدوُّ بإجرامه من قِبل بضعة إرهابيِّين. وأحياناً، لا يكون الأمر كذلك، بل نَنْظر إلى هذه الإغتيالات بمِنظار «الجبهة المتَّصلة»: أيْ أنّ هذه الإغتيالات تأتي في سياق التّحرُّكات المُعادية ضدّ النِّظام الإسلامي. فعلى سبيل المثال، في الجبهة على الحدود مع العراق -حيث كنّا في حربٍ لمدّة ثمان سنوات- إذا كان هناك قصفٌ مدفعيٌّ للعدوّ في مكانٍ ما، لا يعني ذلك أنّ العدوّ يَهتمّ بهذا المكان بالخصوص؛ بل يعني أنّ هناك حركة يقوم بها العدوّ هنا، ومن المُحتمَل أنّه يريد إلهاءكم بهذا المكان من أجل أن يَهجم في مكانٍ آخَر -وبتعبيرهم هي أعمال دعم وإسناد، لكنّها في الواقع حيلة-، أو لأجل أن يُضعِف مقاتلينا في هذا المكان، حتّى يَتَمكَّن على سبيل المثال من القيام بهجومٍ شاملٍ. عندما تَنظرون بهذه العَيْن، سيتّضح أنّ العدوّ بِصَدد القضاء على الحركة العلميّة في البلد؛ أي أنّ هذا الأمر مِن حلقات مؤامرة العدوّ. فهناك حلقاتٌ متّصلة ومتسلسلة كحلقات الحَظْر الإقتصادي، وإشاعة الإبتذال، وترويج المخدّرات، والأعمال الأمنيّة، وإيجاد التَّزلزُل في المباني والقضايا العقائديّة، سواءً كان على صعيد الإعتقاد بالإسلام أم بالثّورة. هذه كلّها حلقاتٌ متعدّدة ومتّصلةٌ؛ وإحداها أيضاً -التي تكمّل هذه السلسلة- هي عبارة عن القضاء على الحركة العلميّة في البلد من خلال إرعاب علمائنا وتَصفيتهم. فلننظُر بهذه العَيْن إلى القضيّة.

لوْ نَظرنا إلى الأعداء مجتمعين بمنظار جبهةٍ متكاملةٍ قد قَسَّمت المَهام على أفرادها، عندها سيَتَّخذ شعورنا بالمسؤوليّة في كلّ قضيّةٍ شكلاً جديداً.

وهنا في قضيّة هذه الإغتيالات نفسها، إنّني أعتقد بأنّ المنتسبين إلى الأُطُر الجامعيّة قد قَصَّروا فيها، أيْ أنَّهم لم يُظهروا العمل المطلوب. كان عليكم أن تُكبِّروا القضيّة. وبالتّأكيد، لا يعني ذلك تضخيمها -لأنّها بذاتها كبيرة- بل أنْ تُظهروها على حقيقتها. ونحن لمْ نُشاهد حتى داخل أُطُرنا [الجامعيّة] أيّ يافطة أو مُلصق لهؤلاء الشُّهداء. لم يُطبع أو يُنشر أو يُوزّع ما يَحفظ ذِكراهم. لا يجوز. هذا الموضوع يجب أن لا يُنسى أبداً. ما حدث لم يكن شيئاً عابراً.


ثِمار الحركة العلميّة

إنّ قضيّة العِلْم في البلد هي حلقة من تلك السِّلسلة، حيث إنّ هذه الحلقة تَرتبط مباشرةً بتلك النُّقطة الأساسيّة التي كنّا نتابعها طيلة اثنتي عشرة سنة.
 قُلنا [في الرواية]: «العِلم سُلطان، مَن وَجدهُ صالَ به، ومَن لم يَجِدْهُ صِيلَ عليه».
 وهو [العلم] اقتدار، وكلّ مَنْ يَحوزه وطِبق هذه الرّواية «صالَ»، حيث يمكنه أن يكون مؤثِّراً على العالم، أي أنْ يُتابع أهدافه.
وكلّ مَنْ لم يَملكه «صِيلَ عليه»، أيْ سوف يكون محكوماً.
 هذا هو مَنطقنا في هذه الحركة العلميّة طيلة السَّنوات الخمس عشرة تقريباً. والآن لِحُسن الحظّ، إنّ هذه الحركة العلميّة في البلد قد أَثمَرت إلى حدٍّ كبير. وهم يريدون إيقافها؛ عليكم أن تُظهروا حساسيّةً تجاه هذا الأمر.
النَّظَر إلى العدوّ يَنبغي أن يكون من هذا المنظار: النَّظَر إلى حركة العدوّ كَجبهة. وعندها فإنّ دعمهم لبعض التّيّارات، وهجومهم على البعض الآخَر، وتَدخُّلهم في بعض الشُّؤون الدّاخليّة للبلاد سوف يتّضِح؛ ويُعلَم الهدف منه.
إنّ هذه القضيّة توجِب علينا أن نكون حَذِرين تجاه ما يَقومون به.

ومِنَ الأمور التي أُريد أن أُوصي بها، في ما يَتعلَّق بالأُطُر الجامعيّة خصوصاً، هو أن تَنهض بجدِّيّة تامّة لإنجاز الأعمال الفكريّة والثقافيّة المُمَنهَجة والهادِفة والعميقة.

 في بعض الأوقات، يُهاجم العدوُّ السَّاحة الجامعيّة عَلَناً. هُنا يجب عليكم أن تَتواجدوا بشكلٍ علنيٍّ، كما حَدَث في قضيّة فتنة عام 1388 هجري شمسي [2009م] وأمثالها.
 وفي بعض الأحيان لا يكون الأمر كذلك، لا يُجاهر العدوّ بهجومه، فهنا يجب أن يكون حُضور الفِئات الجامعيّة ومشاركتها بالفِكْر العميق.
 يجب أن تقوموا بالأعمال المعمَّقة في ما يتعلّق بالقضايا الكلاميّة [الإعتقاديّة]، والقضايا الأخلاقيّة، والمَسائل التّاريخيّة، وقضايا الثّورة.
قُوموا بما يَنبغي تجاه القضايا المختلفة للبلاد، كالمسائل التي تحدَّث عنها الأصدقاء [في هذا اللّقاء]. فلنفترِض أنّكم تقومون بالأبحاث حول المصرف المركزي، أو نظام السَّلامة، أو ما يتعلّق بالجهاد الإقتصادي،  كلّ هذه أمور جيّدة جدّاً، ولكن لا تَكتفوا بها. ففي مجال القضايا الكلاميّة يجب القيام بالأعمال المُعمَّقة. وفي مجال المسائل السِّياسيّة للبلاد يجب القيام بالأعمال غير الإنفعاليّة.
 لا شكَّ بأنَّ العواطف والأحاسيس أمور جيّدة وهي طاهرة، ولا أُعارض بأيِّ شكلٍ من الأشكال إظهارها، ولا التَّحرُّك على أساسها خصوصاً للشَّباب؛ فليس من المُمكن ذلك ولا هو مطلوبٌ أن نقمع المشاعر؛ ولكن بعيداً عن قضيّة المشاعر والعواطف، فإنّ التّأمّل، والتّفكُّر، والتَّعمُّق في القضايا المختلفة ومن جملتها المسائل السِّياسيّة، أمرٌ مطلوب.

تجنُّب الإبتذال في الأعمال الثقافيّة والفنيّة
إنّ مِن الأشياء التي أُوصي بها جدّيّاً هي اجتناب الإبتذال في الأعمال الثّقافيّة والفنّيّة؛ إلتفتوا إلى ذلك.

 لديّ نماذج حَوْل ما أقول؛ بالطّبع، ليست من الحاضر بل تَرجع إلى حوالي 18 سنة. فقد اطّلعتُ في ذلك الوقت على أنّ مجموعة جامعيّة حَصَل في بعض مراسمهم في الجامعة مَظاهر من الإبتذال. حينها أَبرقتُ إليهم -فلم يكونوا مُنقطِعين عنّا- ولكنْ لم يتمّ الإهتمام إلى ذلك. وفيما بعد لم يكن للأمر تبعات جيّدة.
يجب أن يتمّ اجتناب الإبتذال الثّقافي والأخلاقي بشدَّة، وتجِب مواجهتُه.

 إنّ من سياسات العدوّ اليوم نَشْر الإبتذال.

 واجِهوا هذه السِّياسة الإستكباريّة. ومثلما أنّهم يُخطِّطون للحظر الإقتصادي، كذلك يفعلون بشأن ترويج الإبتذال.
مثل هذا ليس ادّعاءً وشعاراًً، بل هو نابعٌ من معلومات ونحن لدينا مثل هذه المعلومات. 

إنّهم يَجلسون ويُخطِّطون ويَضعون البرامج، ويقولون إنّه يجب ترويج الإبتذال بين الشّباب من أجل تحطيم مقاومة الجمهوريّة الإسلاميّة، وهم بذلك يُعطون للإبتذال بُعداً سياسيّاً.

 حسناً، يجب مواجهة هذه الأمور ومحاربتها، وبالتّأكيد يجب أن يكون ذلك بطريقةٍ صحيحة. لمثل هذا الصُّمود والمواجهة أهميّةٌ فائقة في مواجهة خُطَط الإستكبار.

وصيّتنا الأخرى هي أن تُظهِر الأُطُر الجامعيّة تعاوناً وتآزراً، وانسجاماً فكريّاً في ما بينها.

لا أُريد الآن أن أَقترح شيئاً بشكلٍ نهائي، ولكن يبدو للنّاظر [ضرورة] تأسيس مجمع للتَّنسيق بين هذه الأُطُر، حتّى تتحرَّك على مسارٍ واحد. وبالتّأكيد إنّ التّوجّهات العامّة واحدة تقريباً، وهذا أمرٌ جيّد.
 لا نريد أن نقول إنّ على هذه الأُطُر أنْ تَتخلّى عمّا تَتَفرّد به من خصائص، لِتُصبح متشابهة تماماً. كلّا، فلا إشكال في التّنوّع والخصائص المختلفة في كلٍّ منها، غاية الأمر أنّ من اللّازم أن يكون هناك نوعٌ من التَّنسيق في التّوجُّهات وفي التّقدُّم نحو أهداف الثّورة، لكي تَتَمكّنوا من التّأثير على البيئة الجامعيّة.
 يجب أن تَتَمكّنوا من التّأثير في هذا المحيط.
 ولِحُسن الحظّ أنّ البيئة الجامعيّة هي بيئة جيّدة. ولا يعني ذلك أنّها خاليةٌ من المشاكل، أو الإنحراف، أو الأخطاء، أو الزَّلّل؛ فأينَ هو المكان الذي لا توجد فيه مثل هذه الأمور؟ نستطيع أن نلحظ مثل هذا الزَّلل أو نُشاهدها في أكثر المجموعات والبيئات قداسةً؛ ولكن في الجُملة، إنّ البيئة الجامعيّة هي بيئة مليئة بالّنشاط، والسَّعي، والتّوجُّهات الدِّينيّة والإعتقاديّة، والتَّمسُّك بالمباني؛ ومثل هذا الأمر ثمينٌ جداً. هكذا هي بيئتنا الجامعيّة ويجب الإستفادة منها، وحتّى يتمّ التَّأثير عليها يجب أن تكون التّوجُّهات صحيحة.

وصيّتنا الأخرى، أنّ على المسؤولين الجامعيِّين في البلاد وكذلك على الأُطُر الجامعيّة السَّعي من أجل أن يُحقِّقوا الإنسجام والتَّعاضُد في ما بينهم.

 يَسمع المرء أحياناً أنّ مثل هذا التَّنسيق إمّا أنّه غير موجود، وإمّا أنّ هناك اختلافاً؛ حيث تَحدث بعض المشاكل، وقد أشار أحد الأصدقاء إلى حادثة «بوشهر» وغيرها. يجب التَّنسيق وإيجاد التَّآزر، لأنّ الأهداف واحدة وهي أهداف الثّورة. المسؤولون يَبذلون الجهود ويَسعون -وهذا أمرٌ مشهود- ويُفكِّرون بمقدار ما تَبلُغه أذهانهم وقدراتهم. وشباب هذه الأُطُر أيضاً جميعهم أصحاب دوافع وحماس وطهارة. هذه الفئات يجب أن تَتآزر في ما بينها.

ضرورة الإجتهاد في العلوم الإنسانيّة

وفي موضوع العلوم الإنسانيّة، حيث جرى الحديث عنها، أقول هذه المسألة: إنّ ما قُلناه بشأن العلوم الإنسانيّة وكرّرناه هو ما ذُكِر: يجب علينا الإجتهاد في باب العلوم الإنسانيّة، ولا ينبغي أن نكون مقلِّدين. ولكن افرضوا الآن أنّه تمَّ حذف فرعٍ من فروع العلوم الإنسانيّة من الجامعة، أو تمّ التّقليل منها، فإنّني لن أُبدي أيّ رأي بشأن هذه الأمور. لن أُعارض ولن أُؤيّد، فالأمر ليس من شأني، إنّه عمل المسؤولين. مِن المُمكن أن يرتأوا حذف بعض الفروع أو العكس، لستُ بصدد الحديث عن هذا الأمر؛ ولكنْ أدعو إلى أن يتمّ العمل بِعُمقٍ في باب العلوم الإنسانيّة، وأن يَسعى أصحاب الفكر والمعرفة في هذه المجالات.
 
أللَّهُمَّ! نُقسِم عليك بأوليائك أن تُنزِل بركاتِك وفضلَك على شبابنا هؤلاء.
أللَّهُمَّ! قرِّب بيئة الشباب في بلدنا يوماً بعد يوم من الأهداف والتّطلّعات الإسلاميّة.
أللَّهُمَّ! بحقّ محمّد وآل محمّد حقِّق آمال هؤلاء الشَّباب، وأمانيهم، وتفضّل بعنايتك على مسؤولي البلد وعلينا جميعاً من أجل أن نخطو قُدماً نحو هذه الأهداف.
أللَّهُمَّ! أَرِ هؤلاء الشَّباب الأعزّاء رَأْيَ العين كيف يكون المجتمع الإسلامي والبلد الإسلامي بكلّ ما في الكلمة من معنى.
سُرَّ، وَأَرْضِ عنّا الأرواح الطّيِّبة للشُّهداء والرّوح المطهّرة لإمامنا العظيم.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اخبار مرتبطة

  مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

نفحات