أحسن الحديث

أحسن الحديث

11/05/2020

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

 

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

تحوُّل المتكلّم من الغَيبة إلى الحضور

___ آية الله الشيخ جوادي آملي ___

 

لقد انتهت في العدد الماضي رحلتنا مع موجز تفسير السور القرآنية الـ 114، وكانت المنهجية المتّبعة هي: التعريف الإجمالي بكلّ سورة؛ سبب تسميتها، عدد آياتها، فضل تلاوتها، محتواها، ومختارات من التفسير الروائي لآيات منها.

ومتابعة منّا لرحلة التعرّف إلى الثقل الأكبر، ستكون وقفتنا القرآنية التفسيرية ابتداء من هذا العدد -بحول منه تعالى- مع آيات مختارة، نعرج في فضاءاتها الرحبة، مستفيدين من الكنز المعرفي الثري (تفسير تسنيم) للفيلسوف الإسلامي الكبير آية الله جوادي آملي حفظه المولى تعالى.

ومن آيات فاتحة الكتاب انتخبنا الآية الخامسة منها، وهي قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مستعرضين جانباً من تفسير سماحته لها.                                               «شعائر»

 

﴿إيّاكَ﴾: ضمير منفصل مفعول به، وهو مقدّم على الفعل ﴿نعبد﴾ لإفادة الحصر. إضافة الى ذلك فإنّ هنا في خصوص هذا المقام فائدة مهمّة تمّت ملاحظتها؛ وهي تقدّم المعبود على العابد والعبادة، وكما سيتّضح خلال البحث، فإنّ التوحيد الخالص يقتضي حصر المشهود بالمعبود، بحيث لا يُرى عندئذ لا العابد ولا عبادته، حتّى يتخلّص من آفة التثليث في المشهود، ويتجنّب من التثنية فيه أيضاً.                                                 

﴿نَعْبُدُ﴾: العبد، بمعنى الإنسان المملوك للغير، وإذا جرّدنا هذه الكلمة من الصفات الإنسانية، فإنّ معناها (الموجود ذو الشعور الذي هو ملك للغير)، وبهذا الاعتبار يُطلق على جميع الموجودات ذوات الشعور ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ مريم:93، وكلمة (العبادة) تفيد هذا المعنى أيضاً، وإن كان معناها يتغيّر تبعاً للاشتقاقات المتعدّدة واختلاف الموارد.                                                   

".." وبالعبادة لله يظهر الإنسان ويُثبت مملوكيّته لربّه، ولذلك لا تجتمع العبادة مع التكبّر ﴿..إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ غافر:60.                      

﴿نَسْتَعينُ﴾: وهي طلب العون، وهو بمعنى مطلق النصرة والمساعدة. ومفردات: المعاونة،  والمساعدة، والمظاهرة، والمعاضدة، جميعها بمعنى: (المشاركة في أداء العمل)، لكن في كلّ واحدة منها لوحظت جهة خاصّة، فالعمل الذي يقوم به عدّة من الناس بسواعدهم يسمّى مساعدة، وإذا قاموا به بأعضادهم سمّي معاضدة، وإذا اجتمعت أظهرُهم لتوجِد قوّة أكبر نسمّي ذلك العمل مظاهرة. وكلّ هذه العناوين مشتقّة من الجوارح، وأمّا العون والمعاونة فلوحظ فيها التقوية فقط دون ملاحظة أيّ صفة أخرى، ولهذا يعبّر بها عن مطلق (المساعدة والمشاركة في أداء العمل).

 

سرّ الالتفات من الغَيبة إلى الخطاب

في الآيات الأولى من سورة الحمد كان الكلام لنحو (الغَيبة)، وفي القسم الأخير من السورة الذي يبدأ بالآية محلّ البحث تحوّل إلى لسان الخطاب والحضور. وهذا التغيير في السياق يسمّى في العلوم الأدبية (البديع) بـ: (الالتفات من الغَيبة إلى الخطاب)، وهو مجرّد تفنّن في الأدب، ولأجل تزويق الكلام. وزمامه بيد المتكلّم، فإذا أراد أن يُضفيَ على كلامه نحواً من الجمال، ويجعله جذّاباً ولافتاً، فإنّه يفرض الشخص غائباً تارة، وأخرى يجعله مخاطَباً، لكن في هذه الآية الكريمة، ليس الالتفات من الغَيبة إلى الخطاب تفنّناً أدبياً محضاً كي يكون زمامه بيد المتكلّم، فيفرض اللهَ غائباً تارة، ويفرضه حاضراً تارة أخرى، بل إنّ زمام الأمر هو بيد المخاطب.

وتوضيح ذلك هو: أنّ فهم الأسماء الحسنى والاعتقاد بها في بداية هذه السورة لأجل دعوة الإنسان الغائب وجذبه إلى الحضور أمام الله سبحانه. فاذا ما ثبت لأحد أنّ الله سبحانه جامع لكلّ كمال وجودي فهو (الله)، وأنّ له ربوبية مطلقة على كلّ عوالم الوجود الإمكاني، فهو (ربُّ العالَمينَ)، وأنّ رحمته المطلقة قد وسعت كلّ شيء، فهو (الرّحمنُ)، وأنّ له رحمة متميّزة اختصّ بها المؤمنين والسالكين سبيله، فهو (الرّحيمُ)، وفي النهاية ستظهر مُلكيّته المطلقة لكلّ شيء في (يومِ الدّينِ)، فهو (مالكُ يومِ الدّينِ)، ولا موجود سواه أهلٌ للخضوع والمخاطبة، فاذا آمن الشخص بجميع هذه المعارف، فإنّ مثل هذا الشخص الذي كان غائباً لحدّ الآن، سيتحوّل من الغَيبة إلى الحضور، وسيرى نفسه أمام الله سبحانه، ويجد نفسه جديراً بالتخاطب معه.

إذاً فالاختلاف في المتكلّم الذي تحوّل من الغيبة إلى الحضور، لا في المخاطَب الذي لا يغيب أبداً، لكن الذي لم يدرك هذه الأسماء الحسنى أو لم يعتقد بها فليس جديراً بالخطاب، ولا يحقّ له أن يكون حاضراً أمام الله تعالى، لأنّه هو غائب، وإن كان الله سبحانه هو المشهود المطلق.

 

براهين حصر العبادة والاستعانة

إنّ الآية الكريمة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ تدلّ بوضوح على حصر العبادة والاستعانة بالله سبحانه، والأسماء الحسنى: (اللهُ)، و(ربّ العالمين)، و(الرحمن الرحيم)، و(مالك يوم الدين)، التي ذُكرت في الآيات السابقة إضافة إلى أنّ كلّا منها حدّ وسط في البرهان على إثبات الحمد وحصره بالله سبحانه، فهي أيضاً حدّ وسط في البرهان على «حصر العبادة»، و«حصر الاستعانة» به تعالى: مثلاً، بالاستفادة من اسم (الله) يقرَّر البرهان على النحو الآتي: (إنّ الذات المقدّسة لله جامعةٌ ومتضمّنة لجميع أنواع الكمال الوجودي، ومثل هذا الوجود الكامل هو المعبود الوحيد، والمستعان الوحيد لجميع عوالم الوجود، وعليه، فإنّ العبادة والاستعانة مختصّة به).

والاختلاف الموجود بين البراهين المذكورة هو أنّ بعضها كالبراهين التي حدُّها الوسط هو «الجامع للكمال»، و«الربوبية المطلقة»، و«الرحمة الواسعة»، و«الرحمة الخاصّة»، ناظرة إلى النظام الفاعلي لعالم الخلق، وصدور الموجودات من مبدأ الوجود، والبعض الآخر كالبرهان الذي حدّه الوسط هو (مُلكية يوم الدين) ناظر إلى النظام الغائي، ورجوع الموجودات إلى الله سبحانه، ومن الواضح أنّ للرجوع مراتب ومراحل، والمرحلة النهائية فيه هي القيامة الكبرى، وبعض مراحل النظام الغائي تقع أيضاً قبل القيامة الكبرى.

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم أيضاً برهان ناظر إلى كلا النظامين: الفاعلي والغائي، مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هود:123، أي ليس ظاهر السماوات والأرض وحده لله، بل إنّ غيبها وباطنها أيضاً لله، وإليه يرجع الأمر كلّه. إذاً فكلّ شيء جاء منه وإليه يعود، وعليه: يجب لا على الإنسان وحده، بل على كلّ موجود أن يقول: ﴿..إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ البقرة:156. ويحتمل أن يكون معنى رجوع الأمر إلى الله هو عودة تدبير وإدارة أفعال النظام الكوني. وعلى كلّ حال فانّ الله الذي هو مالك لظاهر وباطن السموات والأرض في قوس النزول، وفي قوس الصعود أيضاً ترجع إليه جميع الأمور هو وحده المستحقّ للعبادة "..".  

فالإنسان، موحّداً كان أو ملحداً، فإنّه ضعيف ومحتاج: ﴿..وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النساء:28، لكنّ الموحّد يرى أنّ الله يقوّي ضعفه ويقضي حوائجه، بينما الملحد يرى أن الطبيعة تدبّر أمره. ومفاد هذه الآية الكريمة هو: حيث إنّ زمام الأمور في الصعود والنزول هو بيد الله سبحانه، لذلك وجب أن يكون هو الملجأ الوحيد في العبادة والتوكّل.

وفي نظام الوجود ليس هناك شيء يمكنه أن يبقى في محلّه راكداً واقفاً لا يتحرّك نحو الله، ولا يمكنه أن يختار له في سيره الوجودي سبيلاً آخر لا ينتهي به إلى الرحمة أو الغضب الإلهي، فاذا كان الموجود متحرّكاً -شاء أم أبى- فالجدير به أن يعود إلى موطنه الأصلي، ويرتمي في أحضان الرحمة الإلهية.

وجملة: ﴿وما ربك بغافل عما تعملون﴾ في ذيل الآية المذكورة برهانٌ أيضاً على أن عبادة العابدين وتوكّل المتوكّلين، جميعه محفوظ ومثبت عند الله "..".

وفي بعض آيات القرآن الكريم مضافاً إلى ذكر «الاسم الجامع للكمال»، و«الربوبية»، فقد ذُكرت صفة «الخالق» كحدّ وسط في البرهان على ضرورة العبادة والتوكّل وحصرهما في الله سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ الأنعام:102، فالإنسان يجب أن يعبد ربّه وخالقه ويتوكّل عليه، والله وحده ربّ الإنسان وخالقه، إذاً، فهو وحده المعبود، وهو وحده الملجأ للإنسان.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

نفحات