الدين، العلم، المنهج ... إشكالية المصطلح

الدين، العلم، المنهج ... إشكالية المصطلح

14/06/2005

تتوقف مقاربة السؤال عن المنهج المؤهل للتعاطي مع الدين، على تحديد ثلاثة مصطلحات: الدين، العلم، المنهج. وتتضح دخالة مصطلح العلم، مما يأتي، كما يتضح تقدمه على "المنهج". وما أقدمه هنا هو تساؤلات جادة في هذا المضمار، وإثارا

بسم الله الرحمن الرحيم

  
تتوقف مقاربة السؤال عن المنهج المؤهل للتعاطي مع الدين، على تحديد ثلاثة مصطلحات: الدين، العلم، المنهج.
وتتضح دخالة مصطلح العلم، مما يأتي، كما يتضح تقدمه على  "المنهج".
وما أقدمه هنا هو تساؤلات جادة في هذا المضمار، وإثارات مكثفة لمخطط البحث فيه، مع وقفة على مشارف النتائج.
 *الدين:
وأكتفي بعدة تساؤلات من شأن الإجابة عليها تصويب مسار البحث.

أولاً :أيَّ دين نريد؟
 وهل ثمة وحدة حقيقية - بين المصاديق المتعددة لمفهوم بالغ التشكيك- تسوِّغ الشمول حتى السلة الواحدة؟
أم أن الوحدة الحقيقية المفترض قيامها تحتم تعدد سبل المقاربة التي قد يعبر عنها بالمناهج، كما يحتمه التباين بين بابين من حقل معرفي واحد كاشتراك سبيلي المسح والإحصاء، والبحث التاريخي في تحديد

ظاهرة اجتماعية،  وكاشتراك البحث الرجالي، والفقهي، والأصولي في دراسة نص حديثي واحد.
أم أن الوحدة ليست قائمة أصلاً وليس الحديث عنها إلا ضرباً من تسييس المطارحات الفكرية– ولو عن غير قصد-   إمعاناً في الإنغلاق باسم الإنفتاح، وإصراراً على الإلغاء للذات قبل الآخر

باسم الحوار، وتلكم هي أخطر لوثات الفكر التنويري المدعى.
ما أتبناه في هذا المجال هو أن الوحدة بين ماسلم من الأديان من التحريف قائمة بكل جلاء، مع توكيد ملاحظتين:
•الأولى:أن الوحدة داخل كل حقل معرفي لاتلازم وحدة سبيل البحث فيه وارتياد آفاقه.
•الثانية:أن التمييز بين ماسلم من التحريف وما لم يسلم، هو العقبة الكؤود التي تجعل محاولة مقاربة الدين ككل بمنهج واحد – لو فرض إمكانه –  تغري برميها بالتسييس، وإن لم تكن كذلك.

* ثانياً :هل يواجه الدين مأزقاً منهجياً ؟
ماهو المسوِّغ الحقيقي لهذه الحيرة في مقاربة الدين، التي تجعل أولوية البحث عن منهج لمقاربته تقفز إلى طليعة الإهتمام؟
هل هو كوننا مسكونين بهاجس الحوار الإسلامي المسيحي؟
أم هو هاجس الحوار العلماني الديني؟
أم هو هاجس افتقار الحقيقة الدينية إلى مقومات الحقيقة العلمية؟
وما هذا الإقرارعلى مهانة الجلد المتواصل بسياط التقابل بين : الدين والعلم؟
أجدني مستنفراً عندما أسمع ذلك للمبادرة إلى إعلان البراءة من دين يقابل العلم، لألتحق بركب المتدينين الذين عقدوا القلب على ما أبرمه العقل وعبَّر عنه ابن سينا بقوله: "من تعود أن يصدق من غير

دليل فقد انسلخ عن الفطرة الإنسانية".[1]
كما عبَر عنه صدر المتألهين بقوله:
وحاشا الشريعة الحقة أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية." [2]
 ما تمس الحاجة إلى تظهيره في هذا الباب، أمور:
1- ليست الحقيقة الدينية بدعاً من الحقيقة، ولا هي يقين نشاز، بل هي كأي حقيقة علمية، لايختلف المنهج الموصل إليها عن المنهج الموصل إلى غيرها إلا في أدوات البحث المنهجي ووسائله.

ويأتي مزيد إيضاح لدى الحديث عن المنهج.
2- إن أشد الحقائق الدينية غرابة كالكرامات، لايمكن لها إطلاقاً أن تخرج عن قوانين العقل وأحكامه، وقد تحدث العلماء عبر القرون  عن ذلك بوضوح، يقول ابن سينا:
"نصيحة: إياك أن يكون تكيسك (أي تعقلك ) وتبرزك عن العامة  ( أي نخبويتك) "هو أن تنبري منكراً لكل شيء، فذلك طيش وعجز، وليس الخُرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعدُ جليَّتُه،

دون الخُرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك" عليه " بينة، بل عليك الإعتصام بحبل التوفيق وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما لم تتبرهن استحالته لك، فالصواب أن تُسرح أمثال ذلك إلى بقعة

الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب ".[3]
ويقول صدر المتألهين:
"إياك أن تظن بفطنتك البتراء أن مقاصد هؤلاء القوم من أكابر العرفاء واصطلاحاتهم وكلماتهم المرموزة خالية عن البرهان من قبيل المجازفات التخمينية، أو التخيلات الشعرية، حاشاهم عن ذلك".

[4]
وحول ذلك يقول العالم  الجليل المعاصر الشيخ حسن زاده آملي:
"من بين من استطاعوا البرهنة على الحقائق العرفانية، الشيخ الرئيس ابن سينا، الذي استطاع بقدرته العلمية في الرياضيات والمنطق والفلسفة، أن يقدم ظرائف العرفان ولطائفه ودقائقه، في أجمل حلل

البرهان وذلك في الأنماط الثامن والتاسع والعاشر من "إشاراته" خصوصاً في النمط الثامن الذي هو في "مقامات العارفين" ..."
"... والنمط العاشر في أسرار الآيات أي ظهور الغرائب من قبيل الإخبار بالغيب والكرامات وصدور المعجزات وسائر الأمور الخارقة للعادة من النفس الناطقة الإنسانية، وقد بين ذلك كله مستنداً

إلى التمثيل والتنظير بالأسباب الطبيعية، كما فعل في النمط الثالث بل وفي النمط السابع في معرفة النفس..."
إلى أن يقول:
"... محل الشاهد أن الشيخ "ابن سينا" قد برهن بطريقة استدلالية مقنعة في "النمط العاشر" من الإشارات بالإستناد إلى القوانين الطبيعية على صدورغرائب الأمور من قبيل المعجزات

والكرامات وخوارق العادات من الإنسان" [5]
3- يشكل ما تقدم  التحدي الأبرز الذي يواجه المهتمين بتقديم الحقائق الدينية، إلى المتدينين بالفعل وبالقوة على حد سواء، وسنكتشف لدى القراءة المتأنية أن المشكلة ليست في باب البحث عن منهج 

يتكفل ذلك، بل هي في  تنكب الوسائل المنهجية التي تتوقف عليها سلامة البحث مساراً ونتائج.
4- من البديهي أن يهتم المنتمون إلى دين بالطريقة الأمثل لتقديم دينهم الذي يعتبرونه الحق، وليس من المنهجية بشيء محاولة إيهام الآخر- ولو بالمآل - بوحدة الأديان بصورتها القائمة فعلاً، لأن

ذلك لن يقنع أحداً، وسيلغي الجميع.
5- وأخلص إلى القول: إن الدين الإسلامي إذ يلتقي مع كل ماسلم من التحريف في الأديان السابقة إلى حد التوحد، يصرح بذلك ويجهر به، ويلح على الحوار من منطلقه، لأن الحوار مع الآخر مهمة

حامل الفكرة والمعتقد وليس مهمة الفكر نفسه. إن الحقيقة لاتحاور فضلاً عن أن تناور، ولكن لايمكن الجزم بها والبناء عليها بمعزل عن الحوار، بل والمناظرة التي هي تجلي المناورة.
 ينبغي التمييز بدقة بين الحقيقة وبين الباحث عنها فلكل شروطه المتصلة بالحوار وإذ تتصف الحقيقة بالحدية التي هي من لوازم الوضوح واليقين، فإن الباحث يجب أن يتصف بالمرونة، وكما يكمن الخطأ

في استبدال الصفتين فإنه يكمن بدرجة أشد في مُحاورٍ مرن لايرتكز إلى حقيقة واثقة من نفسها وموقنة، وبكلمة إن المرونة وروح الحوار ضرورة بهدف الوصول إلى الحقيقة، وليس ضرورة للحقيقة.
6- لا يواجه الدين الإسلامي، ولاالدين عموماً ولا البشرية بأسرها أي مأزق منهجي إطلاقاً، إلا إذا تم الخلط اللامنهجي بين المنهج وأدواته - كما يأتي -  أو سقطنا في فخ الإسقاطات والأحكام

المسبقة التي تجعل الدين مقابلاً للعلم، أو الغيب خارج ساحة الواقع، أو اعتمدنا" منهجية" الإستغراب دليلاً للنفي والإستقراب دليلاً للإثبات.
* ثالثاً :  ليس الدين تراثاً!
من الضروري الوقوف على أبرز هذه الإسقاطات، وهو اعتبار الدين تراثاً، دون تقديم الدليل على ذلك، ولا يقل عنه إطلاقاً نفي صفة التراثية عنه بدون دليل.
وحيث لايسمح المجال بالتفصيل[6] فسأقتصر على ما يرتبط بالحديث عن المصطلح، من خلال توكيد المفاصل التالية:
1- ينسجم إسقاط وصف التراث على الدين مع إنكار كونه إلهياً، يحمل للبشرية غرر الحقائق الكبرى، والقيم التي هي جوهر التكامل الإنساني، ويتنافى هذا الوصف  بشدة مع التسليم بأن مصدر الدين

هو الوحي الإلهي، بالصياغة الإلهية.
2- مصطلح التراث مشبع حتى الإثقال بدلالة الميراث من الأقدمين، كأي نتاج فكري بشري لايرقى إلى مستوى أمهات القيم الفاضلة، أو عقار أو سلعة! وبديهي أن للقيم التي هي فوق أن يطويها

الزمن ويبليها كر القرون شأن آخر وموقع مختلف. بل بديهي أن لاتكون بعض حقائق عالم المادة خاضعة لمواصفات التراث كالشمس والقمر والهواء، وهو يكشف عن مدى عدوانية إسقاط  وصف

التراث على الدين.
3- ماتقدم من تمايز القيم العليا الفاضلة، ينطبق على القيم التي توصَّل البشر لإدراكها بمعزل عن الوحي، وعندما يصل الحديث إلى  القيم التي أصَّلها الوحي أو أكدها تترامى آفاق الحقيقة خارج حدود

الدنيا من البداية والنهاية، والدنيا هي ساحة المتحدثين عن الدين كميراث وتراث.
4- إن الفرق كبير بين التعامل مع هذه الحقائق التي وضعها الله تعالى خالق الكون في متناول الإنسان الأكرم عليه، وبين التعامل معها باعتبارها تراثاً! ومن مظاهر هذا الفرق الهائل أن يكون الدين

الحق مشروع الحاضر والمستقبل، لأنه يحمل الحقائق الخالدة التي هي أكبر من الحداثة وما بعدها، وأكبر من الدنيا التي ليست إلا كوكباً في إحدى المنظومات، وهذه الحقائق بعد هي وحدها التي تتناسب مع

إنسانية الإنسان وكرامته المتميزة، لأن الإنسان أيضاً أكبر من الدنيا وما فيها، بل وأكبر من الجنة وما فيها ولذلك يصل جزاؤه إلى ماهو فوق نعيم الجنة وفرائدها: ورضوان من الله أكبر. 
ويناسب هذا السياق الإنتقال معه إلى المصطلح الثاني:

* العلم
والحديث عنه في محاور:
أولاً:بين الإطلاق والتقييد.
يشمل العلم - بقول مطلق - العلم بالوجود والموجود، أي: العلم بفلسفة الوجود و حقائق الطبيعة والإنسان بشكل خاص.  
ويعني ذلك أن العلم يتكفل بتقديم الإجابات التي تخرج الإنسان من دائرة الجهل في المجالات التالية:
1-الخالق:انطلاقاً من مسلمة عقلية لاجدال فيها يعبر عنها بقانون السببية.
2-الكون:الدنيا والأفلاك وهو المعبر عنه بعالم الشهادة.
3-مستقبل الوجود:البقاء أو الفناء؟ وعلى تقدير الثاني فماذا بعد؟
4-العلوم الإنسانية على اختلافها.  
5-علوم الطبيعة وسبل الإستفادة منها.
والمحور في ذلك كله هو الإنسان المؤهل بحكم العقل لغوض غمار المجهول ليبلغ ذرى العلم، ويحدد في ضوء ذلك موقعه وموقفه عقيدة وسلوكاً، فرداً وجماعة، ويهتدي الطريق إلى مكامن العلم التي تمكنه

من حياة أفضل.
ومن الواضح أن الإجابة السليمة على كل التساؤلات في أمهات هذه الميادين الرحيبة هي " العلم" بلحاظ  وهي " الدين" بلحاظ آخر. هي العلم بلحاظ أنها خروج من دائرة الجهل إلى رحاب

المعرفة، وهي الدين بلحاظ  أن الأسس فيها والمداميك هي مايعقد الإنسان القلب عليه في خط العقل، ويتخذه قانونا يجزي به و يرضى أن يجازى على أساسه.
نحن إذاً، أمام نتيجتين:
أ‌- أبعاد شمول دائرة العلم لدى الإطلاق.
ب‌- العلاقة بين العلم والدين.
ويأتي حول الثانية مزيد بيان.
أما الأولى فيؤسس عليها – هنا – أن تقييد العلم وحشره في مجالي علوم الطبيعة أولاً وثانياً وثالثاً، ثم الإقرار على مضض بشموله للعلوم الإنسانية، ليس – التقييد- علمياً، بل هو جهل في جهل.

* ثانياً: شطر العلم نصفين ، فرع شطر الإنسان والوجود.
وإذ يكشف السائد الأغلب من شطر العلم  نصفين غير متساويين! - بحشره في مجال المادة - عدواناً مزمناً على العلم، فإن الخطورة تتبدى بجلاء أشد إيلاماً حين ندرك أن هذا الشطر الهجين فرع  شطر الإنسان نصفين غير متساويين أيضاً، هما الجسد أولاً وأخيراً مع إطلالة على الروح على مضض، بل إن عملية الشطر هذه بشقيها ليست إلا فرع  شطر الوجود نصفين غير متساويين: هما:

المادة وما وراءها، أي  - بتعبير لايخلو من التسامح - عالم الشهادة، وعوالم الغيب.
والحق أن عالم الشهادة ليس إلا المرحلة الوسط من رحلة الإنسان في الوجود " فهو مرحلة بين مرحلتين من الغيب، تتم فيها التوأمة بين العلم والعمل، لتحقيق التكامل الإنساني عبر التأسيس على ما حمله

من مرحلته الأولى "الخلق" و "فطر عليه" من طاقات ومؤهلات، ونقلِها إلى حيز الفعل بالتوأمة المذكورة، ليتم التأسيس على ذلك كله في مرحلة ما بعد الرجوع إلى الغيب.
وهذا يعني ببساطة أن شطر الوجود والإقتصار على أخذ شريحة الدنيا لتحليلها والتنظير على أساسها، هو بمثابة تحليل ساق الشجرة بمعزل عن جذورها والتربة والشمس والهواء والماء، ووارف

الأغصان والظلال والثمرة".[7]

*ثالثاً: التقابل بين الدين والعلم!
   وهل الدين جهل؟
أم أن الجهل الذي نتج عنه شطر الوجود والموجود، أثمر حنظل التقابل المزعوم هذا؟
وفي مايلي استعراض سريع للتقلبات التي شهدتها جدلية التعارض بين الدين والعلم، لايعنيني منه إلا تكوين فكرة عامة  وإجمالية عن الإتجاهات المختلفة في وهم التقابل هذا.
سنكتشف بيسر أن بداية وهم التقابل بين الدين والعلم، ترجع إلى الصراع بين سلطة الكنيسة والنقلة النوعية في مجال العلوم التجريبية، ولقد شكل القرن السابع عشر البيئة المناسبة لتكوُّن بذرة هذا الوهم

من خلال البحث في " المنهج" على يد فرنسيس بيكون، ثم كان القرن التاسع عشر نقطة التحول النوعية في مضماره على يد ستيورات مل[8] وأن هذا الصراع قد شهد في مراحله المختلفة

محاولات  "لحل التناقض بين الدين والعلم " كان من بينها:
1- اتجاه عرف باسم "الأصوليين"  يغلب الدين على العلم لدى التناقض، من رواده العالم الفيزيائي والرياضي الفرنسي دوهم  duhem   ( 1861- 1968) أو

النمساوي أروين شرودينجر( 1878- 1961) وتتلخص رؤية هذا الإتجاه بأن " الدين يخبر عن الواقع، وأما العلم فهو بيان للمصلحة العملية وأداة مؤثرة وفاعلة ليس لها حظ من

الواقعية".[9]
2- واتجاه ثانٍ  عرف باسم "المدرسة الوضعية المنطقية"  يرى أن الملاك في كون قضية من القضايا( علمية) ذات معنىً مّا، هو خضوعها للتجربة، وبما أن القضايا الدينية ليست كذلك

فهي بلا مضمون.
ومن رواد هذه " المدرسة" : ألفرد آير alfred, ayer (1910-1989 ).[10]
3- واتجاه ثالث نادى بتبعية الدين للعلم وتغليب العلم لأن النصوص الدينية المتعارضة معه مجازية لايمكن التعامل مع مضامينها كاعتقادات صادقة.
 وقد انتشر هذا الإتجاه فشمل طيفاً واسعاً على مدى قرون ومايزال، ومن أبرز رواده أوغسطين والمتكلم المسيحي المشهور بريث وايت braaith  wait ولوتر.[11]
4- واتجاه رابع عرف باسم الكلام الليبرالي( اللاهوت المعتدل) وقد جاء في التعريف بهذا الإتجاه:
أ‌- أصحاب هذا الإتجاه يرون أن أساس اللاهوت ( المعتقدات الدينية) قائم على الأحوال القلبية والدينية والأخلاقية، وليس على العقل والنقل". 
ب‌-"أبرز مافيه أنه يُعنى بالتجربة الإنسانية بدل اللاهوت الطبيعي ( العقلي) أو اللاهوت المرتبط بالوحي ( النقلي) حيث يسلم أصحاب هذا الفهم سلفاً بأن الكتاب المقدس ليس وحياً منزلاً،

بل هو نص كتب بيد الإنسان. ".."  إن الوحي الإلهي المنزل من قبل الله لم يتقرر في ضوء إملاء كتاب مصون عن الخطأ والتحريف، بل إن تقرره وكينونته تمثلا في تواجده المؤثر والفاعل

في حياة المسيح وسائر الأنبياء عليهم السلام، وبالتالي فإن الكتاب المقدس ليس وحياً مباشراً من قبل الله تعالى، بل هو عبارة عن صياغة وشهادة بشرية على وجود لمسات الوحي وتجلياته وآثاره في

مسيرة الإنسان وتجربته في الحياة على هذا الكوكب"."[12]
5- واتجاه خامس عرف باسم " الأرثوذكسية الحديثة"  رفض ماذهب إليه " الكلام الليبرالي" يتلخص في الجمع بين " الوحي وأولويته من جانب، والإلتزام الكامل بنتائج الدراسات

الجديدة في الكتاب المقدس ومعطيات العلم الحديث من جانب آخر".
وفي حين يتقاطع هؤلاء مع الإتجاه السابق في أن " الكتاب المقدس ليس هو الوحي، وإنما هو كتاب مسطور بيد بشرية يحتمل الخطأ، ويتوفر على شهادات لجملة من الوقائع مرتبطة بالوحي" إلا أنهم

يختلفون معهم في طريقة التعامل مع النص الديني فيؤكدون على التعامل الجاد معه بعيداً عن المجازية كما هو رأي الإتجاه السايق.  
ومن أبرز رواد هذا الإتجاه كارل بارث ( 1886- 1986 ) الذي كان يرى أن " الإيمان المذهبي لابد أن يكون من الله وهو الذي يهبه لنا، ولايقوم على نسق خاص من الفهم

والإدراك الذي يحاكي الفهم الذي يحصل لنا في مجال العلوم.
ومن رواده الأبرز أيضاً: توماس تورانس tomas Torrance  الذي قال: " يعد علم اللاهوت علماً  مستقلاً، له معالمه الخاصة به، وذلك لأن موضوعه  هو الله. هذا العلم له

قوانينه الداخلية ومنهجيته الخاصة به، فالله هو أمر متعال لايمكن معرفته إلا من خلاله وبالطريقة التي يرتضيها هو للتعريف بذاته".[13]
 * ويلاحظ أن وصف الدين بالعلم محفوف بالقيود التي تخرجه من كونه علماً ينطبق عليه ماينطبق على كل علم من كون الطريق إليه هو العقل، ولاينافي ذلك أن لاتكون بعض التفاصيل في مرمى

التعامل المباشر معها بالعقل، بل لابد وأن يدخل في الحساب -  بعد كون أسسها خاضعة للتعامل العقلي المباشر- أنها ثمرات تلك الشجرة، شأنها في ذلك  شأن أي نتائج مترتبة على الأسس

العقلية.
6- واتجاه سادس هو " الوجودية" بنسخها المختلفة من كيير كيغارد  kieer  kegard ( 1885- 1905 ) إلى جان بول سارتر  jean pul

sarter  ( 1905- 1980 ) .
ترى الوجودية أن "ثمة اختلافاً بين معرفة الذات ومعرفة الأجسام والأعيان الخارجية الفاقدة للوعي، وعليه فالمنهج في معرفة الذت الشخصية يختلف عن المنهج المتبع  في معرفة سائر الأشياء "..

و" لايمكن إدراك كنه الوجود الإنساني الأصيل وحقيقته. "إن مفهوم الحياة لايكمن في مزاولة عملية تفكير منطقية، ولافي القيام ببحث علمي للوصول إلى مفاهيم كلية مجردة، وإنما يكمن في التسليم

والعمل".
ومن رواد هذا الإتجاه جيلكي  lengdon gilkey الذي يقول: "القضايا التي يتناولها العلم يمكن إخضاعها للتجربة، أما القضايا الدينية فلغتها لغة الرمز".[14]
ومن رواده أيضاً بولتمن، الذي يعتقد بأن " الإنجيل وإن أفاد من اللغة المتداولة في الإخبار عن الأجسام والجمادات، إلا أنه يجب علينا أن نترجم لغته إلى لغة مفهومة لدى الناس".." فالقضايا

الدينية لاعلاقة لها بالنظريات العلمية التي تتناول العالم الخارجي، بل هي تحاول أن تصوغ فهماً جديداً عن أنفسنا وذواتنا، يسبغه الله علينا في لحظات الخوف والرجاء".[15] 
6-  وثمة منحى سابع عرف باسم " مدرسة التحليل اللغوي" يعتمد  في حل التناقض "المدعى" بين الدين والعلم التفريق بين لغة الدين وبين لغة العلم، فلكل منهما لغته الخاصة به.
"يستخدم " فيتجنشتاين"  - من رواد هذا الإتجاه -  تعبير " ألعاب اللغة" حيث يعتقد هو وأتباعه أن لكل من العلم والدين ألعاباً لغوية خاصة به".. وعليه لايمكن أن يحكم على

أي منهما بمعايير الآخر وموازينه، إذ أن  لغة العلم أساساً تفيد التقدير والتخمين، وتتميز بأنها ذات  طابع عملي توظيفي، فالنظرية العلمية هي في الواقع أداة تستخدم لتلخيص المعلومات وربط القواعد

والقوانين بالظواهر الملموسة بالإضافة إلى أنها تعمل على توظيف القواعد والقوانين هذه في المجال التقني.  إن العلم يطرح أسئلة محددة عن الظواهر الطبيعية، وينبغي علينا ألا نتوقع من العلم أعمالاً

هي في الأصل خارجة عن دائرة اهتماماته من قبيل صياغة رؤية كونية شاملة، أو منظومة فكرية تفلسف لنا الحياة، أو تطرح مجموعة معايير وملاكات أخلاقية".[16]

***

ولست هنا بصدد التأريخ الموثق لسير وهم تقابل الدين والعلم، بل أنا بصدد الإطلالة على البارز من مفاصل هذا المسار كما تقدمت الإشارة.
وفي ضوء ذلك لابد من تسجيل ملاحظات مركزية:
*الأولى: أن الدين الذي جرى الحديث عنه هو الدين المسيحي، باستثناء إشارة واحدة وردت في الحديث عن الإتجاه الرابع " الكلام الليبرالي" صريحة في التعميم، إلا أن مابعد تلك الإشارة

يرجع إلى الحديث عن الدين المسيحي.
*الثانية: أن العلم الذي يتحدث عنه الجميع هو بعض العلم وهو العلم التجريبي، ولذا فإن أمثل القوم طريقة في الموضوعية، وهو " فيتجنشتاين"  يتحدث عن العلم التجريبي ولكنه يسميه:

العلم، فيصرح-  كما مر قبل قليل - بقوله: إن العلم يطرح أسئلة محددة عن الظواهر الطبيعية، وينبغي علينا ألا نتوقع من العلم أعمالاً هي في الأصل خارجة عن دائرة اهتماماته من قبيل صياغة

رؤية كونية شاملة، أو منظومة فكرية تفلسف لنا الحياة، أو تطرح مجموعة معايير وملاكات أخلاقية".
*الثالثة: أن السجال الدائر في وسطنا العربي والإسلامي حول النص الديني والدين عموماً ليس إلا رجع صدى إلا لمادار في القرون الوسطى ومابعدها إلى القرن العشرين.
وينبغي الوقوف في هذا السياق عند "أحدث" الشبهات التي تناولت الوحي في أوساطنا الشرقية، وهي شبهة أن الوحي صياغة بشرية لظاهرة إلهية، لنجد أنها – بصيغتها المعربة- من مفردات

ركام أرشيف الصراع بين الكنيسة و بعض مراحل العلم التجريبي.
إن مجرد التأمل في آيات القرأن الكريم حول العلم، يكشف بما لامزيد عليه أن كل هذا السجال الذي دارت رحاه في الغرب لاعلاقة له بالدين الإسلامي من قريب أو بعيد، ولفرط وضوح الإتحاد بين العلم

والدين في النصوص الإسلامية، تمس الحاجة فقط إلى بيان أن المراد من العلم عندما يطلق فيها هو الدين، وكذلك العكس.
قال تعالى:
* شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [ آل عمران 18 ] * إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما

جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب [ آل عمران 19 ] *
وتحدث عن القرآن الكريم الذي لايعلم تأوبله إلا الراسخون في العلم: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكر إلا أولوا الألباب [ آل عمران 7 ]
 وليس المقام هنا للإفاضة في ذلك، فأقتصر على الإشارة إلى غرابة أن يكون العلم بالجزء علماً، والعلم بالكل مقابلاً للعلم.
تأخذ العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية موقعها الطبيعي حين تكون جزء من كل، و شموساً وأقماراً في المنظومة العامة للوجود. عندها يصبح كل فرع مشيراً إلى أصله في سياق: تسبح له السماوات

السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده.  الإسراء 44
وبمعزل عن ذلك فإن غاية ماتبلغه ذرى هذه العلوم أن تكون الولد العاق لأبوة الحقيقة الكبرى، لنشهد في النهاية ما بدأت صيحاته تتعالى حول إنقاذ البشرية من الأخطار المستقبلية للعلم أي ما يظن أنه العلم

المطلق، ويوضع في غير سياقه.[17]
 ورغم كل هذا الوضوح  في اتحاد العلم والدين، فإن منا من يصر على استيراد سلع الثقافة والفكر المستعملة البالية ليقدمها بمظهر التنوير والحداثة والتحرروالتجديد، مما يذكر بمستوردي الألبسة والأدوات

المستعملة.
 وهذا الإستيراد بالتحديد هو ما يوضح السبب في المأزق الذي تواجهه حركة استنساخ الفكر الغربي في عالمنا الإسلامي، بل ويوضح المأزق الذي يواجهه الطرح الحداثوي "الإسلامي" الذي يدافع

عن الإسلام من منطلقات الماديين وبوسائلهم تماماً كما هو شأننا في عالم السياسة إذ نواجه أمريكا والصهيونية – في الغالب- من داخل مشروعهما للهيمنة على العالم.
ولايعني ماتقدم من الحديث عن استنساخ الشبهات عن الغربيين عدم وجود شبهات قبل أن يوجد الصراع بين الكنيسة والتجريبيين كما يأتي، بل يعني أن الخزين المباشر للسائد عندنا غربي المنشأ. 
إن للشبهات المثارة ضد الدين من منطلق وهم التقابل بينه وبين العلم من "العراقة!" مايجعلها ترجع إلى " الدهريين"  و مفتتح بدايات الجاهلية الأولى، وتكفي نظرة في ماسجله القرآن الكريم

من شبهات للمقارنة بين شبهات اليوم والأمس البعيد.
ولا تهدف هذه الإشارة إلى أكثر من التنبيه على بعيد غور المغالطة لدى ادعاء الحداثة في مقابل " الرجعية الدينية ". علماً بأن الحداثة في الفكر منطقيته وموضوعيته.[18]
وحيث تناول الحديث مايثار من " بشرية صياغة الوحي" يجدر بنا تذكر أنها شبهة تناولها القرآن الكريم وأكد تفنيدها مراراً ، ومن ذلك قوله تعالى:
1- قل ما يكون لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ يونس 15 ] * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم

عمراً من قبله أفلا تعقلون [ يونس 16 ] *
2- * لا تحرك به لسانك لتعجل به [ القيامة 16 ] * إن علينا جمعه وقرآنه [ القيامة 17 ] * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ القيامة 18 ] * ثم إن علينا بيانه [

القيامة 19 ]
3- * وما ينطق عن الهوى [ النجم 3 ] * إن هو إلا وحي يوحى [ النجم 4 ] *
4- تنزيل من رب العالمين [الحاقة 43 ] * ولو تقول علينا بعض الاقاويل [الحاقة 44 ] * لاخذنا منه باليمين [الحاقة 45 ] * ثم لقطعنا منه الوتين [الحاقة 46

] * فما منكم من أحد عنه حاجزين [الحاقة 47 ] * وانه لتذكرة للمتقين [الحاقة 48 ] * وإنا لنعلم أن منكم مكذبين [الحاقة 49 ] * وإنه لحسرة على الكافرين [

الحاقة 50 ] * وإنه لحق اليقين [الحاقة 51 ]
إلى غير ذلك مما لاتخفى كثرته وقوة دلالته.

* المنهج:
ماسبق من مفاصل - لابد من الوقوف عندها قبل تحديد مصطلحي الدين والعلم - متقدم رتبة على الحديث عن المنهج المؤهل للتعامل مع أي علم، بما يشمل الدين بالدرجة الأولى.
ليس المنهج في حقيقته إلا العمود الفقري لسبيل الكشف عن الحقيقة التي يعتبر الوصول إليها علماً يخرجنا من دائرة الجهل، ومن الواضح تقدم التوافق على ميدان الحقيقة وميدان البحث عنها،- وهل هو

عالم الظل والمادة وحسب؟-  على حديث المنهج، لأن إخراج أمهات الحقائق من دائرة البحث يسقطنا في وهدة العجز التام عن إدراك كامل الصورة، وهو ما يوقعنا وإن بالغنا في توخي الموضوعية

في القصور المنهجي.
أي نتيجة متوقعة من البحث في الدين كنقيض للعلم، أو العكس؟
بل أي نتيجة متوقعة مالم يتم التصريح بعدم التناقض، لينطلق البحث على قاعدة منهجية؟
وماهو المرجع في تحديد منهجية المنهج؟ هل هو العقل؟ أم هو الحس والتجربة؟ وهل يمكن اعتماد التجربة بدون الإستعانة بالعقل للحكم بتعميم  التجربة؟
مالم يحسم ذلك فأي أسلوب بحث يمكنه أن يستحق اسم المنهج؟
بل أي بحث يمكنه استيفاء المنهجية السليمة بما يشمل الأدوات، وهو المصر على عدم الرؤية، كما هو حال التجريبيين الذين لايقرون بمرجعية العقل؟
عندما يحسم الجدل حول ذلك نكون قد بلغنا مرحلة الحديث في المنهج نفسه، لتحديد المصطلح ومعالجة إشكاليته.

* ماهو المنهج؟
"في اللغة: "النهج هو الطريق الواضح وكذلك المنهج والمنهاج، وأنهج الطريق أي استبان وصار نهجاً واضحاً بيناً"... "ونهجت الطريق، إذا أبنته وأوضحته، يقال: إعمل على ما

نهجته لك، ونهجت الطريق أيضا: إذا سلكته.."1. والمنهج بفتح الميم2، وقيل بكسرها أيضا.
وفي الإصطلاح، ذكرت له تعاريف كثيرة، قيل إن أشهرها أنه "الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى

نتيجة معلومة"3. ولعل الأولى في تعريفه، أنه "البحث في هدي القواعد العقلية للوصول إلى النتائج".[19]

* بين التعدد والوحدة
ماتقدم يعني أن المنهج هو التزام حكم العقل في سلامة مسار البحث والحكم بتناسب النتائج مع مقدماتها وترتبها عليها.
وتتعدد موارد هذا الإلتزام بتعدد الحقول المعرفية بل بتعدد موارد البحث في كل باب أو موضوع- ولو كان مسألة فرعية -  يفترق عن غيره بحيث يستدعي الإستعانة بوسائل وأدوات بحثية خاصة

به، إلا أن هذا التعدد لايعني إطلاقاً التعدد في المنهج، إلا من باب التجوز في استعمال مفردة" المنهج" لأن هذا الإلتزام العقلي الذي هو المنهج واحد مهما امتدت ساحة التباين.[20]
وهل ثمة من تباين بحسب السائد فوق التباين بين الدين والعلم الذي يحلو لبعض التجريبيين أن يصوروه كتقابل النقيضين، ولكنا نجد رغم ذلك أن المنهج الذي يمكن اعتماده في كل منهما منهج واحد دون أدنى

اختلاف إلا في الأدوات والوسائل المنهجية، بل يتخذ الأمر منحى الإثارة العلمية الصارخة حين نجد أن الأسس المنهجية لما عرف باسم المنهج التجريبي  هي نفسها لاغيرالتي يمكن اعتمادها في الإستدلال

على وجود الخالق سبحانه.
يقول المرجع الشهيد الصدر:
"أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الإستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الإستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم، عن طريق ما

يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، فإن هذا الإستدلال - كأي استدلال علمي آخر – استقرائي بطبيعته، وتطبيق للطريقة العامة التي حددناها للدليل الإستقرائي في كلتا

مرحلتيه[21]..." "... وهكذا نبرهن أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الإستقرائي، ولا يمكن - من وجهة النظر المنطقية للإستقراء- الفصل بينهما."
أضاف:
"وهذا الإرتباط المنطقي بين مناهج الإستدلال العلمي، والمنهج الذي يتخذه الإستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة، قد يكون هو السبب الذي أدى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الإستدلال من

بين ألوان الإستدلال المتنوعة على إثبات الصانع، تأكيداً للطابع التجريبي والإستقرائي للدليل على إثبات الصانع، فإن القرآن بوصفه الصيغة الخاتمة لأديان السماء، قد قدر له أن يبدأ بممارسة دوره الديني

مع تطلع الإنسان نحو العلم، وأن يتعامل مع البشرية التي أخذت تبني معرفتها على أساس العلم والتجربة، وتحدد بهذه المعرفة موقفها في كل المجالات، فكان من الطبيعي على هذا الأساس أن يتجه القرآن

الكريم إلى دليل القصد والحكمة - بوصفه الدليل الذي يمثل المنهج الحقيقي للإستدلال العلمي، ويقوم على نفس أسسه المنطقية –  ويفضله على سائر الصيغ الفلسفية للإستدلال على وجود الله

تعالى." [22]

* جذور المشكلة المنهجية:
ترجع جذور المشكلة في "المنهج" إلى جذور الإلحاد، وتتسق حركتها عكساً وطرداً، وارتفاع وتيرة وانخفاضها، مع ضراوة الأجواء المادية، وإعراض الناس عن الدين والهدى والعقل، أو العكس.
وتثبت النظرة الموضوعية المتأنية أن فكرة "المنهج" لم تحمل جديداً إلا في التفاصيل، يتساوى في ذلك المنهج السليم الموصل و"المنهج" العقيم المدعى، الذي لا ينتج إلا إذا اتصل بالعقل ومنهجه

السليم.
ولدى الحديث عن الجذور النظرية لمشكلة المنهج، بالتحديد، نجد أنها تنحصر في دائرة نظرية المعرفة ومصادر تكوينها، والتي ترجع جميع الآراء فيها إلى رأيين مركزيين:
 
*الأول:القائل بمرجعية العقل.
 
*الثاني:القائل بمرجعية الحس والتجربة.
 
وفي حين لا نجد بين من يتبنون الرأي الأول من ينكر أهمية الحس والتجربة - لا مرجعيتهما- نجد أن السائد في الإتجاه الثاني - خصوصاً في العصر الحاضر- محاولات التفلت من أهمية

العقل فضلاً عن مرجعيته.
وليس الرأي الأول في حقيقته إلا "المنهج العقلي" الذي يعتقد بأن الأسس التي تقود حركة الفكر من المعلوم إلى المجهول، يجب أن تكون عقلية.
كما أن الرأي الثاني في حقيقته هو "المنهج التجريبي" الذي يتبنى أن هذه الأسس يجب أن تكون تجريبية.
وليس المقام هنا للتفصيل في ذلك، فأكتفي بتسجيل ملاحظتين:
الأولى: أن رواد المنهج التجريبي منقسمون، فمنهم من يرى أننا مهما حاولنا أن نخفف من قوة حضور العقل وهيمنته، فلن يكون بالإمكان إلغاء دوره.
يقول الدكتور زكي نجيب محمود:
"إن معظم من تناول الإستقراء بالبحث – ومن هؤلاء رَسْل نفسه- لا يجدون مناصاً من الإعتراف بوجود مبدأ عقلي لم نستمده من الخبرة الحسية، هو الذي يكون سندنا في تعميم الأحكام العلمية.

فمهما بلغت من إخلاصك للمذهب التجريبي – في نظر هؤلاء- فلا مندوحة لك في النهاية عن أن تعترف بشيء لا يأتيك عن طريق التجربة. وهو المبدأ القائل بأن ما يصدق على بعض أفراد النوع

الواحد، يصدق كذلك على بقية أفراده، وبذلك يمكن التعميم.
"من أجل ذلك يرى "رسل" أننا في النهاية مضطرون إلى الرجوع إلى أساس غير تجريبي، وهو ما يسميه بمبدأ الإستقراء..." [23]
وبديهي أن يٌلحق ذلك القائلين به بالقائلين بمرجعية العقل، غاية الأمر أنهم يهتمون
 بالتجربة كثيراً، وهو ما لا يأباه حتى أرسطو والقائلون بالمنطق الصوري عموماً.[24]
الثانية: أن المنهج التجريبي عقيم ما لم يمارس عملياً الإعتماد في نهاية المطاف على مبدأ عقلي، كما تحدث "رسل" ولذلك فمنهجية المنهج التجريبي، مفتقرة إلى إمضاء العقل لها، وبدون هذا

الإمضاء تظل تدور في فراغ.
وقد ناقش الشهيد الصدر طرق الرائد الأبرز للمنحى التجريبي (جون استيورات مل) الشهيرة، وأثبت أنها لا تفيد علماً، وإنما يقتصر دورها على التقليل من احتمال وجود سبب آخر غير ما يفترض أنه

السبب.[25]


* في النتائج
ويمكن في ضوء ماتقدم تسجيل النتائج التالية:
1- إذا افترضنا أن السعي إلى منهج موحد لفهم الدين ينطلق من مسبقة أن المنهج الموصل إلى الحقائق الدينية، غير المنهج الموصل إلى حقائق (العلم!) وأننا لغرابة الموضوع الديني نبحث عن

المنهج المتناسب معه، فلا بد من توكيد حقيقة أن الدين لايواجه مأزقاً منهجياً، أو انسداد باب العلم به، بل إن المنهج التجريبي- إذا لم يسلم بمرجعية العقل-  يواجه هذا المأزق ويواجه انسداد باب

العلم لابه بطريقة سليمة تخدم البشرية وحسب، بل يواجه انسداد باب العلم بالوجود والموجود.
2- أما إذا افترضنا أن الفكرة تشكل لفتة توحيدية تجاه الأديان المختلفة، فإن رفض الديانتين اليهودية والمسيحية للإسلام، وتبني الإسلام لأسسهما التي شكلت أسسه ورفضه ماعدا ذلك، لايسمح بوحدة

منهج المقاربة – بالمعنى السائد للمنهج -  حتى لو سلمنا جدلاً بإمكان مقاربة الوحدات الموضوعية في أي حقل معرفي بمنهج واحد.
3- ليس الدين - كما نعتقد، أي الإسلام -  نقيض العلم بل هو العلم بأمهات الحقائق التي تأخذ سائر الحقائق موقعها الطبيعي عندما تدرس في سياقها وكأقمار في منظومتها.
4- ويقتضي هذا الموقع المتميز للدين- العلم أن يكون الإصغاء إليه والتلقي منه متميزين في المجال القانوني الذي يرسم ملامح السلوك البشري الفردي والجماعي، بما يشمل بالدرجة الأولى تحديد

المسار في العلوم الإنسانية والطبيعية.
5-   وإذ تقتضي المنهجية العلمية السليمة مقاربة كل وحدة موضوعية داخل كل حقل معرفي بالمنهج المتناسب معها، فمن البديهي أن تكون مقاربة كل موضوع في الدين الواحد وفق الأدوات

والوسائل المنهجية المناسبة.
6- يعني ذلك بوضوح أن لاتتم مقاربة الدين ككل( أي الأديان) بمنهج واحد، إلا إذا كان القصد بالمنهج الواحد" وحدة الأسس المنهجية في جميع المناهج التي تطلق التسمية عليها مجازاً  "

وليس هذا هو المقصود بالطبع، وعلى أي حال فعندها يتساوى الدين وغيره في السعي المذكور، أو السؤال عن منهج موحد.
7- وينبغي الحذر من حمل الخلق على قراءة واحدة للدين الواحد، فإن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، عباراتنا شتى وحسنك واحد. قل كل يعمل على شاكلته. يجب مراعاة الثوابت المنهجية

التي هي الأسس العقلية وليسلك الباحث الدرب الذي يريد. العمدة سلامة المنهج مهما تعددت وسائل البحث وأدواته.
 
والحمد لله رب العالمين.
 

حسين كوراني
بيروت- لبنان
[email protected]


________________________________________
[1]-(آية الله) الشيخ حسن زاده آملي، "قرآن وعرفان وبرهان، أز هم جدايي ندارند" (تلازم القرآن والعرفان والبرهان) فارسي، ط3ص11.
[2]-أنظر:  الأسفار، ج1، ط1، أول الفصل الثاني، الباب السادس ص75.
[3]-ابن سينا، الإشارات (مع شرحه) ج3/418، بتصرف يسير. (قرص ممغنط (سلسلة برامج نور، قم).
[4]-آية الله الشيخ حسن زاده آملي، قرآن وعرفان وبرهان... فارسي (م.م) ص91، نقلاً عن الأسفار الأربعة ج1 ط1 ص189.
[5]-المصدر، ص91 - 94، بتصرف يسير.
[6]-يراجع للتوسع: حسين كوراني، في المنهج: ألمعصوم والنص، الفصل الثالث: الدين تراث أم وحي؟
[7]-المصدر السابق. بتصرف يسير.
[8]-أنظر: حسين كوراني، في المنهج: ألمعصوم والنص، الفصل الأول: إضاءات منهجية.
[9]-د. أبو الفضل ساجدي، إشكالية التعارض بين العلم والدين_ قراءة نقدية في الحلول المقترحة.  فصلية المنهاج، العددان الرابع والثلاثون، والخامس والثلاثون. نقلاً عن:

المقتطف الثقافي، العددين 285و286 ( إصدار: المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق، بيروت. نقلاً في هذا المورد عن: عبد الكريم سروش، علم ودين 25.
[10]-المصدر السابق.
[11]-نفس المصدر.
[12]-نفس المصدر.
[13]-نفس المصدر.
[14]-المصدر.
[15]-المصدر.
[16]-المصدر، نقلاً عن: language game
[17]-أنظر :  تحذير  المجلس الأمريكي لجامعة الأمم المتحدة من أخطار المسار القائم للعلوم التجريبية، من خلال طرحه سيناريوهات مستقبلية، في موقعه  على الشبكة:

http://www.acunu.org/millennium/scenarios/st-

scenarios.html#Scenario_3._Please_Turn_off_the_Spigot , وتجد ترجمة هذه الدراسة على العنوان:

http://www.acunu.org/millennium/S&T-Rd1-Arabic.doc
[18]-أنظر للمزيد: حسين كوراني، في المنهج، ألمعصوم والنص، الفصل الرابع: بين الحداثة والخلود.
1-الجوهري، الصحاح، نهج.
2-الزبيدي، تاج العروس، "النهج"
3-الفضلي، الدكتور عبد الهادي، أصول البحث، ط مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، قم، إيران، ص49، نقلا عن: عبد الرحمن بدوي، في مناهج البحث العلمي، ص5.
[19]-من كتاب : في المنهج، ألمعصوم والنص، للكاتب، الفصل الأول، تعريف المنهج.
[20]-للتوسع في ذلك، أنظر: في المنهج، ألمعصوم والنص، للكاتب، الفصل الأول بتمامه: إضاءات منهجية.

اخبار مرتبطة

نفحات