فكر ونظر

فكر ونظر

23/03/2012

«إمكانيّةُ العَودة إلى الوراء»


 

«إمكانيّةُ العَودة إلى الوراء»
الرّبيع العربي بين الفَوضى والنّهضة
_____سركيس أبو زيد*_____



هل العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل «الرّبيع العربي» باتت شبه مستحيلة، أم أنَّ هناك عوامل وفِتن تُحاك لِحرف الثّورات عن مسارها، فضلاً عن إمكانيّة التدبير لـ «سايكس بيكو» جديد؟
سؤال ملحّ في المرحلة الرّاهنة، يُجيب عليه الإعلامي سركيس أبو زيد، وتعرضه «شعائر» -بتصرّف بسيط- مواكبةً لِلمرحلة والأحداث في العالمَين العربي والإسلامي.

يشهدُ العالم العربي حسب بعض المفكِّرين مرحلة إنتقاليّة تاريخيّة تمهِّد لتحوُّلات جذريّة. ويَخلص هؤلاء إلى حكمٍ مُتسرِّع هو «أنَّ العودة إلى الوراء تبدو شبه مستحيلة».
هذه النّظرة التفاؤليّة تَغيب عن قراءتها مقولة أساسيّة وهي الصّراع ونتائجه المرهونة بموازين القوى، ومحاولات الثّورة المضادّة، والمساعي الإحتوائيّة مِن قِبَل قوى الإستكبار العالميّة و«إسرائيل» والرّجعيّة العربيّة. وفي هذا المجال أُذكِّر بما أثارته الثّورة العربيّة الكبرى التي أعلنها الشريف الحسين في العام 1916 م، والتي كانت تحلم باستعادة «الكرامة العربية»، وإنشاء دولة عربيّة متَّحدة مستقلّة عن الإمبراطوريّة العثمانيّة، ولكن سرعان ما انتهت إلى خيبة ونكسة أدَّت إلى تقسيم المنطقة العربيّة على أساس إتّفاقيّة فرنسيّة - إنكليزيّة عُرِفَت بإتفاقيّة «سايكس بيكو»، وتنفيذ وعد بلفور للصهيونيّة بإقامة دولة «إسرائيل» في قلب العالم العربي.
كلّ عربي مخلص لا يتمنَّى أن تنتهي الثّورات أو الإنتفاضات العربيّة القائمة إلى نكسة جديدة، لكنّ المراقب الموضوعي لا يستطيع أن يغفل إمكانيّة «العودة إلى الوراء»، وخصوصاً أنَّ مشاريع تقسيم العالم العربي لا زالت هدفاً ومسعىً جدّياً للمخطَّطات الصّهيو-أميركيّة، وملامحُها تخيِّم على السودان وليبيا واليمن والعراق، فضلاًَ عن الدُّول العربيّة الأخرى.


صلاة الجمعة في صنعاء إبان الإنتفاضة الشعبية ضدّ الرئيس اليمني السابق

 كما نشهد أيضاً إنتشاراً واسعاً للفوضى وللقوى التكفيريّة، ما يزيد المخاوف على الحريّة والنّهضة الوطنيّة. لذلك يشهد العالم العربي تحوُّلاتٍ باتّجاهَين: إمّا ولادة عالم عربي جديد يؤسِّس لنهضة عربيّة جديدة وعلاقات عربيّة إتِّحاديّة وتكامليّة، وإمّا إعادة ترتيب البيت العربي على أساس تشكيل كيانات طائفيّة وعرقيّة وجهوية على قاعدة رسم حدودٍ تقسيميّة جديدة تُفتِّت المُفَتَّت. والكلام عن «سايكس بيكو» جديد ليس بكلام غريب أو بعيد عن مسار الأحداث الجارية على أرض الواقع.
لا شكَّ أنَّ الدّولة العربيّة القُطريّة الرّاهنة تواجه أزمة مصيريّة، لكن لا يمكن الجزم بأنّها ستتحوَّل إيجاباً إلى النّهضة والتّكامل طالما أنَّ احتمال حَرْفها إلى التّجزئة ما زال وارداً وممكناً، خصوصاً بسبب غياب القوّة الوطنيّة الذاتيّة والقاعدة القوميّة القادرة على حماية منجزات الثّورات العربيّة.


ويمكن التّوسُّع في الإضاءة على عوامل العرقلة، مثل التّشكيلات القبليّة والجهويّة والطائفيّة داخليّاً، وأدوات السّيطرة الغربيّة التي تسعى إلى إبقاء المنطقة خزّاناً بشريّاً راكداً، وخزّان نفطٍ سيَّال، وخزّان استبدادٍ ينتمي للعالم القديم.
يُضاف إليها العامل «الإسرائيلي»، ومشاريع الفوضى والتّقسيم والإحتواء التي قد لا تؤدّي فقط إلى «المحافظة على الوضع القائم»، بل قد تحرف الثّورات العربيّة عن إتّجاهها الإيجابي إلى مزيد من التّبعيّة والإرتهان؛ وذلك من أجل ضمان أمن «إسرائيل» من جهة، ومزيد من الهيمنة الغربيّة عبر التّقسيم والفِتن الدوريّة والفوضى والحروب الأهليّة المستمرّة من جهة أخرى.
لذلك مطلوبٌ النّظر بتمعُّنٍ وحذرٍ إلى المرحلة الإنتقاليّة لجهة الكشف عن طبيعة الصراع باتّجاهَيه التّقدمي والرّجعي، وموازين القوى (العربيّة والدّوليّة)، وقدرة القوّة العربيّة التّغييريّة الصاعدة على امتلاك رؤية وإرادة لإنجاز مهمّاتها الثّورية في قيام نظام جديد قادر على حماية إنجازاته داخل مجتمعه وفي جواره القومي.
لهذه الأسباب، «العودة إلى الوراء» إمكانيّة واردة ولا يُمكن استبعادُها، لأنّ حركة الصّراع ليست حتميّة الإتّجاه. بل هناك فرصة للتّغيير والتّقدم إلى الأمام، وفي الوقت عينه هناك احتمال للنّكبة والتّراجع إلى الوراء ومزيد من التَّبعيّة والرّجعيّة. (تنامي الحركات التكفيريّة أكبر دليل).

استقراء عوامل الثّورة

يُحاولُ بعض المفكّرين إستنباط نظريّة جديدة لفهم التحوُّلات العربيّة التي لا يمكن صياغتها حسب رأيهم «بالإستناد إلى عاملٍ محدَّد». ثمّة تداخل عوامل.
لي رأيٌ في تفسير الثّورة المصريّة، مُفادُه أنّها «ثورة مركَّبة لها أسباب مادّيّة - نفسيّة قام بها الشعب بمختلف فئاته وطبقاته، ضدّ نظام متعاون مع العدوّ الخارجي (إسرائيل وأميركا)، ومتحالف مع طبقة مستَغِلَّة مستفيدة وقامعة (كبار الرأسماليّين وكبار رجال الأمن وحاشية من الأقرباء). إنّها ثورة الإنسان المقهور مادّياً ونفسيّاً من أجل لقمة العيش والكرامة معاً، من أجل الحرِّية والعدالة والعزّة القوميّة ضدّ البؤس المادّي (الإقتصادي -الإجتماعي)، والإذلال الرّوحي - المعنوي (الوطني القومي الإنساني)».
إنَّ النّظرة الجديدة للرّبيع العربي تقوم على مبدأ التّفاعل بين الأساس المادّي (البيئة الطّبيعيّة والإجتماعيّة والإقتصاد) والبناء النّفسي الرّوحي (القِيم، الثّقافة، الفِكر، المعارف والوجدان...).  
الإنسان هو المقياس والوسيلة والهدف، وفيه تلتقي‮ ‬العوامل والدّوافع والأبعاد؛ فهذه المفاهيم تبقى مجرَّدة إذا لم تتحوَّل إلى ‬شعور ووعي وإرادة وفعل، ضمن ظروف موضوعيّة وذاتيّة مؤاتية‮.‬
لذلك، الكرامة بحدِّ ذاتها تبقى شعاراً‮ ‬ومثالاً‮ ‬وليس فعلاً‮ ‬إذا لم‮ ‬يُحوِّلها الإنسان والمجتمع الى قوّة تغيير‮.‬
يشير دريد لحّام في‮ ‬إحدى مسرحيّاته إلى أنَّ «المواطن العربي‮ ‬يفتقد إلى الكرامة». لكنّ هذه العبارة لم تتحوَّل إلى فعل عملي‮ ‬إلّا عندما‮ ‬يشعر بها الإنسان ويَعِيها ويحوِّلها إلى إرادة وعمل والتزام جمهور واسع، وبالتّالي‮ ‬تصبح قوّة فعل وتغيير في‮ ‬الواقع التّاريخي‮. محنةُ الإنسان في‮ ‬العالم العربي‮ ‬تنطلق من أنَّه‮ ‬يعاني‮ ‬من البؤس والقهر والإذلال ومن مختلف العوامل والأبعاد‮.‬
إنَّ تفسير الظَّواهر الإجتماعيّة لا يمكن أن يُفهم بواسطة قوانين تجريديّة ومقولات مُطْلَقة، لأنّ الواقع الإجتماعي يختلف عن الواقع الطّبيعي لوجود دور وفعل للإنسان الذي تحرِّكه مصالح ماديّة - روحيّة، وهو يمتلك إمكانات وقوى قادرة على الفعل والوعي والتّخيُّل والتّذكُّر. لذلك يجب إعطاء أولويّة للإنسان في النّظريّة السّياسيّة والإقتصاديّة والتّاريخيّة.
لذلك فإنّ دراسة الواقع الإجتماعي‮ ‬تنطلق من المجتمع والإنسان، وهو مركَّب إجتماعي‮ إقتصادي‮ ‬نفساني،‮ ‬ويُمكن فهم الظَّواهر الإجتماعيّة‮ ‬على أساس فهم حركيّة الإنسان في‮ ‬المجتمع‮.‬ وهي‮ ‬حركة مستمرّة في‮ ‬مكان وزمان محدَّدَين، ولها إتّجاه عام‮ ‬يحدِّد طرفَي‮ ‬فعلها تاركاً‮ ‬المجال لحيِّزٍ من الحريّة، التي‮ ‬هي‮ ‬اختيار الممكن والضروري‮ ‬لتحديد العوامل والدوافع والأبعاد التي‮ ‬تؤثِّر في‮ ‬موقفه وموقعه‮.‬
باختصار: المطلوب هو درس حركيّة الإنسان العربي اليوم في مكان محدّد وزمان معيَّن، لِفهمِ دوافعِ غضبِه وثورتِه، وآليّة تحوُّل وعيِه إلى عمل تنفيذي وفعل في التّاريخ.

***


في سياق الحديث على الثّورات العربيّة يُذكَرُ دور الشّباب والإعلام. ويمكن التوقُّف طويلاً عند هذا الموضوع الذي يُثار في شكل واسع، خصوصاً لِمَا للطّلاب من دور فعّال في عمليّة التّغيير، لأنّهم من خارج القوى الطبقيّة التقليديّة، وذلك بسبب عامل الوعي والمعرفة والإعلام.
وهنا أريد أن أشير إلى أنَّ الإعلام عامّة، و«الفايسبوك» تحديداً، هو وسيلة تقنيّة لنقل المعلومات والمعرفة. والوسيلة -رغم أهميّتها- لا تولِّد الوعي والفِعل بذاتِه، بل بقدر ما تحمل من رسالة ومضمون.
الثّورات العربيّة أحسنت استعمال «الفايسبوك» (في اليمن إنتشار الإنترنت محدود). لكنّ الجماهير العربيّة تحرَّكت ليس بفعل الإعلام الإفتراضي الذي له دور أحياناً في التّضليل والإلهاء، بل تجمهرت في المساجد خلال صلاة يوم الجمعة، وقد تجمّعت في السّاحات والشّوارع والميادين حيث يتمّ اللّقاء وجهاً لوجه، بدوافع مادّيّة ونفسيّة (البؤس والكرامة)، وايمانيّة (الصلاة).
توقّف البعض مُندهشاً عند ظاهرة «البوعزيزي سِندروم» واعتبرها خيمياء الواقع الإجتماعي - السّياسي، وأعطاها بُعداً صوفيّاً، ومؤشِّراً إلى «عودة الميتافيزيقا إلى حلبة العلم». 
إنّ الإستشهاد هو فعل إنساني، عرفته حضارتُنا القديمة وثوراتُنا المعاصرة ".." والدّيانات السماويّة. وحركاتُ الفداء من فلسطين إلى لبنان إلى غيرها، عرفت قافلة من الشّهداء العلمانيّين والقوميّين والإسلاميّين، لأنَّ الظّروف الإجتماعيّة – الإقتصاديّة - القوميّة توفِّر له الدّافع الموضوعي. عندما يلتقي عاملَان أساسيَّان هما: البؤس والإذلال مع الوعي والإرادة تنفجر لحظةُ عنفٍ ثوري تُغيِّر رَتابة الواقع ".."
إنّ «لحظة البوعزيزي» غير معزولة عن الظُّروف المجتمعيّة المادّيّة - النفسيّة للإنسان في مكان وزمان محدَّدَين بأوضاع خارجيّة / داخليّة، إقتصاديّة وقوميّة لِتُفجِّرها.

معايير تَقييم الثّورات العربيّة


 حتى لا نقع في الإستنساب والإجتزاء، هل يمكن وضع قاعدة واحدة لتقييم الرّبيع العربي على الرّغم من تنوُّع البلدان التي عَمَّها، وتعدُّد الظّروف التي احتضَنَته؟
ثمّة أقانيم ثلاث متكاملة:
 أ- مقاومة مشروع الهيمنة الأميركي - «الإسرائيلي».
 ب- وحدة المجتمع، ورفض كلّ أشكال التّقسيم والفوضى.
 ج- بناء نظام جديد مَدني ديمقراطي مقاوم، يحقِّق المساواة والعدالة والنّهضة.       
أخيراً، نقول مع الثّورة المصريّة بأنّه ليس فقط «الإسلاميّون لم يختفوا لكنّهم تغيَّروا»، بل إنَّ القوميّين واللّيبراليّين واليساريّين والمثقّفين والمفكِّرين العرب أيضاً مطلوبٌ منهم أن يتغيَّروا بعد أن اختفوا.
ختاماً، مطلوب مبادرة تُتوَّج بندوة مفتوحة يشترك فيها المقاومون الإسلاميّون والقوميّون واليساريّون والعلمانيّون من أجل بلورة رؤية عربيّة جديدة  للمقاومة والنّهضة والحريّة معاً، رؤية متعدِّدة الآفاق تتجاوز زمن البُعد الواحد الذي أسَرَنا.
___________________
* إعلامي وباحث سياسي من لبنان

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

24/03/2012

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

نفحات