فكر و نظر

فكر و نظر

منذ 5 أيام

بلوغ الإنسانيّة سنّ الرّشد
السّيِّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه

النّبوّة الخاتمة
بلوغ الإنسانيّة سنّ الرّشد
____السّيِّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه____

في ذكرى المبعث النّبويِّ الشّريف، الذي وصفه الشّهيد السّعيد السيّد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه بـ «أروَع ذكرى مرّت في حياة الإنسان»، تتقدّم «شعائر» من قرّائها الكرام بالتّهنئة والتّبريك، وتقدِّم  محاضرة للسيّد الصّدر -مقتطفة باختصار من كتاب (أهل البيت تنوُّع أدوار، ووحدة هدف)- ألقاها بتاريخ 27 رجب 1388 للهجرة.

بمناسبة ذكرى يوم المبعث، وهي أروع ذكرى مرَّت في حياة الإنسان، وفي يومٍ هو أشرف يومٍ في تاريخ الإنسان، سواءً قيَّمنا الأيّام بما تشتمل عليه من أحداث، أم بما تتمخَّض عنه من نتائج، فإنَّ هذا اليوم يبقى هو اليوم الأوّل في تاريخ الإنسان، لأنّه اليوم الذي استطاع فيه الإنسان أن يبلغ الذّروة التي رشَّحته لها عشرات الآلاف من الرّسالات والنّبوّات، فأصبح قاب قوسين أو أدنى، متمثِّلاً في شخص النّبيّ صلّى الله عليه وآله.
وبمناسبة يوم المبعث والنّبوّة الخاتمة، نتحدّث عن فكرة التّغيير والتّجديد في النّبوّة، وهي ظاهرة تاريخيّة، عاشها الإنسان على مرّ الزمن إلى أن وُضع لها الحدّ النهائي مع الرّسالة الإسلاميّة الخاتمة. وهذا التّغيير والتّجديد له أسباب عديدة معقولة؛ يمكن أن يقوم على واحدٍ أو أكثر منها:
السَّبب الأوّل: وهو في ما إذا كانت هذه النّبوّة قد استنفدت أغراضها، واستكملت أهدافها، وأنهت شوطها المرسوم لها. ففي مثل هذه الحالة، لا بدَّ لها وأن تُخلي الميدان لنبوّةٍ تحمل أهدافاً جديدة، تريد بها التّرقّي بالإنسان إلى المستوى المطلوب.
وأقصد بكون النّبوّة تستنفد أغراضها، أن تكون النّبوّة بالذّات، وَصْفة لمرضٍ طارئ في حياة البشريّة.
فمثلاً ما يُقال عن المسيحيّة، من أنّها كانت تركز على الجانب الغيبي اللّامنظور، وعلى جعل النّفس منقطعة عن كلّ علائق الدّنيا، هذا التركيز -الذي قامت على أساسه لاحقاً فكرة الرَّهبنة- كان علاجاً لمرض عاشه شعب بني إسرائيل؛ هو الإنغماس المطلَق في الدُّنيا، وفي علائقها. هذه الحالة النّفسيّة التي كانت تجعل الإنسان اليهودي مشدوداً إلى درهمه وديناره، كانت بحاجة إلى وصفة تنتشله من ضرورات يومه وغده، وتذكِّره بأمسه وربِّه، لهذا كان في المسيحيّة هذا النّوع من «الإفراط» المناسب مع حالة موضعيّة زمانيّة معيَّنة في التّاريخ الطويل للإنسان. أمّا هذا النّوع من الإفراط حينما يؤخَذ كخطٍّ عامّ للإنسان، يُعتبَر شذوذاً وانحرافاً، لأنّه دواء للمريض وليس طعاماً للصّحيح.

السّبب الثّاني: اندثار تراث النّبوّة السابقة، بحيث يستحيل البناء عليه أو العمل بموجبه. فالمسيحيّة –مثلاً- بعد أن غادر السّيّد المسيح عليه السلام مسرح الدّعوة والعمل، لم يبقَ منها شيء حقيقي يمكن أن يُقام على أساسه العمل النّبوي. الإنجيل الذي يحدِّث عنه القرآن الكريم فُقِد نهائيّاً، والأناجيل التي ظهرت في فتراتٍ لاحقة هي كُتُب ألَّفها طلّاب السّيّد المسيح عليه السلام على أفضل التّقادير، فالرّسالة المتمثِّلة في الكتاب السَّماوي قد انطفأت، والحواريُّون كانوا من حيث القلَّة والتّشتُّت والإضطراب الذّهني، ما يجعلهم غير قادرين على حماية التّراث الباقي في أذهانهم عن السّيّد المسيح عليه السلام.

السّبب الثّالث: إنّ الرّسالة التي نزلت على النّبيّ، كانت محدودة باعتبار «محدوديّة» النّبيّ نفسه، و«المحدوديّة» وإن كانت مفهوماً عامّاً، إلّا أنّ هذا المفهوم العامّ على ما يقول المناطقة [أهل المنطق]، يصدق على أفراده بالتّشكيك، هناك على ما تقول الرّوايات نبيٌّ للبشريّة، ونبيٌّ للقبيلة، وهناك نبوّات تختلف من حيث السّعة والضِّيق، باختلاف طبيعة النّبيّ نفسه.
ومن الواضح أنّ الأنبياء كغير الأنبياء، يتفاوتون في درجات تلقِّيهم للمعارف الإلهيّة عن طريق الوحي من قِبَل الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت النّبوّة محدودة بطبيعة قابليّات هذا النّبيّ، كان لا بدَّ في خارج هذه الحدود الزّمانيّة والمكانيّة، من نبوَّة أُخرى تمارس عملها في سبيل الله سبحانه.

السّبب الرّابع: هو تطوّر الإنسان المدعو نفسه، لا محدوديّة الإنسان الدّاعي، وكون المدعوّ يتصاعد بالتّدريج لا بالطّفرة، وينمو على مرِّ الزّمن في أحضان الرِّسالات الإلهيّة، فيكتسب من كلّ رسالة درجة من النّموّ، تُهيِّئه وتُعدّه، لكي يكون على مستوى الرّسالة الجديدة وأعبائها الكبيرة، ومسؤوليّاتها الأوسع نطاقاً.
والتّطوُّر في النّبوّة -موضع البحث ههنا لا ما عداه من أصناف التطوّر– يرتبط بخطَّين اثنَين:
الخطّ الأوّل - الوعي التّوحيدي عند الإنسان: تستهدف النّبوّة أن تصنع الإنسان من داخله، وأن تصنع له قاعدة فكريّة أساسيّة يقوم على أساسها بناؤه الدّاخلي، وعلى أساس هذا الأخير يقوم البناء الخارجي، وهذه القاعدة الفكريّة الأساسيّة هي: التّوحيد؛ أي ربط الإنسان بكامل وجوده وجوانب حياته بربٍّ واحدٍ أحدٍ، وهي بعدُ القاسم المشترك بين كلّ النّبوّات والرِّسالات التي عاشها الإنسان منذ أن خلقه الله سبحانه وتعالى على وجه الأرض.
إلّا أنَّ فكرة التّوحيد ليست ذات درجة حدِّيّة، وإنّما هي بنفسها ذات درجات من العمق والأصالة والتّركيز والتّرسيخ، فهذه الدّرجات متفاوتة، كان لا بدَّ بمقتضى الحكمة الإلهيّة أن يُهيَّأ الإنسان لها بالتّدريج. هذا الإنسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي والطّبيعي في حسِّه ودنياه، حينما يُدعى إلى فكرة التّوحيد، لا بدَّ من أن يُنتزَع من عالم حسِّه ودُنياه بالتّدريج، لكي ينفتح على فكرة التّوحيد التي هي فكرة الغَيْب. فالغَيْب يجب أن يُعطى له على مراحل، وعلى درجات، وكلّ درجة تُهيِّئ ذهنه لتلقِّي التّوحيد.
القرآن الكريم يطرح فكرة التّوحيد بأنصع وأوسع ما يمكن من التّنزيه الذي يبقى محتفظاً بقدرته على تحريك الإنسان، لأنّه ينزِّه هذه الفكرة ويجرِّدها من العلائق المادّيّة مع الإنسان، كما في التّوراة والإنجيل المحرَّفَين؛ فالأوّل –التّوراة- يقدِّم الإله في إطارٍ قوميٍّ كأنّه اليهود في مقابل الأصنام والأوثان التي هي آلهة الشّعوب والقبائل الأخرى، والثّاني –الإنجيل- لا يتحدَّث عن الخالق الذي لا شريك له، وإنّما عن الأب الواحد للجماعة البشريّة - والعياذ بالله- والذي له أبناء لهم لغات شتَّى.
أمّا القرآن الكريم، فإنّه يجرِّد الله عن أيّ علاقة مادّيّة مع أيّ إنسان، حتّى مع أشرف إنسان على وجه الأرض، مع صاحب الرّسالة بالذّات صلّى الله عليه وآله، حيث يقف النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله في لغة القرآن بين يدي الله تعالى، عبداً ذليلاً خاضعاً يتلقّى الأوامر، وليس له إلّا الطّاعة، وإلّا أنْ ينفِّذ حرفيّاً، مثل هذه الفكرة هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه التّنزيه والتّعميق والتّنسيق في فكرة التّوحيد، مع الحفاظ على فاعليّة الفكرة وعلى محرّكيَّتها.
الخطّ الثّاني - تحمُّل أعباء المسؤوليّة الأخلاقيّة للدّعوة:  يعني كَوْن الإنسان بالغاً إلى درجة تؤهِّله لأن يتحمَّل أعباء دعوة لها ضريبتها وواجباتها وآلامها وهمومها. مثل هذا التّحمُّل أيضاً له درجات، ولم يستطع الإنسان بالطّفرة، أن يصل إلى درجة تحمُّل أعباء الرِّسالة العالميّة الواسعة غير محدودة الزّمان والمكان، وإنّما استطاع أن يصل إلى ذلك عبر مران طويل.
المقارنة بين ما تحمّلته أمَّتا موسى وعيسى عليهما السلام من مسؤوليّات، وما تحمّلته الأمّة الإسلاميّة بالرّسالة الخاتمة، المقارنة ما بين هذا وذاك، يكشف درجة كبيرة في تحمُّل المسؤوليّات، تُعبِّر عن نموِّ الاستعداد على مرِّ الزّمن، فنبيّ الله موسى عليه السلام مات وشعب بني إسرائيل في التِّيه، كتب الله جلَّ جلالُه عليهم التِّيه أربعين سنة لأنَّهم لم يستجيبوا لمتطلِّبات الرِّسالة، لم يستجيبوا أبداً لِما تقتضيه رسالة نبيّهم بالنّسبة إليهم.
في المحصّلة: هذان هما الخطّان اللّذان ترتبط بهما التّغييرات في النّبوّة، ولهما حدٌّ نهائي يصل إليه الإنسان، هذا الحدّ النّهائي هو الذي وصل إليه الإنسان حينما جاء الإسلام.
الإسلام كرسالة شاملة كاملة عامّة للحياة، جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل، من ناحية استعداده لتقبُّل وعيٍ توحيديٍّ صحيح كامل شامل، ومن ناحية تحمُّله لمسؤوليّة أعباء الدَّعوة.
ونحن باستقراء تاريخنا المنظور، منذ جاء الإسلام إلى يومنا هذا، لا نجد أيّ تغيُّر حقيقي في هذَين الخطَّين، لا في مدى اتّساع الوعي التّوحيدي عند الإنسان، ولا في اتّساع التّحمُّلات الأخلاقيّة في أعباء الدّعوة.


 

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 4 أيام

إعداد شعائر

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

منذ 4 أيام

إعداد شعائر

نفحات