أحسن الحديث

أحسن الحديث

20/07/2012

دستورُ الحياة الأَفضل

دستورُ الحياة الأَفضل
تظهيرُ فطرةَ الإنسان
_______ العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي ______


في كتابه (القرآن في الإسلام) يبيِّن العلّامة الطباطبائي مقوّمات السّعادة البشريّة، ويدلّل على احتواء القرآن الكريم -بتعاليمه في مجال العقيدة، والأخلاق، والسّلوك- على هذه المقوّمات مستشهداً لذلك بآياتٍ من الكتاب المجيد.
الدِّين الإسلامي الذي يشتمل على أكمل المناهج للحياة الإنسانيّة، ويحتوي على ما يسوق البشريّة إلى السّعادة والرّفاه، عُرفت أُسُسُه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم.
  

والقوانين الإسلاميّة التي تتضمّن سلسلة من المعارف الاعتقاديّة، والأصول الأخلاقيّة والعمليّة، نجد منابعها الأصيلة في آيات القرآن العظيم.
قال تعالى: ﴿إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم..﴾ الإسراء:9.
وقال تعالى: ﴿..ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء..﴾ النحل:89.
إنّ تدقيق النظر في النقاط التالية، يوضح لنا مدى اشتمال القرآن الكريم على المناهج الحياتيّة التي لا بدّ من توفّرها للإنسان:
1 ـ لا يبتغي الإنسان من حياته إلّا السّعادة والهناء، والوصول إلى الأماني التي يتمنّاها. والذي نراه في حالات شاذّة، أنّ أناساً يُديرون وجوههم عن السّعادة والرَّغد بما يفعلون بأنفسهم، كالإنتحار، وجرح الأبدان، وبتر الأعضاء، وبعض الرياضات الشاقّة غير المشروعة، بحجّة الإعراض عن الدّنيا، وما أشبه هذه الأشياء، ممّا يُسبّب حرمان النفس عن كثير من وسائل الرَّفاه والعيش الهانىء. هكذا إنسان مبتلىً بعُقد نفسيّة، يرى -نتيجة لتأصّلها في نفسه- أنّ السّعادة تتحقّق فيما يقوم به من الأعمال المضادّة للسّعادة.
فمثلاً، يُصيب البعض أنواعاً من متاعب الحياة ولا يتمكّن من حملها، فيلجأ إلى الإنتحار لأنّه يرى الراحة في الموت، أو يتزهّد بعضهم ويجرّب أنواع الرّياضات البدنيّة، ويُحرِّم على نفسه اللّذائذ المادّية، لأنّه يرى السّعادة في هكذا حياة نكدة.
إذاً، الجهد الذي يبذله الإنسان ليس إلّا لدرك تلك السعادة المنشودة التي يسعى في تحقيقها ونيلها.
2 ـ الأعمال التي تصدر من الإنسان لا تكون إلّا في إطار خاصّ من الأنظمة والقوانين.
ذلك، لأنّ الإنسان الذي له نصيب من العقل، لا يعمل شيئاً إلّا بعد أن يُريده، فعمله صادر عن إرداة نفسيّة يعلمُها هو ولا تخفى عليه. ومن جهة أخرى، إنّما يعمل ما يعمل لأجل نفسه، ونعني: أنّه يحسّ بضرورات حياتية لا بدّ من توفّرها، فيعمل ليوفّر تلك الضرورات على نفسه. فبَين أعماله كلّها ربطٌ وثيق يربط بعضها ببعض.
إنّ أيّ شخص في أعماله الفرديّة يُشبه حكومة كاملة لها قوانينها، وسُننها، وآدابها، والقوى الفعّالة في تلك الحكومة عليها أن تقيس أعمالها بتلك القوانين أوّلاً ثم تعمل.
والأعمال الإجتماعيّة الجارية في مجتمع ما تُشبه الأعمال الفرديّة، فتحكُم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تَوافق عليها أكثر أفراد ذلك المجتمع، وإلّا فسوف تسود الفوضى في أقرب وقت، وتنفصم عُراهم الإجتماعيّة.
فإذاً، لا بدّ للإنسان من هدف خاصّ في أفعاله الفرديّة والإجتماعيّة، وللوصول إلى ذلك الهدف المنشود لا محيص من تطبيق أعماله بقوانين وآداب خاصّة موضوعة من قِبَل دين أو مجتمع أو غيرهما.
والقرآن الكريم نفسه يؤيّد هذه النظرية حيث يقول: ﴿ولكلّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات..﴾ البقرة:148.
والدِّين في عُرف القرآن يُطلق على الآداب والقوانين بصورة عامّة، فإنّ المؤمنين والكافرين -وحتى المنكِرين لله تعالى- لا يخلون من دين ما، لأنّ كلّ إنسان يتبع قوانين خاصّة في أعماله، أكانت تلك القوانين مستندة إلى نبيّ ووَحي، أو موضوعة من قِبل شخص أو جماعة ما، يقول تعالى في أعداء الدين: ﴿الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً..﴾ الأعراف:45.
ووجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه، أنّ جملة «سبيل الله» تُطلق في عُرف القرآن على الدِّين، والآية تدلّ على أنّ الكافرين -بما فيهم المُنكِرون لله تعالى- يُحرّفون دين الله (دين الفطرة)، فالآداب التي يتّبعونها في حياتهم هي دينُهم.
3 ـ إنّ أحسن وأثبت الآداب التي يليق بالإنسان متابعتها، هي الآداب التي توحيها إليه الفطرة السّليمة، لا النّابعة من العواطف والإندفاعات الفرديّة أو الإجتماعيّة.
ولو أمعنّا النظر في كلّ جزء من أجزاء الكون، نرى أنّ له هدفاً خاصّاً، وُجهتُه من أوّل يومِ خِلقته تحقيقُ ذلك الهدف من أقرب الطُّرق وأحسنها، وهو يشتمل على ما لا بدّ منه لتحقيق هدفه من الوسائل والآلات. هذا شأن كلّ مخلوق في الكون، ذي روح أم غير ذي روح.
مثلاً حبّة الحنطة، فهي من أوّل يومٍ تُوضع في بطن الأرض، تسير في طريق التكامل، فتَخضرّ وتنمو حتى تكون لها سنابل تحمل في طيّاتها حبّات كثيرة من الحنطة، وهي مجهّزة بوسائل خاصّة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لا بدّ من توفّرها في سَيْرها التّكاملي، فتجذب إلى نفسها من أجزاء الأرض والهواء وغيرهما بنسَب معلومة، فتَنشقّ عنها الأرض وتخضرّ وتنمو يوماً فيوم، وتتحوّل من شكل إلى آخر، حتّى يكون لها سنابل في كلّ سنبلة حبّات، وحينئذٍ تكون الحبّة الأولى المزروعة في الأرض قد وصلت إلى هدفها المنشود، وكمالها الذي كانت تسير نحوه.
إنّ جميع ما نُشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطّردة، وليس لدينا دليل ثابت على أنّ الإنسان شاذّ عنها في مسيرته الطبيعيّة إلى هدفه الذي جُهّز بآلالات اللّازمة للوصول إليه. بل الأجهزة المُودعة فيه أحسن دليل على أنّه مثل بقيّة ما في الكون، له هدف خاصّ يضمن سعادته، وقد توفّرت فيه الوسائل للوصول إليه.
وعليه، فخِلقة الإنسان -بل خلقة الكون الذي ليس الإنسان إلّا جُزءاً منه- تسوقه إلى السّعادة الحقيقيّة، وهي توحي إليه أهمّ وأحسن وأثبت القوانين التي تضمن سعادته.
يقول الله تعالى: ﴿..ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى﴾ طه:50.
ويقول: ﴿الذي خلق فسوى * والذي قدّر فهدى﴾ الأعلى:2-3.
ويقول: ﴿ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها﴾ الشمس:7-10.
ويقول: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم..﴾ الروم:30.
ويقول: ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام..﴾ آل عمران:19.
ويقول: ﴿ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه..﴾ آل عمران:85.
ومحصّل هذه الآيات وآيات أخرى بهذا المضمون، أنّ الله تعالى يسوق كلّ واحد من مخلوقاته -بما فيهم الإنسان- إلى الهدف والسّعادة الأسمى التي خَلَقهم لأجلها، والطّريقة الصّحيحة للإنسان هي التي تدعوه إليه خِلقته الخاصّة. فيجب أن يتقيّد في أعماله بقوانين فرديّة واجتماعيّة نابعة من فِطرته السّليمة، ولا يتّبع مكتوفَ اليد هواه وعواطفَه، وما تُمليه عليه ميولُه وشهواته. ومقتضى الدِّين الفطري (الطّبيعي) أن لا يُهمل الإنسان الأجهزة المُودَعة في وجوده، بل يستعمل كلّ واحد منها في حدوده وفي ما وُضع له، لتتعادل القوى الكامنة في ذاته، ولا تغلب قوّة على قوّة.
وبالتّالي، يجب أن يحكم على الإنسان العقلُ السّليم البعيد عن الشَّوائب، لا مطاليب النّفس النّابعة من العواطف المخالفة للعقل، كما يجب أن يكون الحاكم على المجتمع هو الحقّ وما هو الصّالح له حقيقةً، لا أن يكون الحاكمُ إنساناً قويّاً مستبدّاً يتَّبع هواه وشهواته، ولا الأكثريّة التي تُخالف الحقَّ والمصالح العامّة.
ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجةً أخرى، هي: أنّ تشريع الأحكام، ووضْع القوانين راجعٌ إلى الله تعالى وحده، وليس يحقّ لأحدٍ أن يُشرّع القوانين، ويضع المقرّرات، ويتحكّم في الشُّؤون، لأنّ الآداب والقوانين التي تُفيد الإنسان في حياته العمليّة هي المستوحاة من خلقته الطبيعيّة، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو إليها العِلل والعوامل الدّاخليّة والخارجيّة الكامنة في خِلقته. وهذا يعني أنّ الله تعالى يريدها، ومعنى «يريدها» أنّه عزّ شأنه أودع في الإنسان العِلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب.
نعم، الإرادة تنقسم إلى قسمين: منها ما يُجبر على إيجاد الشّيء، كالحوادث الطبيعيّة التي تقع كلّ يوم، وهي المسمّاة بـ «الإرادة التّكوينيّة»، ومنها ما يقتضي إيجاد الشّيء من طريق الإختيار لا الجبر، كالأكل، والشّرب، وأمثالهما، وهي التي تعارفوا على تسميتها بـ «الإرادة التّشريعيّة».
يقول تعالى: ﴿..إنْ الحكم إلّا لله..﴾ يوسف:40.

القرآن وضعَ مناهجَ الحياة للإنسان

وبعد وضوح هذه المقدّمات، يجب أن يُعلم: أنّ القرآن الكريم مع رعايته للمقدّمات الثلاث المذكورة -أنّ للإنسان هدفاً يجب أن يصل إليه في مسيرة حياته بجهوده، ولا يمكن الوصول إلى هدفه المنشود إلّا باتّباع قوانين وآداب خاصّة، ولا بدّ من تعلّم تلك القوانين والآداب من كتاب الفطرة والخليقة- قد وضَعَ مناهج الحياة للإنسان كما يلي:
جَعَل أساس المنهج على معرفة الله تعالى، كما جعل الإعتقاد بوحدانيّته تعالى أوّل الأصول الدّينيّة، ومن طريق معرفة الله دلّه على الميعاد والإعتقاد بيوم القيامة، اليوم الذي يُجازى فيه المحسنُ بإحسانِه والمسيء بإساءته، وجعل المعاد أصلاً ثانياً، ثمّ من طريق الإعتقاد بالمعاد دلّه على معرفة النبيّ، لأنّ الجزاء على الأعمال لا يمكن إلّا بعد معرفة الطّاعة والمعصية، وما هو حسَنٌ وما هو قبيح، ولا تتأتّى هذه المعرفة إلّا من طريق الوحي والنبوّة، وجعل هذا أصلاً ثالثاً.
واعتبر القرآن الكريم هذه الأصول الثلاثة -التوحيد، والنبوّة، والمعاد- أصول الدِّين الإسلامي.
وبعد هذا بيّن أصول الأخلاق المرضيّة، والصِّفات الحسنة التي تُناسب الأصول الثلاثة، والتي لا بدّ أن يتحلّى بها كلّ إنسان مؤمن، ثمّ شرع له القوانين العمليّة التي تضمن سعادته الحقيقيّة، وتُنمّي فيه الأخلاق الفاضلة، والعوامل التي تُوصله إلى العقائد الحقّة، والأصول الأوّلية.
وهذا، لأنّنا لا يمكن أن نصدّق أنّ إنساناً يتّصف بعفّة النّفس، ثمّ ينهمك في المسائل الجنسيّة المحرّمة، ويسرق، ويخون الأمانة، ويختلس في معاملاته، كما أنّنا لا يمكن أن نعترف بسخاء شخص يُفرط في حبّ المال، وجمْعه، وادّخاره، ويمنع حقوق الآخرين، أو يبخسهم فيها، وكذلك لا نعتبر رجلاً أنّه مؤمن بالله تعالى واليوم الآخر، وهو لا يعبد الله، ولا يذكره في أيّامه ولياليه. فالأخلاق الفاضلة لا تبقى حيّة في الإنسان إلّا إذا قُورنت بأعمالٍ تُناسبها.
ومثل هذه النّسبة التي ذكرناها بين الأعمال والأخلاق توجد أيضاً بين الأخلاق والعقائد، فإنّ أيّ إنسان مغمور بالكِبر والغرور وحبّ الذات، لا يمكن أن يعتقد بالله تعالى ويخضع لعظمته، ومن لم يعلم طول حياته معنى الإنصاف، والمروءة، والعطف على الضّعفاء، لا يدخل في قلبه الإيمان بيوم القيامة والحساب والجزاء.
يقول تعالى بصدد ربط العقائد الحقّة بالأخلاق المرضيّة: ﴿..إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه..﴾ فاطر:10.
ويقول تعالى في ربط الإعتقاد بالعمل: ﴿ثمّ كان عاقبة الذين أساؤوا السُوأى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون﴾ الروم:10.

الخلاصة

ونتيجة القول: إنّ القرآن الكريم يحتوي على منابع أصول الإسلام الثلاثة، التي هي:
أصول العقائد. وهي تنقسم إلى أصول الدِّين الثلاثة: التّوحيد، والنّبوّة، والمعاد. وعقائد متفرّعة عنها، كاللّوح، والقلم، والقضاء والقدر، والملائكة، والعَرض، والكرسيّ، وخلق السّماوات والأرضين وأشباهها.
2 ـ الأخلاق المرضيّة.
3 ـ الأحكام الشّرعيّة والقوانين العمليّة التي بيّن القرآن أُسُسَها، وأَوكل بيان تفاصيلها إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وجعل النّبيُّ بيانَ أهل بيته عليهم السلام بمنزلة بيانِه، كما يُعرف ذلك من «حديث الثّقلَين» المتواتر نقلُه عن السُّنّة والشّيعة.


اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

20/07/2012

دوريات

  كتب أجنبيّة

كتب أجنبيّة

نفحات