بسملة

بسملة

17/08/2012

العرفانُ الكاذب

العرفانُ الكاذب
* الشيخ حسين كوراني
أللّهمَّ عرِّفني نفسَك، فإنّك إنْ لم تعرِّفني نفسَك لم أعرف رسولك..
«من أدعية زمن الغَيْبة»

العرفان، كمالُ تلبُّس النّفْس بالمعرفة النظريّة فإذا هي بالممارسة والتّطبيق ثقافةٌ وسلوك.
يقابل العرفانَ، «النُّكران» -وليس الإنكار- فيما يقابل الإنكارُ المعرفة.
«إنّ الذات العارفة، وموضوعاتِ المعرفة هما بالضّرورة من المستوى نفسه، إنّ المعارف تصير فعليَّةً بالذَّات العارفة، كما يصير الغذاء جزءاً من الذَّات التي تتغذّى به».
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «لا يقبلُ الله عزّ وجلّ عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفةَ إلّا بعمل، فمَن عرفَ دلَّتْه المعرفةُ على العمل، ومَن لم يعمل فلا معرفةَ له؛ إنّ الإيمانَ بعضُه من بعض».
لا تنفصلُ «قيمة المعرفة» عن «العرفان» أي عن وجود «العارف». العارفيّة أصلُ قيمة المعرفة. غربةُ مفهوم «العارف» والتّنكُّرُ لقيمة المعرفة، سواء.
من المفارقات -في المشهد الثقافي الإسلامي- حضور مفهوم «المثقَّف» والتنكُّر لمفهوم «العارف» وهما متقاربان، على امتيازٍ للعارف يجلّيه معنى «المثقِّف» بالكَسر. العارف مثقَّفٌ بالتّلقي، ثقَّف نفسَه بالتزام معرفتِه فحوّلها إلى ثقافةٍ يصدُر منها عندما يَنسى كلَّ شيء.

***

والعالِم، ذاتٌ تلبَّست بمبدإ العلم -كما هو شأن «المشتقّ»- فلماذا يفرّق بين العالِم والعارف؟
يكمن السّببُ في طبيعتَي العلم والمعرفة. «المعرفة إدراكٌ للشيء بتفكَّر وتدبُّرٍ لأثره، وهو أخصُّ من العلم».
لا تكتمل المعرفة إلّا بالممارسة التي تتيحُ تذوّقَ الأثر، وتدبُّره. أمّا العلم فتكتملُ دورتُه دونما عمل. بالعمل تكتملُ المعرفة، أمّا العلم فيستقرُّ به «وإلّا ارتحَل». يتماهى الفرقُ بينهما مع الفرق بين الفَهم والفِقه.
لا فِقه إلّا بفهم، ولا معرفةَ إلّا بعلم. قال الإمام عليٌّ عليه السلام: «العلمُ أوَّلُ دليل، والمعرفةُ آخر نهاية».
العلم حركةُ عقل، والمعرفة حركةُ قلبٍ في خطِّ العقل. هنا يمتاز العِرفان الحقُّ عن العرفان الكاذب.
القلبُ قائدُ الجَوانح والجوارح، والعقل أميرُه، والجَوانح والجوارح ميدانُ العمل. وهو فعل النِّيَّة الإستراتيجي، و﴿ما جَرَحْتُم﴾. هنا يتجلّى امتياز العِرفان الصّادق عن الكاذب بطبيعة قوتِ النِّية والسَّريرة، وطبيعة عمل الجَوارح. إنْ حقّاً، فالعرفانُ صادق، وإنْ باطلاً فالعِرفانُ كاذب.

***

يقوم بناءُ العرفان الصّادق على ثلاثة أعمدة:
1- سلامة العقيدة. 2- حدود الله. 3- العبادة بمعناها الشامل الذي يولي أكبرَ الأهميّة للأعمال العباديّة المؤقّتة بأوقاتٍ محدّدة «المراقبات».
سلامةُ العقيدة هي سلامةُ المعرفة، وحدودُ الله هي فقه الجَوانح والجوارح في سَيْرِ العارف وسفرِه، والعبادة ثمراتُ حدود الله وقوت القلب وغذاء الرّوح ورياضتهما والجوارحِ في ميدان العمل والكَدح والصّقل والتّهذيب والتَّزكية.
تتحقّق سلامةُ العقيدة والمعرفة بالدَّليل والبرهان لتكون علماً يقينياً يبرأُ من الشكّ والظنّ والشُّبهات.
ويتحقّق التزام حدود الله بالإجتهاد أي التّخصُّص أو الرّجوع إلى المختصّ. ﴿..ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه..﴾ الطلاق:1. «لا سَيرَ إلى الله إلّا بشرعٍ شريف، في كلّ كلِّيٍّ وجزئيّ».
لا تنفصلُ العبادة عن العقيدة وحدودِ الله إلّا انفصال الثّمرة عن الشّجرة. العبادة ثمرات الأصول الخمسة -أو الثلاثة- والأحكام الخمسة وقطوفها الدّانية. تعزِّز العبادة المعرفة وتظهِّرها تعزيز الفروع للأصول وتظهيرها لها. تُراكِم رعاية الحدود بالعبادة ثقافة القانون، فتنمو المعرفةُ ويتكاملُ العارف.

***

ويقوم العرفان الكاذب على شفا جُرفٍ هارٍ من ثلاث شعب:
1-إتّباع الظّنّ. 2- عدم الرّجوع إلى المختَصّ. 3- التعبّد بالهَوى والبِدع.
إتِّباع الظنّ، اتِّباع ما لا يُغني عن الحقّ شيئاً، فالمعرفة المدّعاة على أساسه كاذبة، وعدم الرّجوع إلى المختصّ عدوانٌ على حدودِ الله وثقافة القانون. والتعبُّد بالهوى والبِدَع تشريعُ ما ليس من الشّرع.
العرفان الكاذب نسخةٌ محرّفة عن العرفان الصّادق، والشَّبه بينهما مثله بين الفجرَين الصّادق والكاذب.
العرفان الكاذب ادِّعاء الغيبيّة في ما ليس غيباً. يعتمدُ نفس الأساليب والأدوات دون التزام منهجيّة الإستنباط العلميّة، يدّعي مراعاة الحكم الشرعي ويبتدِع. إنّه إفراطٌ في تبنّي العرفان الحقّ يُنتِجُ عرفاناً كاذباً.

***
يقابلُ الإفراط في العرفان الحقّ -إلى حدِّ ابتداع الكاذب- تفريطٌ به يتمثّل بمظهرَين:
1- نفيُ العرفان بالمطلَق. 2- ملامسةُ النّفي المطلَق بالتّأَرجُح بين نفي العِرفان الكاذب وإنكار الصّادق.
يجمعُ النافين والمذبذَبين «ضعفُ الإيمان بالغيب» القائمُ على تَغييب الغيب بحجّة أنّه غَيب! المودي بصاحبِه -وما أُبرّئ نفسي- إلى محاربة الغيب بدعوى الدِّفاع عن الغيب، دون التّنبه إلى أنّ الفرق بين الغيب والخرافة كالفرق بين لفظَي الغيب والعيب. الغيب ما نظنّه «خرافةً» لكنّه ثبتَ بالدّليل.
الإشكالية مستحكمة مطبِقة، والمرض عضالٌ إلى حدّ أنّ «الغيب» قد يحارَب ممّن يفترَض أنّهم حرّاسُ ثقافة الغَيب وشهادته، معَ اليقين بسلامة منطلَق غالبيّة «المحاربين» وسوء القراءة والتدبّر.
***

في البحثِ عن الأسباب، يمكن تسجيلُ الآتي:
أوّلاً: تغييبُ أبحاث «المعاد» عن عملية التّثقيف بالإسلام. ثانياً: ضراوةُ الغزو الثّقافي الذي تربَّت أجيالٌ -وما تزال- في ظلال سطواتِه. ثالثاً: الفكرُ الوهّابيُّ المعزَّز بالبترو دولار، والمتَبنَّى من الصّهيونيّة العالميَّة وربائبِها: بريطانيا ثمّ هي وأمريكا والكيان الصهيوني وسائر مَن يدور في فلَكهم.
ليست «الوهابيّة المقنّعة» الواسعة الإنتشار -وإنْ على استحياءٍ في الغالب- إلّا لقيط تمازج الغزو الثقافي مع الوهابيَة المكشوفة.
يبدأ الحلّ بإعادة الإعتبار لثقافة «المعاد» التي لا يمكن التَّثقيف الإسلامي بمعزلٍ عنها، والتجارب خيرُ دليل. وإعادةِ الإعتبار لثقافة «المراقبات» بما هي برامج رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، التي أرادوها -مبلِّغين عن الله تعالى- موادَّ عمليّة للتّحصين من مرَض ضعف الإيمان بالغيب.
أين نحن عن الصّلاة في مدارسِنا؟ وأين نحن عن «ثقافة المعاد» والأعمال العباديّة في دوراتِنا التربويّة؟

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

18/08/2012

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات