فكر ونظر

فكر ونظر

18/08/2012

أخلاقُ الغرب

أخلاقُ الغرب
عندما تصبح لعبة إيديولوجيّة
______ محمود حيدر*______

لم يغادر النّقاش الفلسفي الذي شهدته الحداثة الغربيّة المتأخِّرة مثلَّث العقل والدِّين والأخلاق. ذلك على الرّغم ممّا ابتَعَثته حضارة التّجريد المعرفي من حُجُبٍ لا حصر لها.
قد يكون العكس تماماً هو الذي حدث بالفعل في ما سمِّي بأزمنة العولمة. أي أنَّ الحضارة المُشار إليها بتظاهراتها المختلفة كانت شديدة التنوّع، حتّى إذا تفجرّت الثّورة الرّقمية والمعلوماتيّة كتجلٍّ أخيرٍ لها، تضاعفت الحاجة لاستحضار سؤالَي الأخلاق والدِّين، ناهيك عن سؤال العقل.

وإذا كان لنا أن نلاحظ مناحي واتّجاهات حركة التّفلسف في الغرب الآن، فسنجد إلى أيّ مدى يظهر الدِّين كعامل مؤثِّر في الظَّواهر ذات المنشأ الفلسفي. كان العالم الرّوسي نيقولا برديائيف يقول: «إنَّ لليَقظات الفلسفيّة دائماً مصدراً دينيّاً»، وظلَّ يميل إلى الاعتقاد، حتّى في ذروة شيوع النّزعات الفلسفيّة الإلحاديّة، أنَّ الفلسفة الحديثة عامّة، والفلسفة الألمانيّة خاصّة، هي أشدّ مسيحيَّة في جوهرِها من فلسفة العصر الوسيط، وذلك بسبب موضوعاتها الرّئيسيّة وطبيعة تفكيرها. فلقد نفذت المسيحيّة -بحسب برديائيف- إلى ماهيّة الفكر نفسه منذ فجر العصور الحديثة.
حتّى أولئك الذين كانوا يوصَفون بالتيّار الفلسفي المادّي، أكَّدوا على ضرورة الدِّين باعتباره وظيفة أبديّة للرّوح الإنساني، وأنَّه يجب على الفلسفة نفسها أن تدخل حظيرة الدِّين وأن تجعله محوَراً لها.
الأهمّ من ذلك أنَّ الاستعادة الحداثيّة لمفهوم الأخلاق، بل للأخلاق الكانطيّة المسيحيّة تعييناً، إنَّما هي استعادة من باب الوجوب. ثمّة في الغرب اليوم، إرهاصات ذات حرارة مرتفعة تدعو إلى مراجعة شاملة للعقلانيّة الحادّة كمفهوم وكَنَمط حياة في آن.

أضلاع الحضارة الغربيّة

من الملاحظات النّاقدة لأخلاقيّات الحداثة ما يكشف مساحة التّهافت الكبرى التي عصفت بها. وثمّة مَن وجد أنَّ الحضارة الغربية المعاصرة هي حضارة مركَّبة ومعقّدة يمكن بسطُها على أربعة أضلاع: عقلي، وقَوْلي، ومعرفي، وتقني. وهذه الأضلاع وإن قَصَدَت تلبية حاجات الإنسان المختلفة والمتزايدة، فإنَّها تلحق به وبأخلاقيّته أفدح الأضرار بقدر ما تهدِّد إنسانيّته بالأُفول.
فالجانب العقلي من هذه الحضارة يحرمها من أسباب التّرقِّي في مراتب الأخلاق، والجانب القولي يضيِّق نطاقها ويجمِّد حركتها ويُنقِّص من شأنها. وفيما يُخرجها الضّلع المعرفي من الممارسة العلميّة ويَفصلها عن المعاني الرُّوحيّة، يؤدّي الضّلع التّقني إلى استبعادها والاستحواذ عليه، كما يحرص على أن يستبدل بها غيرها؛ وما ذاك إلَّا لأنَّ هذه الحضارة حضارة ناقصة عقلاً، وظالمة قولاً، ومتأزّمة معرفةً، ومتسلِّطة تقنيَّةً، كما يبيّن الفيلسوف المغربي طه عبد الرّحمن.

ضرورة تأمُّل المفكّر في الممارسة الأخلاقيّة

وفي السِّياق نفسه، فإنّا نوافق ما ذهب إليه عبد الرّحمن في كتابه (سؤال الأخلاق) من أنَّ حاجة المفكِّر المسلم إلى التّأمّل في الممارسة الأخلاقيّة باتت ضرورة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وذلك لاعتبارات ثلاثة:
الإعتبار الأوّل، أنَّ الآفات التي تحملها حضارة «العقل» إلى الإنسان، وهي: «النّقص» و«الظُّلم» و«التّأزُّم» و«التّسلُّط»، تُؤذي الإنسان في صميم وجوده الأخلاقي بما يَيأس معه من الصّلاح في حاله والفلاح في مآله. إنَّ هذه الآفات لا يمكن أن يخرج منها أهلها بمجرَّد تصحيحات وتعديلات يُدخلونها على هذا الجانب أو ذاك من هذه الحضارة المتكاثرة، نظراً لأنَّ التّقويمات المحدودة ليست في قوّة هذه الآفات الشّاملة، حتى تقدر على محو آثارها وسَوْءاتها الأخلاقيّة؛ ولا أدلّ على ذلك من أنّهم لا يكادون يَفرغون من إجراء هذه الإصلاحات أو تلك، حتى تظهر لهم من تحتها إفسادات أتوها من حيث لا يشعرون، فيقومون إلى إصلاحِها، فيجدون مرّةً أخرى من الإفساد ما وجدوا من ذي قبل، وهكذا من غير انقطاع؛ وهذا يعني أنَّ أخلاق السّطح لا تنفع في الخروج من آفات العمق، بل لا بدَّ في ذلك من طلب أخلاق العمق. وهذه، على خلاف الأخرى، تدعونا إلى الشُّروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السُّلطان فيها لـ«اللّوغوس» -العقل الصّارم فحسب- وإنَّما يكون فيها لـ «الإيتوس» (أي الخُلُق)، بحيث تتحدَّد فيها حقيقة الإنسان، لا بعقلِه أو بقوله، وإنَّما بخُلُقه وفعله.

الإعتبار الثّاني، أنَّ العالَم، بلا شكّ، مقبلٌ على تحوُّل أخلاقي عميق في ظلِّ ما يشهدُه من تحوُّلات متلاحقة في جميع المناحي الفرديّة وميادين الحياة المجتمعيّة؛ وإذا كان لا بد لهذه التّحوُّلات المختلفة من أن تُفرِز قيَماً ومبادئ ومعايير أخلاقيّة جديدة، فلا بدَّ من أن يلجأ سادة هذا العالم إلى وضع نظام أخلاقي عالمي جديد، وإن لم يرَ هذا النّظام النُّور إلَّا بعد الانتهاء من وضع سلسلة من أنظمة عالميّة متعدِّدة أخرى: اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة وإعلاميّة وثقافيّة.

الإعتبار الثّالث، أنَّ هناك غياباً كليّاً للمساعي التي تعمل على تجديد النَّظر في الأخلاق الإسلاميّة بما يجعل هذا النَّظر يضاهي الفلسفات الأخلاقيّة الغربيّة الحديثة. وهذا الغياب المؤسف لن يزيد المسلمين إلَّا ضعفاً فوق ضعف، ولا سيَّما أنهم لا يملكون، على ما يبدو في الأفق القريب، إلَّا ما انطوى عليه الإسلام من القِيَم الأخلاقيّة والمعاني الرّوحيّة لتثبيت وجودهم وقول كلمتِهم في الحضارة العالميّة المنتظَرة.
ما لا يُشكُّ فيه أنَّ الاعتبارات التي وردت في سياق رصد التّحوُّلات التي حلّت على العقل الأخلاقي الغربي تُفضي إلى ضربٍ من التُّواصل والتَّأثير على البنية الأخلاقيّة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة. وتلك مسألة سيكون لها مجال مخصوص من النِّقاش.
وما لا رَيْب فيه أنَّ هذه الهندسة المعرفيّة للأخلاقيّة الغربيّة لا تنأى عن المنطق النّاظِم لممارستها الأيديولوجيّة. إذ كما كانت تعبِّر اللَّاعقلانيّة عن نفسها دائماً بوسائل عقلانيّة، كذلك تمضي اليوم أجهزتها الإيديولوجيّة في رحلة السّيطرة والاستحواذ. وهكذا تروح الممارسة الإيديولوجيّة للعقل الأداتي الغربي لِتُضفي رداء المعقوليّة على ما ليس معقولاً، مثلما تضفي رداء اللّامعقوليّة على ما هو معقول عبر تشويهه وتزييفه، وبالتّالي تحويله ليتَّخذ الوجهة التي تتوخّاها. ذلك ما نجده لدى قراءة المشهد الإجمالي لزمن الحداثة وما بعدها. هو ما سبق وبيّنتْه عالمة الاجتماع الألمانية «حنّة أرندت» حين عبّرت عن ذلك بكلمات تكتظّ بالمرارة وهي توصِّف أحوال المجتمع الغربي الحديث ومساجلاته.
لقد لاحظَت أنَّ مسلك ومحاجّات الأطراف المختلفة في صراعات المصالح، لا تتميَّز أبداً بنزعتها «العقلانيّة». ومن المؤسف أنَّ الواقع قد أتى على الدَّوام ليكذِّب كافّة الآمال التي عُقِدَت على وجود «المتنوِّرين الذين يعرفون مصالحهم» بالمعنى الحرفي للتّعبير، كما بالمعنى الأكثر تعقيداً له. فالتّجربة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنَّ تنوُّر المرء يقف على الدوام ضدَّ طبيعتِه كصاحبِ مصلحة.
لكنَّ انتصار المصلحة على العقلانيّة، تعني في حقيقة الأمر أنَّ المؤسَّسة الأيديولوجيّة أفلحت في مشروعها، وإن لم تُفلح في إضفاء الشرعيّة عليه.
لقد سعى من نقَّاد الأخلاق السّياسيّة للحداثة إلى دحض الفكرة الفلسفيّة القائلة: إنَّ النّاس يتحرَّكون بشكل عقلاني، ويفكِّرون بمصالحهم بشكل منطقي عندما ينخرطون في العمل السّياسي أو يتجمهرون أو يتظاهرون. ثمَّ جاءت الوقائع لكي تقلب الأمور رأساً على عقب. لقد صدمت المفكِّرين الإشتراكيِّين لأنَّها كانت مضادَّة تماماً لأطروحاتهم، لا سيّما لجهة تركيز هذه الأطروحات على العوامل اللّاعقلانية في تسيير الجماهير. فعلى الرُّغم من غرائزها الثّوريّة الظّاهريّة، يرى هؤلاء أنَّ الجماهير تظلّ محافِظة جداً. ذلك أنّها تعيد دائماً ما كانت قد دمَّرته سابقاً.
أيّاً تكن الأوعية السّياسيّة والأخلاقّية والدِّينيّة التي تتّخذها العقلانيّة الغربيّة حجّةً لها، لتبلغ مقاصدها، فإنّ هذه الأوعية لا تعدو أن تكون في حقيقتها طرائق ومناهج محكومة على الدَّوام بالتّحوُّل. فالثّابت في رغبة الجهاز الأيديولوجي الذي يقود السّلطة المعرفيّة في الغرب، هو سعيه الدّائم الى إبداع نظام خاصّ يلبِّي مقتضيات وشروط مصالحه القريبة والبعيدة.
فإذا كان الوعاء الدِّيني في غرب ما قبل الحداثة قد شكَّل القاعدة المتسامية لتبرير القيام بما تقتضيه المصلحة، فإنَّ فعالياته ستأخذ في الهبوط والانكفاء، ثمَّ ستُعيد إنتاج نفسها على نشأة ثانية. ذلك ما أشار إليه الباحث الإنكليزي «ديلمان» حين لاحظ كيف أنَّ السّياسة حلَّت محلّ الدِّين، لكنّها استعارت منه الخصائص النّفسيّة ذاتها. حيث أصبحت السّياسة ديناً مُعَلْمناً بامتياز.
هذا هو حال غرب الحداثة وما بعدها اليوم، وهكذا أيضاً تبدو أحوال عالمنا العربي والإسلامي، الذي وَصَفَتْه الأطروحة الحداثويّة بأنّه مقولة أيديولوجيّة بحتة، ذلك أنَّ الشعور الدِّيني يبقى محرّكاً حاسماً لأزمنتِه المتعاقبة. وهنا على التَّحديد تدور مروحة الأسئلة المُقبلة.
__________________________
* رئيس «مركز دلتا للأبحاث المعمّقة».

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

18/08/2012

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات