الملف

الملف

08/02/2013

النُّورُ المحمّديُّ قبلَ خَلْقِ آدمَ عليه السلام


النُّورُ المحمّديُّ قبلَ خَلْقِ آدمَ عليه السلام
خطبَتان للإمام عليّ عليه السلام حولَ خَلْقِ الله تعالى النّبيَّ وأهلَ البيت عليهم السلام
ـــــ عليُّ بنُ الحسين المَسعودي صاحب «مروج الذهب» (ت: 346 للهجرة) ـــــ



«.. اجتمعَ النّورُ في وسط تلك الصّوَر الخفيّة، فوافقَ ذلك صورةَ نبيِّنا محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فقالَ اللهُ عزّ من قائل: أنتَ المختارُ المنتخَب، وعندك مستودَعُ نوري وكنوزُ هدايتي، من أجلك أسطحُ البَطحاء، وأُموِّجُ الماء، وأرفعُ السّماء، وأجعلُ الثّوابَ والعقاب، والجنّةَ والنّار، وأنصبُ أهلَ بيتِك للهداية..».
من الخطبة الأولى
«أللّهُمّ فمَن جهلَ فضلَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله فإنّي مقرٌّ بأنّك ما سَطَحتَ أرضاً، ولا بَرَأْتَ خلقاً حتّى أحكمتَ خلقَه، وأتقَنته من نورٍ سبقت به السّلالة، وأنشأتَ آدم له جرماً، فَأودعتَه منه قراراً مَكيناً، ومستودَعاً مأموناً، وأَعَذْتَه من الشّيطان، وحجَبْتَه عن الزّيادةِ والنُّقصان..».
من الخطبة الثانية
خلقَ اللهُ تعالى الحقيقةَ المحمّديةَ قبلَ خَلْقِ الخلق، هذا الأصلُ العقائديّ، بالغُ الأهميّة، ولا يُمكن بناءُ عقيدةٍ سليمةٍ إلّا بوَعْيه والانطلاقِ منه، والسّيرِ في هداه.


في معرضِ تَتبُّعه للنّصوص التي تدلُّ على ولاية «المسعودي» صاحب (مروج الذّهب) لأهل البيت عليهم السلام، استشهدَ المحدِّث «النوري» في (خاتمة مستدرك الوسائل) -في سياقِ أدلّةٍ عديدة- بخطبةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام نقلَها من (مروج الذهب) كما سيأتي، والخطبة حولَ بَدْء الخَلْق، وموقعِ سيّدِ النَّبيّين وأهل البيت عليهم الصّلاة والسلام، من عمليّة الخَلْق.
وأمّا الخطبة الثانية فقد وردت في كتاب (إثبات الوصيّة) للمسعودي نفسه، وهو كتابٌ فريدٌ في بابِه وأهميّةِ موضوعاته، وامتياز مؤلِّفه، وقد نقلَ هذه الخطبة الثّانية، العلّامة المجلسيّ في (بحار الأنوار)، وشرحَ مفرداتِها، كما أوردَها غيرُه من العلماء.

الخطبة الأولى

قالَ «المحدِّث النّوري»: [أوردَ المسعوديّ في مروج الذّهب] في أوائل الكتاب، في ذِكر المَبدأ وشَأْنِ الخَليقة ما لفظُه:
«
ورُوي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:
إنّ الله حينَ شاءَ تقديرَ الخليقة، وذَرْءَ البريّة، وإبداعَ المبدَعات، نصبَ الخلقَ في صُوَرٍ كالهباءِ قبلَ دحوِ الأرض، ورَفْعِ السّماء وهو في انفرادِ ملكوتِه، وتوحُّدِ جبروتِه، فأتاحَ نوراً من نورِه فَلَمَع، ونزعَ قبَساً من ضيائه فَسَطَع. ثمّ اجتمعَ النّورُ في وسطِ تلك الصّوَرِ الخفيّة، فوافقَ ذلك صورةَ نبيِّنا محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فقالَ اللهُ عزَّ من قائل: أنتَ المختَارُ المنتَخب، وعندَك مستودَعُ نوري وكنوزُ هدايتي، من أجلِكَ أسطحُ البَطحاء، وأُموِّجُ الماءَ، وأرفعُ السّماءَ، وأجعلُ الثّوابَ والعقاب، والجنّةَ والنّار، وأنصبُ أهلَ بيتِك للهداية، وأُوتيهم من مكنونِ علمي ما لا يُشكِلُ عليهم دقيقٌ، ولا يُعييهم خَفِيٌّ، وأجعلُهم حُجَّتي على بَريَّتي، والمنبِّهين على قدرتي ووَحدانيَّتي.

انتقلَ النّورُ إلى غرائرِنا، ولمعَ في أئمَّتِنا، فنحن أنوارُ السّماء وأنوارُ الأرض،
فبنا النّجاةُ، ومنّا مكنونُ العِلم.

ثمّ أخذَ اللهُ الشّهادةَ عليهم بالرّبوبيّة، والإخلاصَ بالوحدانيّة. فبعدَ أَخْذِ ما أخذَ من ذلك شاب ببصائرِ الخلقِ انتخابَ محمّدٍ وآله عليهم السلام، وأَراهم أنّ الهدايةَ معه، والنّورَ له، والإمامةَ في آلِه، تقديماً لسُنّة العدل، وليكونَ الإعذارُ متقدِّماً. ثمّ أخفى اللهُ الخليقةَ في غَيبِه، وغيَّبَها في مكنونِ علمِه، ثمَّ نصبَ العوالم، وبسطَ الزّمان، وموّجَ الماء، وأثارَ الزَّبَد، وأهاجَ الدُّخان، فطَفى عرشُه على الماء، فسطحَ الأرضَ على ظَهْرِ الماء، ثمّ استجلَبَهما إلى الطّاعة فَأَذْعَنَتا بالاستجابة.
 
وبمهديّنا تنقطعُ الحُجَج، خاتمةِ الأئمّة،
 ومُنقذِ الأمّة، وغايةِ النّور، ومصدرِ الأمور.

ثمّ أنشأَ اللهُ الملائكةَ من أنوارٍ أبدعَها، وأرواحٍ اخترعَها، وقرنَ توحيدَه بنبوّةِ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فشَهرت في السّماءِ قبلَ بعثتِه في الأرض. فلمّا خلقَ اللهُ آدمَ أبانَ فضلَه للملائكة، وأراهم ما خصَّه
به من سابقِ العلم، حيث عرّفَه عندَ استنبائه إيّاه أسماءَ الأشياء، فجعلَ اللهُ آدمَ محراباً وكعبةً وقبلة، أسجدَ إليها الأبرارَ والرّوحانيّين الأنوار. ثمّ نبّهَ آدمَ على مستودَعه، وكشفَ له عن خطرِ ما ائتمَنه عليه، بعدَ ما سمّاه إماماً عند الملائكة، فكان حظُّ آدمَ من الخير ما أراه من مستودَع نورِنا.

فمَن وافقَه صلّى الله عليه وآله واقتبسَ من مصباحِ النّور المقدّم اهتدى إلى سَيره،
واستبانَ واضحُ أمرِه، ومن ألبسَته الغفلةُ استحقَّ السَّخَط.

ولم يزلِ اللهُ تعالى يُخبئُ النّورَ تحتَ الزّمان، إلى أن وصلَ محمّداً صلّى الله عليه وآله، في ظاهر الفَترات، فدعا النّاسَ ظاهراً وباطناً، ونبّهَهم سرّاً وإعلاناً، واستدعى صلّى الله عليه وآله التّنبيهَ على العهدِ الذي قدَّمَه إلى الذّرِّ قبل النّسل، فمَن وافقَه واقتبسَ من مصباحِ النّور المقدّم اهتدى إلى سَيره، واستبانَ واضحُ أمرِه، ومن ألبسَته الغفلةُ استحقَّ السَّخَط. ثمّ انتقلَ النّورُ إلى غرائرِنا، ولمعَ في أئمّتِنا، فنحن أنوارُ السّماء وأنوارُ الأرض، فبنا النّجاةُ، ومنّا مكنونُ العِلم، وإلينا يصيرُ الأمور، وبمَهديِّنا تنقطعُ الحُجَج، خاتمةِ الأئمّة، ومُنقذِ الأمّة، وغايةِ النّور، ومصدرِ الأمور، فنحن أفضلُ المخلوقين، وأشرفُ الموحِّدين، وحججُ ربِّ العالمين، فَلْيَهنأ بالنِّعمةِ مَن تمسّكَ بولايتِنا وقبضَ عُرْوَتَنا».
أضاف المسعودي: «فهذا ما رُويَ عن أبي عبد الله جعفرِ بنِ محمّد، عن أبيه محمّدِ بنِ عليّ، عن أبيه عليِّ بنِ الحسين، عن أبيه الحسينِ بنِ عليِّ، عن أمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب عليهم السلام».
ختمَ المحدّث النّوري بقولِه:
«انتهى. ولا أظنُّ أحداً يروي هذا الخبر من غير إنكار ولا يكونُ إماميّاً».
(الميرزا حسين النّوري الطّبرسي، خاتمة المستدرك: ج 1، ص 120)

نحنُ أفضلُ المخلوقين، وأشرفُ المُوَحِّدين، وحُجَجُ ربِّ العالمين، فَلْيَهنأ بالنّعمةِ مَن تمسّكَ بولايتِنا وقبضَ عُرْوَتَنا.


الخطبة الثّانية

الخطبة الثّانية: نقلَها العلّامة المجلسيّ قدّس سرّه، فقال:
«
ورَوى عليُّ بنُ الحسين المسعوديّ في كتاب (إثبات الوصيّة) عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله هذه الخطبة: [قال المسعودي: وخطبَ أميرُ المؤمنين عليه السلام خطبةً في انتقالِ سيّدنا رسول الله من آدمَ عليه السلام، إلى أنْ وُلِدَ صلّى الله عليه وآله]:
الحمدُ لله الذي توحَّدَ بصُنعِ الأشياء، وفَطَر أجناسَ البرايا على غيرِ أصلٍ ولا مثالٍ سبقَه في إنشائها، ولا إعانةِ مُعينٍ على ابتداعِها، بل ابتدعَها بِلُطْفِ قدرتِه فامتثَلتْ في مشيَّتِه خاضعةً ذليلةً مستحدثةً لأمرِه. الواحدِ الأحدِ الدّائمِ بغيرِ حدٍّ ولا أَمَد، ولا زوالٍ ولا نَفاد، وكذلك لم يزَل، ولا يزال، لا تُغيّرُه الأزمنةُ ولا تحيطُ به الأمكنة، ولا تبلغُ صفاتِه الألسِنة، ولا يأخذُه نومٌ ولا سِنةٌ، لم ترَه العيونُ فتخبرَ عنه برؤية، ولم تَهجم عليه العقولُ فتتوهّم كُنْهَ صفتِه، ولم تَدْرِ كيفَ هو إلّا بما أخبرَ عن نفسِه، ليس لقضائه مَردٌّ، ولا لقولِه مكذِّب. ابتدعَ الأشياءَ بغيرِ تفكّرٍ ولا مُعين، ولا ظَهيرٍ ولا وزير، فطرَها بقدرتِه، وصيَّرَها إلى مشيّتِه، وصاغَ أشباحَها، وبرأَ أرواحَها، واستنبطَ أجناسَها خَلقاً مَبروءاً مَذْروءاً في أقطارِ السّماوات والأرَضين، لم يأتِ بشيءٍ على غيرِ ما أرادَ أن يأتي عليه، ليُريَ عبادَه آياتِ جلالِه وآلائه، فسبحانَه لا إله إلّا هو الواحدُ القهّار، وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآله وسلَّمَ تسليماً.
أللّهمّ فمَن جهلَ فضلَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله فإنّي مُقِرٌّ بأنّك ما سطَحتَ أرضاً ولا بَرَأْتَ خَلقاً حتّى أحكمتَ خَلْقَه وأتقَنتَه من نورٍ سبَقت به السّلالة، وأنشَأْتَ آدمَ له جرماً، فأودعتَه منه قراراً مكيناً ومستودَعاً مأموناً، وَأَعَذْتَه من الشّيطان، وحَجَبته عن الزّيادة والنّقصان، وحصّلتَ له الشّرفَ الذي يسامى به عبادك. فأيّ بشرٍ كان مِثْلَ آدم في ما سابقت به الأخبار، وعرَّفَتْنا كُتُبك في عطاياك؟ أسجدتَ له ملائكتَك، وعرّفتَه ما حجبتَ عنهم من علمِك إذْ تناهت به قدرتُك، وتمّت فيه مشيّتُك، دعاكَ بما أكْنَنْتَ فيه، فأجبتَه إجابةَ القبول.

أللّهمّ فمَن جهلَ فضلَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله فإنّي مُقِرٌّ بأنّكَ ما سَطَحْتَ أرضاً ولا بَرَأْتَ خَلْقاً حتّى أحكمتَ خَلقَه وأتقنتَه من نورٍ سبقت به السّلالة...


فلمّا أَذِنتَ اللّهُمَّ في انتقالِ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله من صُلبِ آدمَ ألّفْتَ بينه وبينَ زوجٍ خلقْتَها له سَكناً، ووصلتَ لهما به سَبباً، فنقلْتَه من بينهما إلى "شيث" اختياراًً له بعلمِك، فإنّه بشرٌ كانَ اختصاصُه برسالتِك. ثمّ نقلته إلى "أنوش" فكان خَلَف أبيه في قبولِ كرامتِك واحتمالِ رسالاتِك، ثمّ قدّرتَ المنقولَ إليه "قينان"، وألحَقْتَه في الحُظوة بالسّابقين، وفي المِنحة بالباقين، ثمّ جعلت "مهلائيل" رابعَ أجرامِه قدرةً تُودِعُها من خلقِك مَن تضربُ لهم بسهمِ النّبوّة وشَرف الأبوّة، حتّى إذا قَبِلَه "برد" عن تقديرِك تَناهى به تدبيرُك إلى "أخنوخ"، فكان أوّلَ مَن جعلتَ من الأجرام ناقلاً للرّسالة، وحاملاً أعباءَ النّبوّة.
فتعاليتَ يا ربّ، لقد لَطُفَ حِلْمُك وجلَّـ[ت] قدرتُك عن التّفسير إلّا بما دعوتَ إليه من الإقرار بِرُبوبيَّتِك.
وأشهدُ أنّ الأعينَ لا تُدرِكُك، والأوهامَ لا تَلحقُك، والعقولَ لا تَصِفُك، والمكانَ لا يَسَعُك، وكيف يَسَعُ مَن كان قبلَ المكان، ومَن خلقَ المكان؟ أم كيفَ تُدرِكُه الأوهامُ ولم تُؤمَر الأوهامُ على أمرِه؟ وكيف تؤمَرُ الأوهامُ على أمرِه، وهو الذي لا نهايةَ له ولا غاية؟
وكيف تكون له نهايةٌ وغاية، وهو الذي ابتدأَ الغاياتِ والنِّهايات؟
أم كيف تُدرِكُه العقولُ ولم يُجعَل لها سبيلاً إلى إدراكِه؟
و كيف يكون لها إدراكُه بسبَب، وقد لَطُفَ بربوبيّتِه عن المحاسّةِ والمجاسّة؟
وكيف لا يلطفُ عنهما مَن لا ينتقلُ عن حالٍ إلى حال؟
وكيف ينتقلُ من حالٍ إلى حال، وقد جعلَ الانتقالَ نقصاً وزوالاً؟ فسبحانَك ملأتَ كلَّ شيء، وباينتَ كلَّ شيء، فأنتَ الذي لا يفقدُك شيء، وأنت الفعّالُ لما تشاء، تَبارَكْتَ يا مَن كلُّ مُدْرَكٍ من خَلْقِه، وكلُّ محدودٍ من صُنْعِه، أنتَ الذي لا يستغني عنكَ المكان، ولا نعرفُك إلّا بانفرادِك بالوحدانيّةِ والقدرة، وسبحانَك ما أبينَ اصطفاءَك لإدريسَ على مَن سلكَ من الحاملين، لقد جعلتَ له دليلاً من كتابِك إذ سمّيتَه صِدِّيقاً نبيّاً، ورفعتَه مكاناً عَليّاً، وأنعمتَ عليه نعمةً حرّمتَها على خلقِك إلّا مَن نقلتَ إليه نورَ الهاشميّين، وجعلتَه أوّلَ مُنذرٍ من أنبيائك.
ثمّ أَذِنْتَ في انتقالِ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله من القابلين له "متوشلخ" و"لمك" المُفضيَين إلى نوح، فأيَّ آلائك يا ربّ على ذلك لم تُولِه؟ وأيّ خواصِّ كرامتِك لم تُعطِه؟

نقلتَه منه إلى «إبراهيمَ» فأسعدتَ بذلك جَدَّه، وأعظمتَ به مجدَه، وقدَّسْتَه في الأصفياء، وسَمَّيتَه دونَ رُسلِك خليلاً، ثمّ خَصَصْتَ به «إسماعيلَ» دونَ وُلْدِ إبراهيم، فأنطقتَ لسانَه بالعربيّةِ التي فضَّلتَها على سائر اللّغات.

ثمّ أَذِنْتَ في إيداعه "ساماً" دون "حامٍ" و"يافث"، فضُرِبَ لهما بسَهمٍ في الذِّلّة، وجعلتَ ما أخرجتَ من بينِهما لِنَسلِ سامٍ خِوَلاً.
ثمّ تتابعَ عليه القابلونَ من حاملٍ إلى حامل، ومُودِعٍ إلى مستودَعٍ من عترتِه في فتراتِ الدّهور، حتّى قَبِلَه "تارخ" أطهرُ الأجسامِ وأشرفُ الأجرام، ونقلْتَه منه إلى "إبراهيمَ" فأسعدتَ بذلك جَدَّه، وأعظمتَ به مجدَه، وقدَّسْتَه في الأصفياء، وسمَّيتَه دون رُسُلِك خليلاً، ثمّ خَصَصْتَ به "إسماعيل" دونَ وُلد إبراهيم، فأنطقتَ لسانَه بالعربيّة التي فضّلتَها على سائرِ اللّغات، فلم تزَل تنقلُه محظوراً عن الانتقال في كلِّ مقذوفٍ من أبٍ إلى أب، حتّى قَبِلَه "كِنانَة" عن "مُدْرِكَة"، فأخذْتَ له مجامعَ الكرامة ومواطنَ السّلامة، وأجْللتَ له البلدةَ التي قضيتَ فيها مَخرجَه.
فسبحانَك لا إلهَ إلّا أنت، أيَّ صُلبٍ أسكنتَه فيه لم ترفَع ذِكرَه؟
وأيّ نبيٍّ بشَّرَ به فلم يتقدَّم في الأسماءِ اسمُه؟
وأيّ ساحةٍ من الأرض سَلَكْتَ به لم تُظْهِر بها قُدْسَه؟
حتّى الكعبة التي جعلتَ منها مخرجَه غرستَ أساسَها بياقوتةٍ من جنّاتِ عدْنٍ، وأمرتَ الملَكَين المطهّرَيْن: جبرئيلَ وميكائيلَ فتوسَّطا بها أرضَك، وسمَّيتها بيتَك، واتَّخذتَها مَعْمداً [مَقْصَداً] لنبيِّك، وحرّمتَ وَحْشَها وشجرَها، وقَدَّسْتَ حجرَها ومَدَرَها، وجعلتَها مَسلَكاً لوَحيك، ومَنسكاً لخلقِك، ومأمنَ المأكولات، وحجاباً للآكلاتِ العاديات، تُحرِّمُ على أنفُسِها إذْعارَ مَن أَجَرْتَ. ثمّ أذنتَ "للنَضر" في قبولِه وإيداعِه "مالكاً"، ثمّ من بعد "مالكٍ" "فِهْراً"، ثمّ خصصتَ من وُلد "فِهرٍ" "غالباً"، وجعلتَ كلَّ مَن تنْقلُه إليه أميناً لحَرَمِك، حتّى إذا قَبِلَه" لُؤيّ" بنُ غالب آنَ له حركةُ تَقديس، فلم تُودِعه من بعدِه صُلباً إلّا جلّلتَه نوراً تأنسُ به الأبصارُ، وتطمئنُّ إليه القلوب.
فأنا يا إلهي وسيّدي ومولاي المُقِرُّ لكَ بأنّك الفردُ الذي لا يُنازَع ولا يُغالَب، ولا يُشارَك.
سبحانَك لا إلهَ إلّا أنت، ما لِعَقلٍ مولود، وفَهْمٍ مفقودٍ مُدْحَقٍ [مُبْعَد] من ظهرٍ مَريجٍ [متداخل] نبعَ من عينٍ مَشيجٍ [متشابك] بمَحيضِ [أو: بمخيض] لَحْمٍ وعَلَقٍ ودَرّ، إلى فضالةِ الحيضِ وعُلالات [بقايا] الطّعم، وشارَكَته الأسقامُ والتحفتْ عليه الآلامُ، لا يقدرُ على فعلٍ ولا يمتنعُ من عِلّة، ضعيفِ التّركيبِ والبُنية؟ ما لَه والاقتحامُ على قدرتِك، والهجومُ على إرادتِك، وتفتيشُ ما لا يَعلمُه غيرُك؟
سبحانَك أيّ عينٍ تقومُ نُصْبَ بهاءِ نورِك، وترقى إلى نورِ ضياءِ قدرتِك؟
وأيّ فَهْمٍ يفهمُ ما دونَ ذلك إلّا أبصارٌ كشفتَ عنها الأغطية، وهتكتَ عنها الحُجُبَ العميّة، فَرَقَتْ أرواحُها إلى أطرافِ أجنحةِ الأرواحِ فناجَوْك في أركانِك، وألحّوا بين أنوارِ بَهائك، ونظَروا من مُرتقى التّربةِ إلى مستوى كبريائك، فسمّاهم أهلُ الملكوتِ زوَّاراً، ودَعاهم أهلُ الجبروت عُمّاراً. فسبحانَك يا مَن ليسَ في البحار قَطَرات، ولا في متونِ الأرض جَنَبات، ولا في رِتاجِ الرّياحِ حَرَكات1، ولا في قلوبِ العبادِ خَطَرات، ولا في الأبصارِ لَمَحات، ولا على متونِ السَّحابِ نَفَحات، إلّا وهي في قدرَتك مُتحيِّرات.
أمّا السّماءُ فَتُخبرُ عن عجائبِك، وأمّا الأرضُ فتدلُّ على مدائحِك، وأمّا الرّياحُ فتنشرُ فوائدَك، وأمّا السّحابُ فتهطلُ مواهبَك، وكلُّ ذلك يحدِّثُ بتَحنُّنِك ويُخبِرُ أفهامَ العارفين بشفَقَتِك.
وأنا المُقِرُّ بما أنزلتَ على أَلْسُنِ أصفيائِك أنّ أبانا آدمَ عندَ اعتدال نَفْسِه وفراغِك من خَلْقِه، رفعَ وجهَه فَواجَهَه من عرشِك وسْمٌ فيه: لا إلهَ إلّا الله، محمّدٌ رسولُ الله، فقال: إلهي، مَن المَقرونُ باسمِك؟ فقلتَ: محمّدٌ خيرُ مَن أخرَجتُه من صُلبِك، واصطفيتُه بعدَك من وُلْدِك، ولولاه ما خلقتُك.

فسبحانَك لكَ العلمُ النّافذُ والَقدَرُ الغالب، لم تَزَلِ الآباءُ تحملُه، والأصلابُ تنقلُه، كلّما أنزلتَه ساحةَ صُلْبٍ جعلتَ له فيها صُنعاً يحثُّ العقولَ على طاعتِه، ويدعوها إلى متابعتِه.

حتّى نقلتَه إلى "هاشمٍ" خيرِ آبائه بعدَ إسماعيل، فأيُّ أبٍ وجَدٍّ ووالدِ أُسرة، ومجتمعِ عِترة، ومخرجِ طُهْرٍ ومرجعِ فخرٍ جعلتَ يا ربِّ هاشماً؟

لقد أقمتَه لَدُنْ بيتِك، وجعلتَ له المشاعرَ والمتاجر.
ثمّ نقلتَه من "هاشمِ" إلى "عبدِ المطَّلب" فأنهجتَه سبيلَ "إبراهيم"، وألهمتَه رُشداً للتّأويلِ وتفصيلِ الحقّ، ووهبتَ له عبدَ الله، وأبا طالب، وحمزة، وفدَيتَه في القربانِ بعبدِ الله، كَسِمَتِك في إبراهيمَ بإسماعيل، ووَسَمْتَ بأبي طالبٍ في وُلدِه كَسِمَتِك في إسحاقَ بتقديسِك عليهم وتقديمِ الصّفوةِ لهم. فلَقد بلَغْتَ إلهي ببَني أبي طالبٍ الدّرجةَ التي رفعتَ إليها فضلَهم في الشّرفِ الذي مددتَ به أعناقَهم، والذِّكرِ الذي حلّيتَ به أسماءَهم، وجعلتَهم معدنَ النّورِ وجُنّتَه، وصفوةَ الدِّينِ وذُرْوَته، وفريضةَ الوحي وسُنّتَه.

ثمّ أذنتَ لعبدِ الله في نبذِه عند ميقاتِ تطهيرِ أرضِك من كفّارِ الأُمَمِ الذين نَسوا عبادتَك، وجهلوا معرفتَك، واتخّذوا أنداداً، وجَحدوا ربوبيّتَك، وأنكروا وحدانيّتَك، وجعلوا لكَ شركاءَ وأولاداً، وَصَبوا إلى عبادةِ الأوثان وطاعةِ الشّيطان، فدعاك نبيُّنا صلواتُ الله عليه بنُصرتِه (لنُصرتِه) فنصَرتَهُ بي وبجعفر وحمزة. فنحن الذين اختَرتَنا له وسمَّيتَنا في دينِك لدعوتِك أنصاراً لنبيِّك، قائدِنا إلى الجنّة خِِيَرَتك. وشاهدُنا أنتَ ربّ السّماوات والأرَضين، جعلتَنا ثلاثةً ما نصبَ لنا عزيزٌ إلّا أذْلَلْتَه بنا، ولا مَلِكٌ إلّا طَحْطَحْتَه. أشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بينَهم تَراهم رُكَّعاً سجّداً، وَوَصفتَنا يا ربّنا بذلك وأنزلتَ فينا قرآناً جلّيتَ به عن وجوهِنا الظُّلَم، وأرهبتَ بصولتِنا الأُمَم، إذا جاهدَ محمّدٌ رسولُك عدوّاً لدينِك تلوذُ به أسرتُه وتحفُّ به عِترتُه، كأنّهم النّجومُ الزّاهرةُ إذا توسَّطَهم القمرُ المنيرُ ليلةَ تمِّه. فصلواتُك على محمّدٍ عبدِك ونبيِّك وصفيِّك وخِيَرَتِك وآلِه الطّاهرين، أيّ منيعة لم تَهدِمها دعوتُه؟ وأيّ فضيلةٍ لم تَنَلْهَا عِترتُه؟ جعلتَهم خيرَ أئمّةٍ أخرجتَ للنّاسِ يأمرونَ بالمعروفِ ويَنهون عن المنكَر، ويجاهدون في سبيلِك، ويتواصلون بدينِك، طهّرتَهم بتحريمِ المِيتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزير وما أُهِلَّ ونُسِكَ به لغيرِ الله، تشهدُ لهم، وملائكتُك أنّهم باعوك أنفسَهم، وابتذَلوا من هيبتِك أبدانَهم، شَعِثَةً رؤوسُهم، تَرِبَةً وجوهُهم، تكادُ الأرضُ من طهارتِهم تقبضُهم إليها، ومن فضلِهم تميدُ بمَن عليها، رفعتَ شأنَهم بتحريمِ أنجاسِ المَطاعمِ والمَشاربِ من أنواعِ المُسْكِر. فأيَّ شرفٍ يا ربّ جعلتَه في محمّدٍ وعترتِه؟ فَوَاللهِ لأَقولَنَّ قولاً لا يُطيقُ أن يقولَه أحدٌ من خلقِك:
أنا عَلَمُ الهُدى، وكَهفُ التُّقى، ومحلُّ السَّخا وبحرُ النَّدى، وطَوْدُ النُّهى ومَعْدِنُ العِلم، ونورٌ في ظُلَمِ الدُّجا، وخيرُ مَن آمنَ واتّقى، وأكملُ مَن تقمّصَ وارتدى، وأفضلُ مَن شَهِدَ النّجوى بعدَ النّبيّ المصطفى. وما أُزَكّي نفسي ولكنْ بنعمةِ ربّي أحدِّث.
أنا صاحبُ القبلتَين وحاملُ الرّايتَين، فهل يوازى فيّ أَحَد، وأنا أبو السِّبطَين.
فهل يساوي بي بشرٌ وأنا زوجُ خيرِ النّسوان فهل يفوقُني أَحَد؟ وأنا القمرُ الزّاهرُ بالعِلمِ الذي علّمني ربّي، والفراتُ الزّاخرُ أَشْبَهْتُ من القمرِ نورَه وبهاءَه، ومن الفراتِ بذلَه وسخاءَه.
أيّها النّاسُ، بنا أنارَ اللهُ السُّبُلَ وأقامَ الميل، وعُبِدَ اللهُ في أرضِه، وتناهت إليه معرفةُ خلقِه، وقُدِّسَ اللهُ جلُّ وتعالى بإبلاغِنا الأَلْسُنَ، وابتهلتْ بدعوتِنا الأذهان، فتوفّى اللهُ محمّداً صلّى الله عليه وآله سعيداً شهيداً هادياً مَهديّاً قائماً بما استكفاه، حافظاً لما استَرعاه، تَمَّمَ به الدِّينَ، وأوضحَ به اليقينَ، وأقرّتِ العقولُ بدلالتِه، وأبانت حُجَج أنبيائه، واندمغَ الباطلُ زاهقاً، ووضحَ العدُل ناطقاً، وعطّل مَظانّ الشّيطان، وأوضح الحقّ والبرهان.
أللّهُمّ فاجعَلْ فواضلَ صلواتِك ونواميَ بركاتِك ورأفتِك ورحمتِك على محمّدٍ نبيِّ الرّحمة وعلى أهل بيتِه الطّاهرين
».
وختمَ العلّامة المجلسي بقولِه: «واعلمْ أنّ النّسخةَ كانت سقيمةً جدّاً فَصَحّحناها بحَسبِ الإمكان».

(العلّامة المجلسي، بحار الأنوار: ج 25، ص 25 - 32؛ وانظر: المسعودي، إثبات الوصيّة: ص 135 -141، دار الأضواء، بيروت 1409 للهجرة = 1988م، ط ثانية)

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

08/02/2013

دوريات

نفحات