موقف

موقف

10/05/2013

إلى الَّذين يُزَكُّون أنفسَهم


إلى الَّذين يُزَكُّون أنفسَهم
______ العلّامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة رحمه الله*______

قال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: «وأَيْمُ الله يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ الله، لأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ، إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْه مَطْعُوماً، وتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً».
إنَّ رضى النّفس بِقرصِ الشّعير والملح مع قدرتِها على لُبابِ القمحِ، والعَسَلِ المُصفَّى، فضيلةٌ في نفسه، وبالقياسِ إلى غَيْرِ الإمام، أمّا بالقياس إلى مَن عفَّ وكفَّ عن ابن العاص الَّذي قاد الجيوش إلى حربِه والقضاءِ عليه، وصَفَحَ عن مروان بن الحكم، وابن أرطأة، أمَّا بالقياس إلى مَن سَقى أعداءَهُ الماءَ بعد أنْ مَنَعوه منه، وحاولوا قتله عطشاً، وأَوْصى بقاتِله خيراً ".." أمَّا بالقياس إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فإنَّ الرِّضى بالقرص لا يُعدُّ شيئاً مذكوراً.
والحقيقة أنِّي لم أفهم معنًى لقول الإمام عليه السلام: «لَأَرُوضنَّ نفسي»، وقوله: «وإنَّما هي نَفْسي أَرُوضُها بالتَّقوى»، إلَّا على سبيل التّنازُل والتّواضُع، وهل تَميلُ نفسُه إلى غير التَّقوى حتّى تحتاج إلى التّرويض والتّمرين؟! إنَّ نفسَه هي التَّقوى وميزانُ الحقِّ، والصِّراطُ القويمُ إلى اللهِ وكتابِهِ وشريعتِه، إنَّها نفسُ محمَّدٍ صلّى الله عليه وآله بالذّات، إلّا أنَّه لا نبيَّ بعد خاتم الأنبياءِ وسيِّدِهم.

شُبهةٌ وجوابٌ

إنْ قُلتَ: انَّ هذا لا يتَّفقُ مع قول الإمام عليه السلام: «وخَدَعَتْني الدُّنيا بغرورها، ونفسي بخيانَتِها»، وقوله: «أللَّهُمَّ لا تُعاجِلني بالعُقوبةِ على ما عَمِلْتُهُ في خَلَواتي من سوءِ فِعلي وإساءَتي، ودوامِ تفريطي وجَهالَتي، وكَثرةِ شَهَواتي وغَفْلَتي»، وقوله أيضاً: «إلهي ومولايَ أَجْرَيْتَ عليَّ حكماً اتَّبَعتُ فيه هَوَى نفسي، ولم أَحتَرِسْ فيه من تزيين عدوِّي»، كما يَتنافى أيضاً مع قول الإمام زين العابدين عليه السلام: «ما لي كُلَّما قلتُ قد صَلُحَتْ سَريرتي، وقَرُبَ من مجالسِ التَّوَّابين مجلسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ أزالت قَدَمي، وحالَتْ بيني وبين خِدمَتِكَ»، فإنَّ هذا اعترافٌ صريحٌ بأنَّ الإمامَ مغلوبٌ لا غالبٌ للدُّنيا وكثرةِ الشَّهوات!
والجواب:
أوَّلاً: إنَّ هذا اعترافٌ بالعبوديَّةِ لا بالذَّنب، وتعظيمٌ وانكسارٌ له تعالى، والتِجاءٌ إليه، وتَوَكُّلٌ عليه، وهو ضَرْبٌ من عبادةِ الأصفياءِ، بل مِن أعلى مراتبِ العبادةِ وأنواعِها.
ثانياً: إنَّ السِّرَّ لعظمة العظماء يَكْمُنُ في تواضعهم واتِّهامهم لِأنفُسِهم، فَهُم في خوفٍ دائمٍ من التَّقصير وعدمِ القيامِ بما يَجِب، ومهما قدَّموا للإنسانيَّةِ من جليل الأعمال، وقاموا للهِ بالعبادات
والطَّاعات، فلا يَرَوْنَها شيئاً في جَنْبِ الله، ويَطلبون من أنفسِهم المزيدَ من الجِدِّ والاجتهاد، إنَّهُم يعرفون جلالَ اللهِ وقدرَتَهُ، وعزَّتَهُ وعَظَمَتَهُ، فلا يَعظم شيءٌ سِواه في أعيُنِهِم، وإنْ عَظُمَ، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «إنَّ مِن حقِّ مَن عظم جلال الله في نفسه، وجلَّ مَوْضعُه من قلبِه، أنْ يَصغرَ عندَهُ لِعِظَمِ ذلك كلُّ ما سِواه»، هذا هو شأنُ العارِفينَ المُخلِصينَ أصحاب الهِمَمِ والطُّموح، وشأن الأحرار الَّذين يَملكُون أنفسَهم، ولا يَملكهم شيءٌ، ويتطلَّعون دائماً إلى رحمةِ الله ومَرْضاتِه.
ثالثاً: إنَّ أهلَ الصِّدقِ والإيمانِ يَسلكون في جميعِ أقوالِهم وأفعالِهم طريقَ الحَذَرِ والاحتياط، فإذا تحدَّثوا عن أنفسِهم انتَقَدوها، واتَّهمُوها بالتَّواني والكَسَل، بل كثيراً ما يبلغُ بهم الأمرُ إلى تَوْبيخها وتأنيبها، ولا شيء أثقل عليهم من المَدْحِ والإطراء، وقد جاء في الحديث: «اُحثُوا في وجوه المدَّاحين التُّرابَ».
أمَّا الَّذين يُزكُّونَ أنفسَهم، ويُبَرِّئونَها من كلِّ عَيْبٍ فإنَّهم لا يَشعرون بواقِعِهم، ولا يَعرِفون شيئاً مِن داخلهم، وهم الَّذين عَناهُم اللهُ سبحانَه بقوله: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ الكهف:103-104.
_______________
* من كتابه (نظرات في التّصوُّفِ والكرامات)


اخبار مرتبطة

نفحات