الملف

الملف

02/08/2013

كيفَ نستعدّ للحَجِّ المَبرور

كيفَ نستعدّ للحَجِّ المَبرور

استهلال إذا أردتَ الحجَّ
«أنّى لكَ أن تبلغَ ما يبلغُ الحاجّ» السّيّد اليزديّ، صاحب (العروة الوثقى)
قراءةٌ في أسرار الحجّ الفقيه النّراقي، صاحب (جامع السّعادات)
الاستعانة بالحجّ على الموت وما بعدَ الموت الفقيه العَلَم الشّهيد الثّاني
القلبُ أسمَى بيوت الله تعالى الفقيه الشّيخ حسين قُلي الهمدانيّ


 استهلال
إذا أردتَ الحجَّ


عن مولانا الصّادق عليه السّلام أنّه قال:
 إذا أردتَ الحجّ فجَرِّد قلبَك للَّه تعالى مِن كلّ شاغِلٍ وحجابِ كلِّ حاجب، وفَوِّضْ أُمورَك كلَّها إلى خالقِك وتوكَّلْ عَليه في جميعِ ما يظهرُ مِن حركاتك وسَكَناتك.
***
 وسَلِّمْ لقَضائه وحُكْمِه وقَدَرِه، وَوَدِّعِ الدّنيا والرّاحةَ والخَلْقَ واخْرُجْ مِن حقوقٍ تَلْزَمُك مِن جِهَةِ المخلوقين، ولا تَعْتَمِدْ على زَادِك ورَاحلتِك وأَصحابِك وقُوّتِك وشَبابِك ومالِك، مخافةَ أنْ يَصيرَ ذلك عَدُوّاً ووَبالًاً، فإنّ مَنْ ادّعى رِضى اللهِ واعْتَمَدَ على ما سِواه صَيّرَه عليه وَبالًا وَعَدُوّاً ، لِيعلَمَ أنّه ليسَ له قُوّةٌ ولا حيلة، ولا لأَحدٍ إلاّ بعصمةِ الله تعالى وتوفيقِه.
 ***
 واسْتَعِدَّ استعدادَ مَنْ لا يَرجو الرّجوعَ، وأحْسِنِ الصُّحْبةَ وَرَاعِ أوقاتَ فرائضِ الله وسُنَنِ نبيّه صلَّى الله عليه وآله، وما يَجِبُ عليكَ مِن الأدب والاحتمالِ والصَّبرِ والشُّكر والشَّفَقَةِ والسّخاءِ وإيثارِ الزّادِ على دوام الأوقاتِ، ثمّ اغْسِلْ بماءِ التّوبةِ الخالصةِ ذُنوبَك والْبَسْ كِسْوةَ الصّدقِ والصّفاء والخضوع والخشوع، وأحْرِم من كُلِّ شيءٍ يَمْنَعُك عن ذِكْرِ الله تعالى ويَحْجُبُك عن طاعتِه.
 الشّهيد الثاني، رسالة «أقلُّ ما يجبُ معرفتُه مِنْ أحكام الحجّ والعمرة» - رسائل الشهيد: ج 1/ ص 337

هذا الملف ..
تمسّ الحاجَة إلى أن يولي المبلّغون لرسالات الله تعالى، ووسائلُ الإعلام الإسلاميّة مزيدَ عناية واهتمام بتَظهير ثقافة الحجّ وعلى أوسع نطاق وأَمْتَنه قبل حلول موسم أداء المناسك، ليَتمكّن «وفدُ الحاجّ» من الاستعداد في أشهر الحجّ لأداء المناسك بوَعيٍ تامٍّ يفتح الآفاق على حقيقة أنّ الحجّ إعادةُ صياغة الشّخصيّة الموحّدة، وتنقيتها من رواسب الجاهليّة الأولى والثّانية.
 لذلك حرصتْ «شعائر» أن يكون (ملف شوّال) و(ملف ذي القعدة) خطوةً في هذا الطّريق تستحثّ المؤازرة قياماً ببعض الواجب،
وقد تمّ تخصيص الملف الأوّل لما ينبغي للحاجّ الاهتمام به قبل سفر الحجّ، كما سيتمّ -بحوله تعالى- تخصيص الملف الثّاني في شهر ذي القعدة، لما ينبغي للحاجّ الاهتمام به أثناء سفر الحجّ.
 
والتزاماً بالمنهج المعتمَد في هذه المجلّة منذ انطلاقتها «يتمّ اختيارُ الأجوَد لجودتِه، دون أيّ اعتبارٍ آخر»، فقد حرصنا على تقديم ما كتبَه عددٌ من أعلام الأمّة حول الاستعداد للحجّ، وما ينبغي أن يفقهَه الحاجُّ قبل سَفره، وكذلك ما ينبغي أن يقومَ به في باب قَطْعِ العلائق والخروج من التّبعات ليتمكّن من حجٍّ مبرورٍ وسَعيٍ مشكور. واللهُ تعالى من وراء القَصد «شعائر»


«أنّى لكَ أن تبلغَ ما يبلغُ الحاجّ»
 ﴿..ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِين﴾ آل عمران:97
ـــــ الفقيه الكبير السّيّد اليزديّ، صاحب (العروة الوثقى) قدّس سرّه ـــــ

«الحجّ هو أحد أركان الدّين ومن أَوكد فرائض المسلمين، قال الله تعالى: ﴿..وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..﴾ آل عمران:97». ما تقدّم، مفتَتح كتاب الحجّ من (العروة الوثقى)، الرّسالة العمليّة لمرجع عصره الفقيه الكبير السّيّد اليزديّ قدّس سرّه (ت: 1337هجريّة)، وما تزال رسالته (العروة) محور أبحاث الفقهاء. اختارت «شعائر» هذا البحث لفرادته، ولأنّ الحاجة تمسّ إلى التّواصل عبره مع النّصّ المعصوم وتأكيده الشّديد على فريضة الحجّ. أضاف السّيّد اليزديّ قدّس سرّه:

غيرُ خفيّ على النّاقد البصير ما في الآية الشّريفة من فنون التّأكيد، وضروب الحثّ والتشديد، ولا سيّما ما عرّض به تاركُه من لزوم كفره وإعراضه عنه بقوله عزّ شأنه: ﴿..ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِين﴾ آل عمران:97. وعن الصّادق عليه السلام في قوله عزّ من قائل: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ الإسراء:72، قال: «ذلك الذي يسوِّف نفسَه الحجّ، يعني حجّة الإسلام، حتّى يأتيه الموت».
* وعنه
عليه السلام: «مَن ماتَ وهو صحيحٌ موسِرٌ لم يحجّ، فهو ممّن قال الله تعالى: ﴿..ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾ طه:124».

* وعنه عليه السلام: «مَن مات ولم يحجّ حجّةَ الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجةٌ تجحفُ به، أو مرضٌ لا يُطيقُ فيه الحجّ، أو سلطانٌ يمنعُه، فَلْيَمُت يهوديّاً أو نصرانيّاً».
* وفي آخر: «مَن سوّفَ الحجّ حتّى يموت بعثَه الله يوم القيامة يهوديّاً أو نصرانيّاً».

* وفي آخر: «ما تخلَّفَ رجلٌ عن الحجّ إلَّا بذَنب، وما يعفو اللهُ أكثر».

* وعنهم عليهم السّلام مستفيضاً: «بُنِيَ الإسلامُ على خَمس: الصّلاة والزّكاة والحَجّ والصّوم والولاية».
 والحجّ فرضُه ونَفْلُه (مُستحبّه) عظيمٌ فضلُه، خطيرٌ أجْرُه، جزيلٌ ثوابُه، جليلٌ جزاؤه، وكفاه ما تضمّنه من وفود العبد على سيّده، ونزوله في بيتِه ومحلّ ضيافته وأمنه، وعلى الكريم إكرامُ ضيفِه وإجارةُ الملتجئ إلى بيته، فعن الصادق عليه السلام: «الحاجُّ والمعتَمِرُ وفدُ الله، إنْ سألوه أعطاهم وإنْ دعوه أجابهم، وإنْ شفّعوا شفّعَهم، وإنْ سَكتوا ابتدأهم، ويعوَّضون بالدّرهم ألف ألفِ درهم».
 وعنه عليه السلام: «الحجّ والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، اللّازمُ لهما في ضَمان الله، إنْ أبقاه أدّاه إلى عياله، وإن أماتَه أدخلَه الجنّة».
وفي آخر: «إنْ أدركَ ما يأمل غفرَ اللهُ له، وإن قصُر به أجلُه وقعَ أجرُه على الله عزّ وجلّ».

وفي آخر: «فإنْ مات متوجّهاً غفر اللهُ له ذنوبَه، وإنْ ماتَ مُحْرِماً بعثَه الله ملبّياً، وإنْ ماتَ بأَحدِ الحرمَين بعثَه اللهُ من الآمنين، وإنْ ماتَ منصرفاً غفرَ اللهُ له جميعَ ذنوبِه».
وفي الحديث: «إنّ من الذّنوب ما لا يكفِّرُه إلَّا الوقوفُ بعَرَفة».
وعنه، صلّى الله عليه وآله، في مرضِه الذي تُوفّي فيه، في آخر ساعة من عمره الشّريف: «يا أبا ذرّ، اجلس بين يدَي أُعقد بيدك: مَن خُتِمَ له بشهادة أنْ لا إله إلَّا اللهُ دخلَ الجنّة، إلى أن قال: ومَن خُتِمَ له بحِجَّةٍ دخلَ الجنّة، ومَن خُتِمَ له بعُمرَةٍ دخلَ الجنّة..» الخبر.  وعنه صلّى الله عليه وآله: «وفدُ الله ثلاثة: الحاجُّ والمعتَمرُ والغازي، دعاهم اللهُ فأجابوه، وسألوه فأعطاهم». 
وسأل الصّادقَ
عليه السلام رجلٌ في المسجد الحرام: مَن أعظم النّاس وزراً؟ فقال: «مَن يقفْ بهذَين الموقفَين: عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذَين الجبلَين، ثمّ طاف بهذا البيت، وصلَّى خلفَ مقام إبراهيم عليه السلام، ثمّ قال في نفسِه وظنّ أنّ اللهَ لم يغفر له، فهو من أعظم النّاس وزراً».
 وعنهم عليهم السّلام: «الحاجُّ مغفورٌ له وموجوبٌ له الجنّة، ومستأنَفٌ له العمل، ومحفوظٌ في أهله وماله، وأنّ الحجّ المبرور لا يعدلُه شيءٌ ولا جزاءَ له إلَّا الجنّة، وأنّ الحاجّ يكون كيومِ ولدته أُمُّه، وأنّه يمكثُ أربعةَ أشهرٍ تكتَب له الحسنات، ولا تكتَب عليه السّيّئات إلَّا أن يأتي بمُوجِبَة، فإذا مضتِ الأربعةُ الأشهر خُلط بالنّاس، وأنّ الحاجّ يصدرون على ثلاثة أصناف: صنفٌ يُعتَقُ من النّار، وصنفٌ يخرج من ذنوبه كهيئة يوم وَلَدَتْه أمُّه، وصنفٌ يحفَظُ في أهله وماله، فذلك أدنى ما يرجع به الحاجّ. وأنّ الحاجّ إذا دخلَ مكَّة وكَّلَ اللهُ به ملكَين يحفظان عليه طوافَه وصلاتَه وسعيَه، فإذا وقفَ بعرفة ضربا على منكبِه الأيمن ثمّ قالا: أمّا ما مضى فقد كُفِيتَه، فانظر كيف تكون في ما تستقبل».
 وفي آخر: «وإذا قضوا مناسكَهم قيلَ لهم: بَنَيْتُم بنياناً فلا تَنقضوه، كُفيتم ما مضى، فأحسِنوا فيما تستقبلون».
وفي آخر: «إذا صلَّى ركعتَي طواف الفريضة يأتيه ملَكٌ فيَقفُ عن يساره، فإذا انصرفَ ضربَ بيدِه على كتفِه فيقول: يا هذا، أمّا ما قد مضى فقد غُفِرَ لك، وأمّا ما يستقبل فجدّ».
وفي آخر: «إذا أخذَ الناسُ منازلَهم بمِنى نادى مُنادٍ: لو تعلمونَ بفِناء مَن حَلَلْتُم لَأَيْقَنْتُم بالخلف بعد المغفرة». وفي آخر: «إنْ أردتُم أن أرضى فقد رَضِيتُ».

وعن الثُّماليّ قال: قال رجلٌ لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: تركتَ الجهادَ وخشونتَه، ولزمتَ الحجَّ ولِينَه، قال: وكان متّكئاً فجلس وقال: «ويحَك، أما بلغَك ما قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله في حجّة الوداع أنّه لمّا وقف بعرفة وهمّت الشّمس أن تغيبَ، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: يا بلال، قُل للنّاس فَلْيُنصتوا، فلمّا أنصتوا قال: إنّ ربّكم تطوّلَ عليكم في هذا اليوم فغفرَ لمُحسنِكم، وشفّعَ محسنَكم في مُسيئكم، فأَفيضوا مغفوراً لكم».
وقال النّبيّ
صلّى الله عليه وآله لرجلٍ مميَّل (متموّل) فاتَه الحجّ، والتمَس منه ما به ينال أجرَه: «انظر إلى [جبل] أبي قُبيس، فلو أنّ أبا قُبيس لك ذَهبةٌ حمراء أنفقتَه في سبيل الله تعالى ما بلغتَ ما يبلغ الحاجّ»،ثمّ قال: «إنّ الحاجّ إذا أخذَ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يَضَعْهُ إلَّا كتب اللهُ له عشر حسنات، ومَحى عنه عشرَ سيّئات، ورفع له عشرَ درجات، فإذا ركبَ بعيرَه لم يرفع خفّاً ولم يضَعْهُ إلَّا كتبَ اللهُ له مثل ذلك، فإذا طافَ بالبيت خرجَ من ذنوبِه، فإذا سعى بين الصّفا والمَروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمَشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه». قال: فعدَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كذا وكذا موقفاً إذا وقفَها الحاجُّ خرجَ من ذنوبه، ثمّ قال: «أنّى لكَ أن تبلغَ ما يبلغُ الحاجّ».

وقال الصّادق عليه السّلام: «إنّ الحجّ أفضل من عتق رقبة، بل سبعين رقبة». بل ورد أنّه «إذا طافَ بالبيت وصلَّى ركعتَيه كتب اللهُ له سبعين ألف حسنة، وحطَّ عنه سبعين ألف سيّئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفّعه في سبعين ألف حاجة، وحسب له عتقَ سبعين ألف رقبة، قيمة كلّ رقبة عشرة آلاف درهم، وأنّ الدّرهم فيه أفضل من ألفَي ألف درهم في ما سواه من سبيل الله تعالى، وأنّه أفضل من الصّيام والجهاد والرّباط، بل من كلّ شيءٍ ما عدا الصّلاة». بل في خبرٍ آخر «أنّه أفضل من الصّلاة أيضاً»، ولعلَّه لاشتماله على فنونٍ من الطّاعات لم يشتمل عليها غيره حتّى الصّلاة التي هي أجمعُ العبادات، أو لأنّ الحجّ فيه صلاة، والصّلاة ليس فيها حجّ، أو لكونه أشقّ من غيره، وأفضلُ الأعمال أحمَزُها [أي أمتنُها وأقواها وأشدّها، وقيل أمَضّها وأشَقّها]، والأجْر على قدر المَشَقَّة.

من حجّ أربع حِجج لم تُصبه ضَغطة القبر أبداً  
** ويُستحبّ تكرار الحجّ والعمرة وإدمانُهما بقدر القدرة، فعن الصّادق عليه السلام: قال رسول الله  صلَّى الله عليه وآله: «تابعوا بين الحجّ والعُمرة فإنّهما ينفيان الفقرَ والذّنوب، كما ينفي الكيرُ خُبثَ الحديد».
وقال عليه السلام: «حِججٌ تَتْرى، وعُمَرٌ تسعى، يَدفَعْنَ عَيْلَةَ الفقر وميتةَ السّوء». وقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: «حجّوا واعتمروا تصحّ أبدانُكم وتتّسع أرزاقُكم، وتكفون مَؤوناتِ عيالِكم». 
** وكما يستحبّ الحجّ بنفسه كذا يستحبّ الإحجاج بماله، فعن الصّادق
عليه السلام أنّه كان إذا لم يحجّ أحجَّ بعضَ أهلِه أو بعضَ مواليه، ويقول لنا: «يا بنيّ، إنِ استَطعتم فلا يقف النّاسُ بعرفات إلَّا وفيها مَن يدعو لكم، فإنّ الحاجّ ليشفّع في وُلده وأهلِه وجيرانِه».

وقال الصّادق عليه السلام لإسحاق بن عمّار لمّا أخبرَه أنّه موطَّنٌ على لزوم الحجّ كلّ عام بنفسِه أو برَجل من أهلِه بمالِه: «فَأَيْقِنْ بكَثرة المال والبَنين، أو أبشِر بكَثرة المال».
وفي كلّ ذلك روايات مستفيضة يضيق عن حصرها المقام، ويظهر من جملةٍ منها أن تكرارها ثلاثاً أو سنة وسنة لا إدمان، ويُكره تركُه للمُوسِر في كلّ خمس سنين، وفي عدّة من الأخبار: «أنّ مَن أوسعَ اللهُ عليه وهو موسِرٌ ولم يحجّ في كلّ خمس-وفي رواية أربع سنين- إنّه لمَحروم»، وعن الصّادق
عليه السلام: «مَن حجّ أربع حِجَج لم تُصبه ضغطةُ القبر أبداً».

 

قراءةٌ في أسرار الحجّ
هكذا يستعدّ الحُجّاج
 ـــــ الفقيه النّراقي، صاحب (جامع السّعادات) ـــــ

 


«اعلم أنّ الحجّ أعظمُ أركان الدّين، وهو أهمُّ التّكاليف الإلهيّة وأثقلُها، وأَعْظِمْ بعبادةٍ ينعدمُ بفَقدها الدِّين، ويساوي تاركُها اليهودَ والنّصارى في الخسرانِ المُبين».
بهذا افتتحَ الفقيه الشّيخ محمّد مهدي النّراقي
(ت: 1209 للهجرة) حديثَ الحجّ في كتابه الخالد (جامع السّعادات)، وأضاف:


والأخبارُ التي وردتْ في فضيلتِه وفي ذمّ تاركه كثيرة مذكورة في كُتب الأخبار، والأحكام والشّرائط الظّاهرة له على عُهدة الفقهاء، فلنُشِر إلى الأسرار الخفيّة، والأعمال الدّقيقة والآداب الباطنة، التي يبحث عنها أربابُ القلوب:

الغرضُ من إيجاد الإنسان، وموقعُ الحجّ من ذلك

اعلم أنّ الغرض الأصليّ من إيجاد الإنسان معرفةُ الله تعالى والوصولُ إلى حبّه والأُنس به، والوصولُ إليه بالحبّ والأُنس يتوقّف على صفاء النّفْس وتجرُّدها. فكلّما صارت النّفْس أصفى وأشدّ تجرّداً، كان أُنسها بالله وحبّها له أشدّ وأكثر. وصفاءُ النّفْس وتجرّدها موقوفٌ على التّنزّه عن الشّهوات والكفّ عن اللّذات، والانقطاع عن الحطام الدّنيويّة، وتحريك الجوارح وإيقاعها لأجله في الأعمال الشّاقّة، والتّجرّد لذكره وتوجيه القلب إليه.

ولذلك شُرِّعت العبادات المشتملة على هذه الأمور، إذ بعضُها إنفاقُ المال وبذلُه الموجبُ للانقطاع عن الحطام الدّنيويّة، كالزّكاة والخُمس والصّدقات، وبعضها الكفّ عن الشّهوات واللَّذات، كالصّوم، وبعضها التّجرّد لذكر الله وتوجيه القلب إليه، وارتكاب تحريك الأعضاء وتَعَبِها، كالصّلاة.

والحجُّ من بينها مشتَملٌ على جميع هذه الأمور مع الزّيادة، إذ فيه هجرانُ أوطان، وإتعابُ أبدان، وإنفاقُ أموال، وانقطاعُ آمال، وتحمّلُ مشاقّ، وتجديدُ ميثاق، وحضورُ مشاعر، وشهودُ شعائر، ويتحقّق في أعماله التّجرّد لذكر الله، والإقبال عليه بضروب الطّاعات والعبادات، مع كون أعماله أموراً لا تَأْنَسُ بها النّفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كَرَمي الجمار بالأحجار، والتّردّد بين الصّفا والمـَرْوَة على سبيل التّكرار، إذ بمثل هذه الأعمال يظهر كمالُ الرِّقِّ والعبوديّة.

فإنّ سائر العبادات أعمالٌ وأفعالٌ يظهر وجهُها للعقل، فَللنّفس إليها مَيْل، وللطّبع بها أُنس.

وأمّا بعض أعمال الحجّ، كَرَمْي الجِمار وتردّدات السّعي فلا حظَّ للنّفس ولا أُنسَ للطّبع فيها ولا اهتداءَ للعقل إلى معانيها، فلا يكون الإقدامُ عليها إلّا لمجرّد الأمر وقصد الامتثال له، من حيث إنّه أمرٌ واجبُ الاتّباع، ففيها عَزْلُ العقل عن تصرّفه، وصرفُ النّفس والطّبع عن محلّ أُنسه، فإنّ كلّ ما أدرك العقلُ معناه مالَ الطّبعُ إليه مَيْلاً مّا، فيكون ذلك المَيل مُعِيناً للامتثال، فلا يظهر به كمالُ الرّقّ والانقياد، ولذلك قال النّبيّ صلّى الله عليه وآله في الحجّ على الخصوص: «لبّيكَ بحِجّةٍ حقّاً، وتَعبُّداً ورِقّاً»! ولم يقل ذلك في غيره من العبادات.

فمثلُ هذه العبادات -أي ما لم يهْتدِ العقل إلى معناه ووجهه- أبلغُ أنواع العبادات في تزكية النّفوس وصَرْفها عن مقتضى الطّبع والبَغي إلى الاسترقاق، فتَعجُّب بعض النّاس من هذه الأفعال العجيبة مصدرُه الجهل بأسرار التّعبدّات، وهذا هو السّرّ في وضع الحجّ، مع دلالة كلّ عملٍ من أعماله على بعض أحوال الآخرة، أو في بعض أسرارٍ أُخَرَ -كما يأتي- ما فيه من اجتماع أهل العالم في موضعٍ تكرّرَ فيه نزولُ الوحي، وهبوطُ جبرئيل وغيرِه من الملائكة المقرّبين على رسوله المكرَّم، ومِن قَبله على خليله المعظَّم -عليهما أفضلُ الصّلاة- بل لا يزال مرجعاً ومنزلاً لجميع الأنبياء، من آدم إلى خاتَم الأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلّاً لنزول طوائف الملائكة. وقد تولّدَ فيه سيّدُ الرُّسُل صلّى الله عليه وآله، وتوطّأت أكثرَ مواضعه قدمُه الشّريفة وأقدامُ سائر الأنبياء، ولذلك سُمِّيَ بـ «البيت العتيق»، وقد شرّفه اللهُ تعالى بالإضافة إلى نفسه، ونصبَه مقصداً لعباده، وجعل ما حَوالَيْه حَرَماً لبيتِه، وتفخيماً لأمره، وجعل عرفات كالميدان على فِناء حَرَمِه، وأكّد حُرمةَ الموضع بتحريم صيدِه، وقَطْعِ شجرِه، ووضعَه على مثال حضرة الملوك، فقصدَه الزّوّار من كلّ فجٍّ عميق، ومن كلّ أَوْبٍ سحيق، شُعْثاً غُبْراً، متواضعين لِرَبّ البيت، ومُستكينين له، خضوعاً لجلاله، واستكانةً لعزّته وعظَمته، مع الاعتراف بتنـزّهه عن أن يحويه بيتٌ أو يكتنفَه بلد.

ولا ريب في أنّ الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول الموالفة والمصاحبة، ومجاورة الأبدال والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد، وتَظاهرِ الهِمم، وتعاونِ النّفوس على التّضرّع والابتهال والدّعاء الموجبِ لسرعة الإجابة بذكر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وإجلاله، ونزول الوحي عليه، وغايةِ سعيه واهتمامِه في إعلاء كلمة الله ونشر أحكام دينه، فتحصل الرّقّةُ للقلب، والصّفاءُ للنّفس.

ثمّ لِكون الحجّ أعظم التّكليفات لهذه الأمّة، جُعل بمنزلة الرّهبانيّة في المِلَل السّالفة، فإنّ الأممَ الماضية إذا أرادوا العملَ لأصعب التّكاليف وأشقّها على النّفس، انفردوا عن الخَلق، وانحازوا إلى قُلل الجبال، وآثروا التّوحُّشَ عن الخلق بطلب الأُنس بالله، والتّجرّد له في جميع الحركات والسَّكَنات، فتركوا اللّذّات الحاضرة، وألزموا أنفسهم الرّياضات الشاقّة، طمعاً في الآخرة، وقد أثنى اللهُ عليهم في كتابه، وقال: ﴿..ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ المائدة:82، وقال تعالى: ﴿..وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ..﴾ الحديد:27. ولمّا اندرسَ ذلك، وأقبل الخلقُ على اتّباع الشّهوات، وهجَروا التّجرّد لعبادة الله تعالى، وفرّوا عنها، بعث اللهُ تعالى من سرّة البطحاء محمّداً صلّى الله عليه وآله، لإحياء طريق الآخرة، وتجديدِ سنّة المرسلين في سلوكها، فَسأَلهُ أهلُ المِلَل عن الرّهبانيّة والسّياحة في دينه، فقال صلّى الله عليه وآله: «أبدَلَنا بالرّهبانيّة الجهادَ، والتّكبيرَ على كُلّ شَرَف [مرتَفَع] -يعني الحجّ- وأبدلَنا بالسّياحة الصّومَ». فأنعمَ اللهُ على هذه الأمّة، بأن جعلَ الحجّ رهبانيّةً لهم، فهو بإزاء أعظم التّكاليف والطّاعات في المِلل السّابقة.

 



ينبغي للحاجّ عند (العزم على) الحجّ، مراعاةُ أمور:
الأوّل: أن يجرّدَ نيّته لله، بحيث لا يشوبُها شيءٌ من الأغراض الدّنيويّة، ولا يكون باعثُه على التّوجّه إلى الحجّ إلّا امتثال أمر الله ونيْل ثوابه، والاستخلاص من عذابه، فَليَحذر كلّ الحذر أن يكون له باعثٌ آخر، مكنونٌ في بعض زوايا قلبه، كالرّياء والحَذَر عن ذمّ النّاس وتفسيقهم (إنْ لم) يحجّ، أو الخوف من الفقر وتلَف أموالِهم لو ترك الحجّ، لما اشتُهر من أنّ (تاركَ الحجّ يُبتلى بالفقر والإدبار)، أو قصد التّجارة أو شُغلٍ آخر، فإنّ كلّ ذلك يُخرج العملَ من الإخلاص، ويحجبُه عن الفائدة وترتُّب الثّواب الموعود، وما أجهلَ مَن تحمّل الأعمال الشاقّة التي يُمكن أن تحصل بها سعادةُ الأبد، لأجل خيالاتٍ فاسدةٍ لا يترتّب عليها سوى الخُسران فائدة، فَلْيَجتهد كلَّ الجُهد أن يجعلَ عزمَه خالصاً لوجه الله، بعيداً عن شوائب الرّياء والسُّمعة، ويتيقّن أنّه لا يُقبَلُ من قصدِه وعمله إلّا الخالص، وأنّ من أفحش الفواحش أن يقصدَ بيتَ المَلِكِ وحرمَه والمقصودُ غيرُه، فَلْيُصحّح في نفسه العَزم، وتصحيحُه بإخلاصه باجتنابِ كلّ ما فيه رياءٌ وسُمعة.

 

***
الثاّني: أن يتوبَ إلى الله تعالى توبةً خالصة، ويردّ المظالم، ويقطع علاقةَ قلبِه عن الالتفات إلى ما وراءَه، ليكون متوجّهاً إلى الله بوجهِ قلبِه، ويقدّر أنّه لا يعود، وَلْيَكتبْ وصيّته لأهله وأولاده، ويتهيّأ لسَفر الآخرة، فإنّ ذلك بين يدَيه على قُرب، وما تقدّمه من هذا السَّفَر تهيئةٌ لأسباب ذلك السَّفَر، فهو المستقَرّ وإليه المصير. فلا ينبغي أن يغفلَ عن ذلك عند الاستعداد. لهذا، فَلْيَتَذَكَّر عند قَطعِه العلائقَ لسَفر الحجّ، قطعَ العلائق لسَفر الآخرة.
 ***
 الثّالث: أن يعظّم في نفسه قدْرَ البيت وقدْرَ ربّ البيت، ويعلم أنّه تركَ الأهل والأوطان، وفارق الأحبّةَ والبلدان، للعزم على أمرٍ رفيعٍ شأنُه، خطيرٍ أمْرُه: أعني زيارةَ بيت الله الذي جُعل مَثابةً للنّاس، فسفرُه هذا لا يُضاهي أسفارَ الدّنيا.
* فَلْيُحضر في قلبِه ماذا يريد، وأين يتوجّه، وزيارة مَن يقصد، وأنّه متوجِّهٌ إلى زيارة مَلِكِ الملوك في زُمرةِ الزّائرين إليه، الذين نُودُوا فأجابوا، وشُوِّقوا فاشتاقوا
، ودُعوا فقَطعوا العلائقَ وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت الله الرّفيع قدرُه والعظيم شأنُه، تَسَلِّياً بلقاء البيت عن لقاء صاحبِه، إلى أن يُرزَقوا منتَهى مُناهم، ويسعدوا بالنَّظر إلى مولاهم.

** {أي} فَلْيُحضر في قلبه عِظَمَ السَّفَر، وعظَمةَ البيت، وجلالةَ ربّ البيت، ويخرج معظِّماً لها، ناوياً إنْ لم يصلْ وأدركَتْه المنيّة في الطّريق لَقِيَ اللهَ وافداً إليه بمقتَضى وعدِه.
 ***
الرّابع: أن يخلّي نفسه عن كلّ ما يشغلُ القلب، ويفرّقُ الهمّ في الطّريق، أو المقصود، من معاملةٍ أو مثلها، حتّى يكون الهمُّ مجرَّداً لله، والقلب مطمئنّاً منصرفاً إلى ذكر الله وتعظيمِ شعائرِه، متذكّراً عند كلّ حركة وسكون أمراً أُخرويّاً يناسبُه.
 ***
الخامس: أن يكون زادُه حلالاً، ويوسع فيه ويطيِّبه، ولا يغتمّ ببَذله وإنفاقه، بل يكون طيِّبَ النّفْس به، إذ إنفاقُ المال في طريق الحجّ نَفَقةٌ في سبيل الله، والدّرهمُ منه بسبعمائة درهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «من شَرفِ الرَّجُل أن يُطيّب زادَه إذا خرجَ في سفر». وكان السّجّاد عليه السلام إذا سافرَ إلى الحجّ، يتزوّدُ من أطيب الزّاد، من اللّوز والسّكّر والسُّوَيْق المُحمَّض والمُحلّى. وقال الصّادقُ عليه السلام: «إذا سافَرْتُم، فاتّخذوا سفرةً وتَنَوّقوا فيها». وفي رواية: إنّه يُكرَه ذلك في زيارة الحسين عليه السلام.
نعم ينبغي أن يكون الإنفاقُ [في الحجّ] على الاقتصاد من دون تقتيرٍ ولا إسراف، والمرادُ بالإسراف التّنعُّم بأطائب الأطعمة، والتّرفُّـه بصَرف أنواعها على ما هو عادةُ المُترَفين، وأمّا كثرةُ البَذْل على المستحقّين، فلا إسرافَ فيه، إذ لا خيرَ في السَّرَف، ولا سَرَفَ في الخير.
وينبغي –أيضاً- أن يكون ".." طيّبَ النّفس في ما أصابه من خسرانٍ ومصيبةٍ في مالٍ وبَدَن، لأنّ ذلك من دلائل قبولِ حَجِّه، فإنّ ذهابَ المال في طريق الحجّ يُعَدُّ الدّرهمُ منه سبعمائة في سبيل الله، فالمصيبة في طريق الحجّ بمنزلة الشّدائد في طريق الجهاد، فلَه بكلّ أذًى احتملَه وخسرانٍ أصابَه ثوابٌ، فلا يضيعُ منه شيءٌ عندَ الله تبارك وتعالى.
***  
السّادس: أن يستحسنَ خُلُقَه (يتعمّد تحسينَ خُلُقِه)، ويطيّب كلامَه، ويُكثر تواضَعه، ويجتنب سوءَ الخُلق والغِلظةَ في الكلام، والرَّفَثَ والفسوقَ والجدال. والرَّفثُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ فُحشٍ ولَغوٍ وخَنَى، والفسوقُ اسمٌ جامعٌ لكلّ خروجٍ عن طاعة الله، والجدالُ هو المبالغة في الخصومة والمُماراة بما يورثُ الضّغائن، ويفرّقُ الهمَّ ويناقضُ حُسنَ الخُلق. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «الحجُّ المَبرور ليس له جزاءٌ إلّا الجنّة»، فقيلَ: يا رسولَ الله، ما برُّ الحجّ؟ قال: «طِيبُ الكلام، وإطعامُ الطّعام».  فلا ينبغي أن يكون كثيرَ الاعتراض على رفيقه وجَمّالِه، وعلى غيرهما من أصحابه، بل يليِّن جانبَه، ويخفّض جناحَه للسّائرين إلى بيت الله، ويَلزم حُسْنَ الخُلُق، وليس حُسن الخُلق مجرّدَ كفِّ الأذى، بل احتمالُ الأذى، وقيل: سُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرَاً، لأنّه يُسْفِرُ عن أخلاق الرّجال.
 ***  
السّابع: أن يكونَ أشعثَ أغبر، غيرَ متزيّنٍ ولا مائلٍ إلى أسباب التّفاخر والتّكاثر، فيكتَب في المتكبّرين ويخرج عن حزب الضّعفاء والمساكين، ويمشي إنْ قَدِرَ خصوصاً بين المشاعر. وفي الخبر: «ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ أفضلَ من المَشي». وينبغي ألّا يكونَ الباعث للمَشي تقليلَ النّفَقة، بل التّعبُ والرّياضةُ في سبيل الله، ولو كان القصدُ تقليلَ النّفَقة مع اليسار، فالرّكوب أفضل. وكذا الرّكوب أفضل لمَن ضَعُفَ بالمشي، وساءَ خُلقه، وقصَّر في العمل، ففي الخبر: «تَركبون أحبُّ إليّ، فإنّ ذلك أقوى على الدّعاء والعبادة». وكان الحسينُ بن عليّ عليهما السلام يمشي وتُساق معه المَحاملُ والرِّحال. وإذا حَضَرَتِ الرّاحلةُ لِيَركبَها، فَلْيَشكرِ اللهَ تعالى بقلبِه على تسخيره الدّوابَّ له، لتتَحمّل عنه الأذى، وتخفّ عنه المشقّة. وينبغي أن يرفقَ بها، فلا يحمّلها ما لا تطيق.   (النّراقي، جامع السّعادات: ج 3، ص 306 – 311)

طلبُ المسامحة، وأداءُ حقوق الله والنّاس
الاستعانة بالحجّ على الموت وما بعدَ الموت
 ـــــ الفقيه العَلَم الشّهيد الثّاني قدّس سرّه ـــــ  
 
واحدٌ وثلاثون توجيهاً، منسوبة إلى الإمام الصّادق عليه السلام أوردها الشّهيد الثّاني مطمئنّاً بنسبتِها إليه عليه السّلام، وأوردَ بين يدَيها 24 توجيهاً مستفادةً منها، ليُتاحَ للحاجّ -بالعكوف على التّدبّر فيها- أن يؤدّيَ مناسكَه على أكملِ وجهٍ وأتمِّه.
قال الشّهيد الثّاني زين الدّين الطّلّوسيّ، الجبعيّ، العامليّ قدّس سرّه. يُستَحبّ لمَنْ أرادَ الحجّ:
1-قَطْعُ العلائقِ بينَه وبينَ مُعامِليه.
2-   وإيصالُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
3-    واختيارُ يومٍ صالحٍ للسّفر كالسّبْتِ والثّلاثاء.
4-         ورفيقٍ صالحٍ.
5-           وتحسينُ الخُلُقِ زيادةً على الحَضَر.
6-             والتّوَسّعُ في الزّاد.
7-                 وطِيبُ النَّفْسِ في البَذل.
 8- والإنفاقُ بالعَدلِ، دونَ البُخْل والتّقتير والتّبذيرِ، فإنّ بَذْلَ الزّادِ في طريق مكَّةَ إنفاقٌ في سبيل الله.

 
قال صلّى الله عليه وآله: «الحجُّ المبرورُ ليس له أجرٌ إلّا الجنّةَ. فَقيل: يا رسولَ الله، ما بِرُّ الحجّ؟ قال: طِيبُ الكلام وإطعامُ الطّعام». وعن الصّادق عليه السلام: «درهمٌ واحدٌ في الحجّ أفضلُ مِن ألفَي ألفِ درهمٍ فيما سِواه في سبيل الله، والهديّةُ مِن نَفَقة الحجّ».
     فإذا عَزَمَ على الخروج
1- صَلَّى في منزله ركعتَينِ فإنّهما أفضلُ ما اسْتَخْلَفَه الرَّجُلُ على أهلِه، ويقول بعدَهما: «أللّهُمّ إنّي أسْتَوْدِعُكَ نَفْسي وأَهلي ومَالي وذُرّيّتي ودُنياي وآخرتي وأمانَتي وخاتمةَ عَمَلي»، فيُعطيه اللهُ ما يَسْألُ، كما وردَ في الخبر.
2- ويَفْتَتِحُ سفرَه بالصَّدَقة.
3- ثمّ يَقومُ على باب داره، ويَقرأُ فاتحةَ الكتاب وآيةَ الكرسيّ أمامَه الذي يتوجّهُ نحوَه، وعن يمينِه وشمالِه، ويَدْعو بكلمات الفَرَج مُضِيفاً إليها:
 «أللّهمّ احْفَظْني واحْفَظْ ما مَعي، وسَلِّمْني وسَلِّمْ ما مَعي، وبَلِّغْني وبلِّغْ ما َمعي ببَلاغِك الحَسَنِ الجَميلِ، والحَمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ»، ثمّ يقول: «أللّهمّ كُنْ لي جَاراً مِنْ كُلِّ جبّارٍ عنيدٍ، ومِنْ كُلِّ شَيطانٍ مَريدٍ»، ثمّ يقول: «بِاسم اللهِ دَخَلْتُ، وباسمِ اللهِ خَرَجْتُ، وفي سبيلِ اللهِ تَوَجَّهْتُ، أللّهُمّ إنّي أُقَدِّمُ بينَ يدَي نِسْياني وعَجَلَتي باسمِ اللهِ وما شاءَ اللهُ في سَفَري هذا، ذكرتُه أو نَسِيتُهُ، أللّهُمّ أنتَ المُسْتَعانُ على الأُمور كُلِّها، وأنتَ الصّاحبُ في السَّفَر والخَليفةُ في الأهل، أللّهُمّ هَوِّنْ علينا سَفَرَنا، واطْوِ لنا الأرضَ، وسَيِّرْنا فيها بطَاعتِك وطاعةِ رَسولِك، أللّهمّ أصْلِحْ لنا ظَهْرَنا، وبارِكْ لنا في ما رَزَقْتَنا، وَقِنَا عذابَ النّار، أللّهُمّ إنّي أعوذُ بك مِنْ وَعْثاءِ السَّفَر وكَآبةِ المُنْقَلَب وسوءِ المنْظَر في الأهلِ والمالِ والوَلَد، أللّهُمّ أنت عَضُدي وناصِري، بك أَحُلُّ وبك أسِيرُ، أللّهُمّ إنّي أسألُكَ في سَفري هذا السّرورَ والعملَ بما يُرْضِيك عنّي، أللّهمّ اقْطَعْ عنّي بُعدَه ومَشَقّتَه، واصْحَبْني فيه، واخْلُفْنِي في أهلي بخَيرٍ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله.
 اللهمّ إنّي عبدُك، وهذا حُمْلانُك، والوجهُ وجهُك، والسَّفرُ إليك، وقد اطَّلَعْتَ على ما لم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ غيرُك، فاجْعَلْ سَفَري هذا كفّارةً لِما قَبْلَه مِنْ ذنوبي، وكُنْ عَوناً لي عليه، واكفِني وَعْثَه ومَشَقّتَه، ولَقِّنّي مِنَ القولِ والعملِ رضاكَ، فإنّما أنا عبدُك وبِكَ ولَك».
4-
ثمّ ينوي: «أتوَجَّهُ إلى البيتِ الحَرام والمشاعِرِ العظامِ لِأَعْتَمِرَ عُمرةَ الإسلام، عُمْرةَ التّمتُّع، وأحُجّ حجَّ الإسلام، حجَّ التّمتُّعِ لوجوبِه قربةً إلى الله».
5-وليَخْرُج مُتَحَنِّكاً لِيَرْجِعَ إلى أهلِه سالِماً.
6- مُتَطَهِّراً، لِتُقضى حاجتُه.
7- فإذا وَضَعَ رِجلَه في الرّكاب فَلْيَقُلْ: «بسم الله الرّحمن الرّحيم، باسم اللهِ واللهُ أكبرُ».

 

8- فإذا اسْتَوى على راحلتِه فليَقُلْ: «الحَمدُ للهِ الذي هَدانا للإسلام، ومَنَّ علينا بمُحمّدٍ صلَّى الله عليه وآله، سُبْحانَ الله، ﴿..سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ الزخرف:13، وَالحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، أللّهُمّ أنتَ الحاملُ على الظَّهْر، والمُسْتعانُ على الأمر، أللّهُمّ بَلِّغْنا بَلاغاً يُبَلِّغُ إلى خَيرٍ، بلاغاً يُبَلِّغُ إلى مَغْفرتِك ورضوانِك، أللّهمّ لا طيرَ إلّا طيرُكَ، لا خيرَ إلّا خيرُك، ولا حافِظَ غيرُك».
  ويَنبغي أنْ يَخْرُجَ
1- رَثَّ الهيئةِ أقْرَبَ إلى الشَّعَث، مُلازِماً ذلكَ في السَّفَر، فَخيرُ الحاجّ الشَّعِثُ التَّفِثُ. يَقُولُ اللهُ لملائكته: «انظُروا إلى زُوّار بَيْتِي قد جَاؤوني شُعْثاً غُبْراً مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُم أنّي قد غَفَرْتُ لَهُم». 2- وأنْ يَرْكبَ الرّاحِلةَ دونَ المَحْمِلِ إلّا لِعُذر، تَأَسّياً بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله، فإنّه حَجَّ على راحِلتِه وكان تحتَه رَحْلٌ رَثّ، وقَطِيفَةٌ خَلِقَة، قيمتُه أربعةُ دراهمَ، وطافَ على الرّاحلةِ لِيَنْظُرَ النّاسَ، وقال: «خُذُوا عنّي مَناسِكَكُم».
3- وأنْ يَمْشِيَ مع القُدرة، فإنّ ذلك أفْضَلُ وأدْخَلُ في الإذعانِ لعبوديّة الله تعالى، أللّهُمّ إلّا أنْ يُنافِيَ ما هو أفضلُ منه.
4- وأنْ يَرْفُقَ بالدّابّة ولا يُحَمّلَها ما لا تُطِيقُ، وأنْ يَنْزِلَ عنها غُدْوَةً وعَشِيّةً.
 5- وأنْ يُصَلَّيَ في كلّ منزلٍ ركعتَينِ عند النُّزول والارتحال.
 6- وأنْ يَقولَ عند مشاهَدَة المنازلِ والقُرى: «أللّهُمّ ربَّ السّماءِ وما أظَلَّتْ، وربَّ الأرضِ وما أقَلَّتْ، وربَّ الرِّياح وما ذَرَتْ، وربّ الأنهار وما جَرَتْ، عرِّفْنا خيرَ هذه القريةِ وخيرَ أهلِها، وأعِذْنا مِن شرِّها وشرِّ أهلِها، إنّك على كُلِّ شيءٍ قدير».
7- وأنْ يكونَ طَيّبَ النّفسِ بما يُنْفِقُه وبما يُصِيبُهُ مُتَعَوِّضاً عنه بما عندَ الله، فإنّ ذلك مِن علامةِ قبول الحجّ.
 8- وأنْ يُحْضِرَ قلبَه في حركاتِه وسكناتِه فإنّه روحُ العبادة، فيَتَبَيّنُ له بذلك أنّ هذا السّفر مثالٌ لسَفر الآخرة فيَتَذَكَّرُ:   * بِوَصيِّتِه قبلَ السّفر وجَمْعِ أهلِهِ، اجتماعَهم على وصيّتِه عندَ إشرافِه على لقاء الله تعالى.
* وبتَهيئته الزّادَ والرّاحلةَ وملاحَظَةِ الاحتياجِ إليهما والتّعرّضِ للهلاك عند التّقصيرِ فيهما -مع قِصَرِ هذا السّفرِ- شدّةَ احتياجِه إلى ذلك في سَفر الآخرة، وتَعرُّضَه بل وقُوعه في الهلاك عند التّقصير في زادِه مِن الأعمال الصّالحة والتّوجّهات المُخْلِصة النّاجِحة.
* وبِذِلَّتِهِ وانكسارِه عندَ مشاهَدَةِ ذَوِي الأخطار العَظيمة والثّروة الجَسيمة مع نُفودِ زاده ونفُوق راحِلته، ما يَلْقاه المُقَصِّرُ مِن الذُّلّ والانكسار حين تجتمع الخلائقُ ببضائع الآخرة والمتاجِرِ الفاخرةِ، وهو مُفْلِسٌ مِن الأعمال مُضَيِّعٌ نفسَه بسابق الإهمال. إلى غيرِ ذلك من التّنبيهات إلى آخر الأفعال، وستأتي جملةٌ منها في الخاتمة إنْ شاء اللهُ تعالى.
 وقاعدةُ ذلك كُلِّهِ ومرجِعُه إلى ما رُوي عن مولانا الصّادق عليه السلام أنّه قال: «إِذَا أردتَ الحجَّ فـَ : 1- جَرِّدْ قلبَكَ لله تعالى مِن كلّ شاغِلٍ وحجابِ كلِّ حاجب.
2-   وفَوِّضْ أُمورَك كلَّها إلى خالقك.
 3-  وتوكَّلْ عليه في جميعِ ما يظهرُ مِن حَركاتِك وسَكَناتِك.
 4- وسَلِّمْ لقضائه وحُكْمِه وقَدَرِه.
 5-  وودِّع الدّنيا والرّاحةَ والخَلْق.
 6-  واخْرُجْ مِن حقوقٍ تَلْزَمُك مِن جِهة المَخلوقين.
7-  ولا تَعْتَمِدْ على زادِك وراحلتِك وأصحابِك وقُوّتِك وشَبابك ومالِك، مخافةَ أنْ يَصيرَ ذلك عَدُوّاً ووَبالًا، فإنّ مَنْ ادّعى رِضَى اللهِ واعْتَمَدَ على ما سِواه صَيّرَه عليه وَبالًا وعدُوّاً، لِيعلَمَ أنّه ليس له قُوَّةٌ ولا حيلة، ولا لأَحدٍ إلّا بعصمةِ الله تعالى وتوفيقِه.
 8-  واسْتَعِدّ استعدادَ مَنْ لا يَرجو الرّجوع.
 9-  وأحْسِنِ الصُّحْبَةَ.
10-    وَرَاعِ أوقاتَ فرائضِ الله وسُنَنِ نبيِّه صلّى الله عليه وآله، وما يجبُ عليك مِن الأدب والاحتمالِ والصّبرِ والشّكر والشّفَقَةِ والسّخاءِ وإيثارِ الزّادِ على دوام الأوقاتِ.
11-             واعلم بأنّ اللهَ تعالى لم يَفترضِ الحجَّ إلّا للاستعانة على الموتِ والقبر والبَعْثِ والقيامةِ والجنّةِ والنّار.
12-             ثمّ اغْسِلْ بماء التّوبةِ الخالصةِ ذُنوبَك.
 13-             والبِسْ كِسْوةَ الصِّدقِ والصّفاء والخضوع والخشوع.
14-             وأحْرِم من كُلِّ شيءٍ يَمْنَعُك عن ذِكر الله تعالى ويَحْجُبُك عن طاعتِه.
15-             ولَبِّ -بمَعنى إجابةٍ صافيةٍ خَالصةٍ زاكيةٍ- للهِ عزّ وجلّ في دَعوتك مُتَمَسِّكاً بالعُروة الوثقى.
16-             وطُفْ بقلبِك مع الملائكة حولَ العرش كطَوافك مع المسلمين بنَفسك حولَ البيت.
17-             وهَرْوِلْ هَرْولةً مِن هَواك وتَبَرُّؤاً مِن حَولِك وقُوَّتك.
 18-             واخْرُجْ مِنْ غَفْلتِك وزَلّاتِكَ بخُروجِك إلى مِنى. ولا تَتَمَنّ ما لا يَحِلُّ لكَ ولا تَسْتَحِقُّه.
 19-             واعتَرِفْ بالخطايا بعَرَفات.
 20-             وجَدِّدْ عهدَك عندَ الله تعالى بوحدانيَّتِه، وتقرَّبْ إليه واتَّقِهِ بمُزْدَلِفَةَ.
21-             واصْعَدْ بروحِك إلى المَلأ الأعلى بصعودِك إلى الجبل
22-             واذْبَحِ الهوى والطّمعَ عندَ الذّبيحة.
23-             وارمِ الشّهواتِ والخَساسةَ والدّناءةَ والذّميمةَ عندَ رَمْي الجَمَراتِ.
 24-             واحْلِقِ العيوبَ الظّاهرةَ والباطنةَ بِحَلْقِ شَعْرِك.
 25-             وادخُلْ في أمانِ الله تعالى وكَنَفِه وستْرِه وَكَلاءَتِه مِن متابعة مرادِك بدخولِكَ الحَرَم.
26-             ودُرْ حولَ البيتِ مُتَحقِّقاً لتعظيمِ صاحبِه ومعرفةِ جلالِه وسُلطانِه.
 27-             واسْتَلِمِ الحَجَرَ رضًى بقسمتِه وخُضوعاً لعزَّتِه.
 28-             ووَدِّعْ ما سِواه بطَواف الوَداع.
 29-             وصَفِّ روحَك وسِرَّكَ للقائه يومَ تَلْقاه بوقُوفِك على الصّفا.
 30-             وكُنْ بِمَرأى من الله عندَ المَرْوَة.
31-             واسْتَقِمْ على شرطِ حَجِّك هذا ووفاءِ عهدِك الذي عاهَدتَ مع ربِّك، وأوْجَبْتَه له إلى يومِ القيامة. واعلم بأنّ اللهَ تعالى لم يَفتَرضِ الحجَّ ولم يَخُصَّه مِن جميع الطّاعات بالإضافة إلى نفسِه بقوله عَزّ وجلّ: ﴿..وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..﴾ آل عمران:97، إلّا للاستعانةِ على الموتِ والقَبر والبَعْثِ والقيامةِ والجنّةِ والنّار. بمُشاهَدَة مَناسِكِ الحجّ مِن أوّلِها إلى آخرِها، وفي ذلك عِبرةٌ لأُولي الألباب والنُّهَى».   (الشّهيد الثّاني، أقلّ ما يجب معرفتُه من أحكام الحجّ والعُمرة، رسائل الشّهيد، ج1، ص 363)

بيوتُ الله تعالى متعدّدة
 أحدُها الكعبة، وأسماها القَلب*
 ـــــ الفقيه الشّيخ حسين قُلي الهمدانيّ قدّس سرّه ـــــ

اِعلم أيّها الطّالبُ للوصول إلى بيت الله الحرام أنّ لله جلّ شأنُه العظيم بيوتاً مختلفةً أحدُها يُسمّى الكعبة الظّاهريّة، التي أنت قاصدُها، وبيت المَقدس، والبيت المعمور، والعرش، وهكذا إلى أن نصلَ إلى حيث البيت الحقيقيّ الأصليّ الذي يُسمّى القلب، الذي هو أعظم من كلّ هذه البيوت..

ولا شكّ ولا ريبَ في أنّ لكلّ بيتٍ من البيوت لطَالبيه رسوماً وآداباً.

  أمّا ما هو معنى بيته؟ وهل هذه الإضافة «بيت الله» من باب التّشريف أو غير ذلك، فليس الهدف بيان ذلك.
 الهدف من هذه الرّسالة منحصرٌ بآداب الكعبة الظّاهريّة، غير تلك الآداب التي تذكَر في المناسك.
 وقد تُذكر ضمناً إشاراتٌ إلى آداب الكعبة الحقيقيّة على سبيل الإجمال.
.
أوّلاً: اِعلم أنّ الهدف من تشريع هذا العمل الشّريف: «الحجّ»، قد يكون أنّ الهدفَ المقصود الأصليّ من خَلْق الإنسان هو معرفةُ الله والوصول إلى درجة حبّه والأُنس به، ولا يُمكن حصول هذين الأمرَين إلّا بتصفية القلب، وذلك لا يُمكن حصوله أيضاً إلّا بكفّ النّفس عن الشّهوات والانقطاع من الدّنيا الدّنيّة و[حَمْلِها] على المشاقّ من العبادات: ظاهريّةً وباطنيّة.
 ومن هنا لم يجعل الشّارعُ المقدَّس العباداتِ نَسَقاً واحداً، بل جعلَها متنوّعة، حيث يتكفّل كلٌّ منها بإزالة رذيلةٍ من الرّذائل لتتمّ تصفية النّفس تماماً، بالاشتغال بتلك العبادة. فالصّدقات والحقوق الماليّة، يقطعُ أداؤها الميلَ إلى حُطام الدّنيا.

                      والصّومُ يقطعُ الإنسانَ عن المشتَهيات النّفسانيّة.                                
                                                 
والصّلاة تنهى عن كلّ فَحشاءٍ ومُنكَر.

 وهكذا سائرُ العبادات.
 ولإنّ الحجّ مجمعُ العناوين وزيادة، لأنّه يشتملُ على جملةٍ من مشاقّ الأعمال التي تتوفّر في كلٍّ منها صلاحيّةُ تصفية النّفس، مثل: إنفاق المال الكثير، والقطع عن الأهل والأولاد والوطن، والحشر مع النّفوس الشّرّيرة، وطيّ المنازل البعيدة، مع الابتلاء بالعَطش في الحرّ الشّديد في بعض الأوقات، والقيام بأعمال غير مأنوسة، لا تقبَلُها الطِّباع، من الرَّمْي والطّواف والسَّعي والإحرام وغير ذلك من الفضائل الكثيرة من قبيل:
 
- التّذكير بأحوال الآخرة، من خلال رؤية أصناف الخَلْق والاجتماع الحاشد في صُقعٍ واحد [بقعة واحدة] على نهجٍ واحد، لا سيّما في الإحرام والوقوفَين. [عرفات والمشعر الحرام]
- والوصول إلى محلّ الوحي ونزول الملائكة على الأنبياء، من آدم إلى الخاتَم صلوات الله عليهم أجمعين.

- والتّشرّف بمحلّ أقدام أولئك العظماء، مضافاً إلى التّشرّف بحَرم الله وبيتِه، مع الحصول على الرّقّة التي تُورث صفاءَ القلب برؤية هذه الأمكنة الشّريفة، مع الأمكنة الشّريفة الأُخَرَ التي لا تتّسع الرّسالة لتفصيلها.

 الحاصل..  حيث إنّ للحجّ فضائل كثيرة، ويتضمّن جملة من المشاقّ، فهو من أهمّ الأعمال، ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «استبدَلنا الرّهبانيّةَ بالجهاد والحجّ..».

 ولا يصلُ الإنسان إلى هذه الكرامة العظمى إلّا بملاحظة الآداب والرّسوم الحقيقيّة وهي أمور:

 
الأوّل: أنّ كلّ عبادة من العبادات، يجب أن تكون بنيّة صادقة، وتُؤدّى بقصد امتثال أمر الشّارع، لتصبحَ عبادة، فمَن أراد الحجّ يجب أوّلاً أن يتأمّل بعض الشّيء في نيّته، فيضع هوى النّفس جانباً، ويرى هل أنّ هدفَه من هذا السّفر هو امتثالُ الأمر الإلهيّ، والحصول على ثوابه تعالى، والفرار من عقابه، أم أنّ هدفه -نستجيرُ بالله- تحصيلُ الاعتبار، أو خوفُ ذَمِّ النّاس، أو تفسيقُهم له، أو الخوف من الفقر، بناءً على أنّ كلّ مَن ترك الحجّ ابتُلِيَ بالفقر، أو أمور أخرى من قبيل التّجارة، والنّزهة والسّياحة في البلاد، وغير ذلك.

 إذا تأمّل في نفسه جيّداً استطاعَ أن يدركَ حقيقة نيّته، ولو بالآثار، فإذا تبيّن له أنّ الهدف ليس الله تعالى، وجبَ أن يسعى في إصلاح قَصْدِه بأن يلتفتَ على الأقلّ إلى قُبح عملِه، حيث قصدَ حريمَ مَلِك الملوك لمثل هذه الأمور العبثيّة، فيشعر على الأقلّ بالخَجل بدلاً من الغرور والعُجب.

 الثّاني: أنّ يُهيّئ نفسَه لحضور مجلس الرّوحانيين بتوبةٍ صادقة، بجميع مقدّماتها التي من جملتها ردّ الحقوق سواء الماليّة [أو المعنويّة] مثل الغِيبة، وأذيّة هَتْك الغير وجَرْح كرامته.. وسائر الجنايات على الآخرين ممّا يجب الاستحلالُ من أصحابها، بالتّفاصيل المذكورة في محلّها.
 * ويحسن إيقاعُ التّوبة بعد هذه المقدّمات في يوم الأحد كما هو مذكور في (منهاج العارفين) [راجع: مفاتيح الجنان، عمل يوم الأحد من ذي القعدة]، وإذا كان أحد والدَيه على قيد الحياة، فلْيُرضِه عنه مهما أمكن، ليَخرجَ من منزله طاهراً نقيّاً، بل يزيل تمام تعلّقاته، ويقطع رأس انشغالِ قلبه وعدم حضوره، ليتوجّه بتمام قلبِه إلى الله، ولْيتَصرّف على أساس أنّه لن يرجع أبداً.
 * وبناءً على هذا، يجب أن يُوصيَ وصيّة تامّة كاملة، بمعرفة أشخاص خيّرين، عارفين، ليُوضحوا له كيفيّة الوصيّة، فلا يضيق الأمر على الوصيّ، بل يجعله وصيَّه في الثّلث ويترك له حريّة الحركة، حتّى لا يقع مسلمٌ بسببِه بعدَ موتِه في الحَرَج.. * ومع ذلك يترك أهلَه وعيالَه في كفالة الكفيل الحقيقيّ، فإنّه خيرُ مُعينٍ ونِعْمَ الوكيل.

 وباختصار، إنّ عليه أن يتصرّف بحيث أنّه إذا لم يرجع فلا يكون قد بَقِيَ أيُّ جزئيٍّ من جزئيّات أموره معلّقاً.. بل.. كذلك يجب أن يكون مَن لا يعرف تماماً متى يموت.

   فرّغ قلبَكَ من الأغيارِ إذا قصدتَ محلّتنا        لا تنظرْ إلى الغير إذا كنتَ تَهوانا
  (من تعليقة الأصفهانيّ. مضمون بيت فارسيّ)

 الثّالث: أن لا يُهيّئ لنفسه في سفره أسبابَ انشغال القلب، فيمنعه ذلك عن أن يكون في حَركاته وسكَناته في ذكر المحبوب (سبحانه) سواء كانت أسباب الانشغال هذه من قبيل العيال والأولاد أو الرّفيق غير الملائم للطّبع، أو بضاعة للتّجارة أو غير ذلك.. المهمّ أن لا يُهيّئ هو بيدِه ما يضطرّه إلى صرف اهتمامه فيه.. بل إذا استطاع فليُسافر مع أشخاص يغلب عليهم تذكيرُه.. أو يذكّرونه دائماً كلّما غفل "..".

الرّابع: أن يبذل الجهد مهما أمكنَه، لإحراز حِلّيّة مصرفه، ويأخذ منه ما يزيد على حاجته، وأن لا يضيق ذرعاً في الإنفاق، لأنّ الإنفاق في الحجّ إنفاقٌ في سبيل الله، فلماذا ينقبض قلبُ الإنسان من الزّيادة في المصرف، فليَحمل أحسنَ الزّاد، وليُكثر الإنفاقَ، فإنّ درهماً منه في أحاديث أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين بسَبعينَ درهماً.

 
أزهد الزّهّاد -أعني الإمام السّجّاد سلام الله عليه- كان عندما يريد الحجّ يحمل معه مثلَ اللّوز والسُّكّر والحلويات، والسُّوَيْق.. بل من جملة أسباب سعادة الإنسان، إذا تلفَ له شيءٌ في هذا السّفر أو سُرق منه، أو زادت مصاريفه، أن يشعرَ بكمال الامتنان، بل ينبغي أن تغمرَه الفَرحةُ لأنّ جميع ذلك يتمّ ثَبْتُه وتسجيلُه على المُضيف في الدّيوان الأعلى، وسيُعوِّضُه عليه بأضعاف مضاعفة. ألا ترى أنّك إذا دعاكَ شخصٌ إلى ضيافتِه في بيته، وواجهتَ في أثناء الطّريق ضرراً مّا، فإنّ صاحبَ البيت إذا استطاعَ يعوّضُ ذلك عليك بقدر ما يُمكنه، لأنّه هو الذي طلبَك. يفعل ذلك، مع أنّه (بالنّسبة إلى الله تعالى) لئيمٌ وعاجز، فما ظنُّكَ بأقدر القادرين وأكرم الأكرمين؟ حاشا وكلّا، أن يكون كرمُه أقلَّ من عربيٍّ يسكن البادية -نعوذ بالله من سُوء الظّنّ بالخالق- وصدقُ هذا القول واضحٌ لمَن تنقّلَ بين أعراب البادية، واطّلعَ على أحوالهم.

 الخامس: أن يكون حَسَنَ الخُلَق، ويتواضع للرّفيق من «السّائق» وغيره، ويحذر اللّغوَ والفُحش والحِدّة، والكلامَ غيرَ المناسب، وليس حُسن الخُلق أن لا يؤذي أحداً فقط، بل من جملة الأخلاق الحسنة أن يتحمّلَ أذى الآخرين، بل بالإضافة إلى تحمُّل الأذى، يخفض جناحَه (يتواضع)، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في الحديث القدسيّ [وحاصله]: «أخفَيتُ رضايَ في جَفاءِ المَخلوق، فمَن كان يريدُ رضايَ فليتحمّل من الآخرين جفاءَهم».
 السّادس: أن يقصد الحجّ، فقط دون غيره، بل يجب أن يقصد ضمن ذلك عدّة عبادات -إحداها الحجّ- من قبيل: زيارة القبور المطهّرة للشّهداء والأولياء، والسّعي في حوائج المؤمنين، وتعليم الأحكام الدّينيّة، وتعلُّمها، وترويج المذهب الحقّ، وتعظيم شعائر الله، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وغير ذلك
 السّابع: أن لا يُهيّئ لنفسه أسبابَ التّكبُّر، بل ينبغي أن يذهبَ إلى الحَرَمِ الإلهيّ منكسرَ القلب مُغبَرّاً، كما أُشير إلى ذلك في المناسك في باب الإحرام.
 الثّامن: أن لا يخرجَ من بيته إلّا بعدَ أن يُودِعَ نفسَه وكلَّ ما معَه من رفقائه، وما حملَه، وأهلَ بيتِه، وكلَّ ما له تعلُّقٌ به، أمانةً عند خالقه جلّ ثناؤه.. ويخرج عند ذلك من بيتِه، بكمال الاطمئنان، فإنّه، جلّت عظَمتُه، نِعْمَ الحفيظ ونِعْمَ الوكيل، ونِعْمَ المولى ونِعْمَ النّصير. [جاء في (العروة الوثقى: ج 2، ص 226) حول ذلك ما خلاصتُه: أن يصلّي العازمُ على السّفَر ركعتَين أو أربعاً في بيته ثم يقول: «أللّهُمّ إنّي أستودعُك نَفسي وأَهلي ومالي وذُرّيّتي ودُنياي وآخرتي وأمانَتي وخاتمةَ عملي». فيُعطيه الله تعالى ما سأل. «شعائر»] ".."
 ويهتمّ اهتماماً تامّاً بالصَّدَقة، بمعنى أن يشتري صحّتَه وسلامتَه من خالقه بهذه الصَّدَقة.

 التّاسع: أن لا يكون اعتمادُه على محفظة نقودِه وقوّتِه وشَبابِه، بل يكون اعتمادُه في كلّ حال، بالنّسبة إلى كلّ شيء على صاحبِ البيت. والمقدّمات أكثر من ذلك.. إلّا أنّ الإطالة في الرّسالة ليست الهدف.. «إذا كانَ في البيت أحَد.. فحرفٌ واحدٌ يكفي»، [الحرُّ تَكفيه الإشارة].

اخبار مرتبطة

  أيُّها العزيز

أيُّها العزيز

  دوريّات

دوريّات

05/08/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات