الملف

الملف

05/08/2013

بيوتُ الله تعالى متعدّدة


بيوتُ الله تعالى متعدّدة

أحدُها الكعبة، وأسماها القَلب*

ـــــ الفقيه الشّيخ حسين قُلي الهمدانيّ قدّس سرّه ـــــ


اِعلم أيّها الطّالبُ للوصول إلى بيت الله الحرام أنّ لله جلّ شأنُه العظيم بيوتاً مختلفةً أحدُها يُسمّى الكعبة الظّاهريّة، التي أنت قاصدُها، وبيت المَقدس، والبيت المعمور، والعرش، وهكذا إلى أن نصلَ إلى حيث البيت الحقيقيّ الأصليّ الذي يُسمّى القلب، الذي هو أعظم من كلّ هذه البيوت..

ولا شكّ ولا ريبَ في أنّ لكلّ بيتٍ من البيوت لطَالبيه رسوماً وآداباً.

 

أمّا ما هو معنى بيته؟ وهل هذه الإضافة «بيت الله» من باب التّشريف أو غير ذلك، فليس الهدف بيان ذلك.

الهدف من هذه الرّسالة منحصرٌ بآداب الكعبة الظّاهريّة، غير تلك الآداب التي تذكَر في المناسك.

وقد تُذكر ضمناً إشاراتٌ إلى آداب الكعبة الحقيقيّة على سبيل الإجمال..

أوّلاً: اِعلم أنّ الهدف من تشريع هذا العمل الشّريف: «الحجّ»، قد يكون أنّ الهدفَ المقصود الأصليّ من خَلْق الإنسان هو معرفةُ الله والوصول إلى درجة حبّه والأُنس به، ولا يُمكن حصول هذين الأمرَين إلّا بتصفية القلب، وذلك لا يُمكن حصوله أيضاً إلّا بكفّ النّفس عن الشّهوات والانقطاع من الدّنيا الدّنيّة و[حَمْلِها] على المشاقّ من العبادات: ظاهريّةً وباطنيّة.

ومن هنا لم يجعل الشّارعُ المقدَّس العباداتِ نَسَقاً واحداً، بل جعلَها متنوّعة، حيث يتكفّل كلٌّ منها بإزالة رذيلةٍ من الرّذائل لتتمّ تصفية النّفس تماماً، بالاشتغال بتلك العبادة.

فالصّدقات والحقوق الماليّة، يقطعُ أداؤها الميلَ إلى حُطام الدّنيا.

                     والصّومُ يقطعُ الإنسانَ عن المشتَهيات النّفسانيّة.

                                 والصّلاة تنهى عن كلّ فَحشاءٍ ومُنكَر.

وهكذا سائرُ العبادات.

ولإنّ الحجّ مجمعُ العناوين وزيادة، لأنّه يشتملُ على جملةٍ من مشاقّ الأعمال التي تتوفّر في كلٍّ منها صلاحيّةُ تصفية النّفس، مثل: إنفاق المال الكثير، والقطع عن الأهل والأولاد والوطن، والحشر مع النّفوس الشّرّيرة، وطيّ المنازل البعيدة، مع الابتلاء بالعَطش في الحرّ الشّديد في بعض الأوقات، والقيام بأعمال غير مأنوسة، لا تقبَلُها الطِّباع، من الرَّمْي والطّواف والسَّعي والإحرام وغير ذلك من الفضائل الكثيرة من قبيل:

- التّذكير بأحوال الآخرة، من خلال رؤية أصناف الخَلْق والاجتماع الحاشد في صُقعٍ واحد [بقعة واحدة] على نهجٍ واحد، لا سيّما في الإحرام والوقوفَين. [عرفات والمشعر الحرام]

- والوصول إلى محلّ الوحي ونزول الملائكة على الأنبياء، من آدم إلى الخاتَم صلوات الله عليهم أجمعين.

- والتّشرّف بمحلّ أقدام أولئك العظماء، مضافاً إلى التّشرّف بحَرم الله وبيتِه، مع الحصول على الرّقّة التي تُورث صفاءَ القلب برؤية هذه الأمكنة الشّريفة، مع الأمكنة الشّريفة الأُخَرَ التي لا تتّسع الرّسالة لتفصيلها.

الحاصل..  حيث إنّ للحجّ فضائل كثيرة، ويتضمّن جملة من المشاقّ، فهو من أهمّ الأعمال، ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «استبدَلنا الرّهبانيّةَ بالجهاد والحجّ..».

ولا يصلُ الإنسان إلى هذه الكرامة العظمى إلّا بملاحظة الآداب والرّسوم الحقيقيّة وهي أمور:

الأوّل: أنّ كلّ عبادة من العبادات، يجب أن تكون بنيّة صادقة، وتُؤدّى بقصد امتثال أمر الشّارع، لتصبحَ عبادة، فمَن أراد الحجّ يجب أوّلاً أن يتأمّل بعض الشّيء في نيّته، فيضع هوى النّفس جانباً، ويرى هل أنّ هدفَه من هذا السّفر هو امتثالُ الأمر الإلهيّ، والحصول على ثوابه تعالى، والفرار من عقابه، أم أنّ هدفه -نستجيرُ بالله- تحصيلُ الاعتبار، أو خوفُ ذَمِّ النّاس، أو تفسيقُهم له، أو الخوف من الفقر، بناءً على أنّ كلّ مَن ترك الحجّ ابتُلِيَ بالفقر، أو أمور أخرى من قبيل التّجارة، والنّزهة والسّياحة في البلاد، وغير ذلك.

إذا تأمّل في نفسه جيّداً استطاعَ أن يدركَ حقيقة نيّته، ولو بالآثار، فإذا تبيّن له أنّ الهدف ليس الله تعالى، وجبَ أن يسعى في إصلاح قَصْدِه بأن يلتفتَ على الأقلّ إلى قُبح عملِه، حيث قصدَ حريمَ مَلِك الملوك لمثل هذه الأمور العبثيّة، فيشعر على الأقلّ بالخَجل بدلاً من الغرور والعُجب.

الثّاني: أنّ يُهيّئ نفسَه لحضور مجلس الرّوحانيين بتوبةٍ صادقة، بجميع مقدّماتها التي من جملتها ردّ الحقوق سواء الماليّة [أو المعنويّة] مثل الغِيبة، وأذيّة هَتْك الغير وجَرْح كرامته.. وسائر الجنايات على الآخرين ممّا يجب الاستحلالُ من أصحابها، بالتّفاصيل المذكورة في محلّها.

* ويحسن إيقاعُ التّوبة بعد هذه المقدّمات في يوم الأحد كما هو مذكور في (منهاج العارفين) [راجع: مفاتيح الجنان، عمل يوم الأحد من ذي القعدة]، وإذا كان أحد والدَيه على قيد الحياة، فلْيُرضِه عنه مهما أمكن، ليَخرجَ من منزله طاهراً نقيّاً، بل يزيل تمام تعلّقاته، ويقطع رأس انشغالِ قلبه وعدم حضوره، ليتوجّه بتمام قلبِه إلى الله، ولْيتَصرّف على أساس أنّه لن يرجع أبداً.

* وبناءً على هذا، يجب أن يُوصيَ وصيّة تامّة كاملة، بمعرفة أشخاص خيّرين، عارفين، ليُوضحوا له كيفيّة الوصيّة، فلا يضيق الأمر على الوصيّ، بل يجعله وصيَّه في الثّلث ويترك له حريّة الحركة، حتّى لا يقع مسلمٌ بسببِه بعدَ موتِه في الحَرَج..

* ومع ذلك يترك أهلَه وعيالَه في كفالة الكفيل الحقيقيّ، فإنّه خيرُ مُعينٍ ونِعْمَ الوكيل.

وباختصار، إنّ عليه أن يتصرّف بحيث أنّه إذا لم يرجع فلا يكون قد بَقِيَ أيُّ جزئيٍّ من جزئيّات أموره معلّقاً.. بل.. كذلك يجب أن يكون مَن لا يعرف تماماً متى يموت.

 

فرّغ قلبَكَ من الأغيارِ إذا قصدتَ محلّتنا

                                       لا تنظرْ إلى الغير إذا كنتَ تَهوانا

 (من تعليقة الأصفهانيّ. مضمون بيت فارسيّ)

الثّالث: أن لا يُهيّئ لنفسه في سفره أسبابَ انشغال القلب، فيمنعه ذلك عن أن يكون في حَركاته وسكَناته في ذكر المحبوب (سبحانه) سواء كانت أسباب الانشغال هذه من قبيل العيال والأولاد أو الرّفيق غير الملائم للطّبع، أو بضاعة للتّجارة أو غير ذلك.. المهمّ أن لا يُهيّئ هو بيدِه ما يضطرّه إلى صرف اهتمامه فيه.. بل إذا استطاع فليُسافر مع أشخاص يغلب عليهم تذكيرُه.. أو يذكّرونه دائماً كلّما غفل "..".

 

الرّابع: أن يبذل الجهد مهما أمكنَه، لإحراز حِلّيّة مصرفه، ويأخذ منه ما يزيد على حاجته، وأن لا يضيق ذرعاً في الإنفاق، لأنّ الإنفاق في الحجّ إنفاقٌ في سبيل الله، فلماذا ينقبض قلبُ الإنسان من الزّيادة في المصرف، فليَحمل أحسنَ الزّاد، وليُكثر الإنفاقَ، فإنّ درهماً منه في أحاديث أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين بسَبعينَ درهماً.

أزهد الزّهّاد -أعني الإمام السّجّاد سلام الله عليه- كان عندما يريد الحجّ يحمل معه مثلَ اللّوز والسُّكّر والحلويات، والسُّوَيْق..

بل من جملة أسباب سعادة الإنسان، إذا تلفَ له شيءٌ في هذا السّفر أو سُرق منه، أو زادت مصاريفه، أن يشعرَ بكمال الامتنان، بل ينبغي أن تغمرَه الفَرحةُ لأنّ جميع ذلك يتمّ ثَبْتُه وتسجيلُه على المُضيف في الدّيوان الأعلى، وسيُعوِّضُه عليه بأضعاف مضاعفة.

ألا ترى أنّك إذا دعاكَ شخصٌ إلى ضيافتِه في بيته، وواجهتَ في أثناء الطّريق ضرراً مّا، فإنّ صاحبَ البيت إذا استطاعَ يعوّضُ ذلك عليك بقدر ما يُمكنه، لأنّه هو الذي طلبَك. يفعل ذلك، مع أنّه (بالنّسبة إلى الله تعالى) لئيمٌ وعاجز، فما ظنُّكَ بأقدر القادرين وأكرم الأكرمين؟ حاشا وكلّا، أن يكون كرمُه أقلَّ من عربيٍّ يسكن البادية -نعوذ بالله من سُوء الظّنّ بالخالق- وصدقُ هذا القول واضحٌ لمَن تنقّلَ بين أعراب البادية، واطّلعَ على أحوالهم.

الخامس: أن يكون حَسَنَ الخُلَق، ويتواضع للرّفيق من «السّائق» وغيره، ويحذر اللّغوَ والفُحش والحِدّة، والكلامَ غيرَ المناسب، وليس حُسن الخُلق أن لا يؤذي أحداً فقط، بل من جملة الأخلاق الحسنة أن يتحمّلَ أذى الآخرين، بل بالإضافة إلى تحمُّل الأذى، يخفض جناحَه (يتواضع)، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في الحديث القدسيّ [وحاصله]: «أخفَيتُ رضايَ في جَفاءِ المَخلوق، فمَن كان يريدُ رضايَ فليتحمّل من الآخرين جفاءَهم».

السّادس: أن يقصد الحجّ، فقط دون غيره، بل يجب أن يقصد ضمن ذلك عدّة عبادات -إحداها الحجّ- من قبيل: زيارة القبور المطهّرة للشّهداء والأولياء، والسّعي في حوائج المؤمنين، وتعليم الأحكام الدّينيّة، وتعلُّمها، وترويج المذهب الحقّ، وتعظيم شعائر الله، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وغير ذلك.

السّابع: أن لا يُهيّئ لنفسه أسبابَ التّكبُّر، بل ينبغي أن يذهبَ إلى الحَرَمِ الإلهيّ منكسرَ القلب مُغبَرّاً، كما أُشير إلى ذلك في المناسك في باب الإحرام.

الثّامن: أن لا يخرجَ من بيته إلّا بعدَ أن يُودِعَ نفسَه وكلَّ ما معَه من رفقائه، وما حملَه، وأهلَ بيتِه، وكلَّ ما له تعلُّقٌ به، أمانةً عند خالقه جلّ ثناؤه.. ويخرج عند ذلك من بيتِه، بكمال الاطمئنان، فإنّه، جلّت عظَمتُه، نِعْمَ الحفيظ ونِعْمَ الوكيل، ونِعْمَ المولى ونِعْمَ النّصير. [جاء في (العروة الوثقى: ج 2، ص 226) حول ذلك ما خلاصتُه: أن يصلّي العازمُ على السّفَر ركعتَين أو أربعاً في بيته ثم يقول: «أللّهُمّ إنّي أستودعُك نَفسي وأَهلي ومالي وذُرّيّتي ودُنياي وآخرتي وأمانَتي وخاتمةَ عملي». فيُعطيه الله تعالى ما سأل. «شعائر»]

".." ويهتمّ اهتماماً تامّاً بالصَّدَقة، بمعنى أن يشتري صحّتَه وسلامتَه من خالقه بهذه الصَّدَقة.

التّاسع: أن لا يكون اعتمادُه على محفظة نقودِه وقوّتِه وشَبابِه، بل يكون اعتمادُه في كلّ حال، بالنّسبة إلى كلّ شيء على صاحبِ البيت.

والمقدّمات أكثر من ذلك.. إلّا أنّ الإطالة في الرّسالة ليست الهدف..

«إذا كانَ في البيت أحَد.. فحرفٌ واحدٌ يكفي»، [الحرُّ تَكفيه الإشارة].

اخبار مرتبطة

  أيُّها العزيز

أيُّها العزيز

  دوريّات

دوريّات

05/08/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات