حوارات

حوارات

05/08/2013

مع الفقيه الإمام الشّيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه الله


مع الفقيه الإمام الشّيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه الله:

* كثيراً ما نصحّحُ الأسانيدَ بالمتون

* «الحقيقة المحمّديّة» هي المقصود في حديث «أوّل ما خلقَ اللهُ العقل..»

ـــــ إعداد: «شعائر» ـــــ

 

* الفقيه العلَم الشّيخ محمّد حسين بن عليّ بن محمّد رضا بن موسى بن الشّيخ جعفر كاشف الغطاء النّجفيّ (1294 - 1373 للهجرة).

* وصفَه آية الله السّيّد شهاب الدّين المرعشيّ رحمه الله بقوله: «العلّامة، منطيق الشّيعة، فخر العلماء الرّاشدين، حجّةُ الإسلام والمسلمين».

* كان يختلف كثيراً إلى دار المحدّث النّوريّ (صاحب المستدرك)، وحضر على الشّيخ محمّد كاظم الخراسانيّ (صاحب الكفاية)، والسّيّد محمّد كاظم اليزديّ (صاحب العروة الوثقى)، واختصّ بالأخير، وشارك معه في الجهاد ضدّ الاستعمار البريطانيّ، وألَّف في حياته شرحاً على (العروة)، وشرع بالتّدريس في «مسجد الهنديّ».

* من آثاره: (الأرض والتّربة الحسينيّة)، (أصل الشّيعة وأصولها)، (جنّة المأوى)، (نقْض فتاوى الوهّابيّة)، (الفردوس الأعلى)، وهذا الأخير عبارة عن إجاباته على أسئلة فقهيّة وعقائديّة كانت ترِد إليه من مختلف الأقطار، ومنه انتقينا الأسئلة والإجابات الواردة في هذا الباب.

 

* الدُّعاء الموسوم بـ «دعاء الصَّباح» المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، هل هو مرويٌّ مُسنَداً عنه عليه السلام أو وُجِد بخطِّه الشِّريف بحيث تطمئنُّ به النّفس أم لا؟

لا يخفى على أحدٍ أنَّ لكلِّ طائفة من أرباب الفنون والعلوم، بل لكلِّ أمَّة، بل لكلِّ بلد، أسلوباً خاصّاً من البيان ولهجةً متميِّزة عن غيرها، فلهجةُ اليزديّ غير لهجة الأصفهانيّ، ونَغمة الأصفهانيّ غير نغمة الطّهرانيّ والخراسانيّ، والكلّ فارسيٌّ إيرانيّ، وللأئمّة سلام الله عليهم أسلوبٌ خاصٌّ في الثّناء على الله، والحمدِ لله، والضّراعةِ له، والمسألة منه؛ يعرف ذلك مَن مارس أحاديثهم وآنَس بكلامهم وخاضَ في بحار أدعيتِهم، ومَن حصلت له تلك المَلَكة وذلك الأُنس لا يشكّ في أنَّ هذا الدّعاء صادرٌ منهم، وهو أشبهُ ما يكون بأدعية الأمير عليه السلام مثل «دعاء كميل» وغيره؛ فإنَّ لكلِّ إمامٍ لهجةً خاصّةً وأسلوباً خاصّاً على تقاربها وتشابُهها جميعاً. وهذا الدُّعاء في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة والمتانة والقوّة، مع تمام الرّغبة والخضوع والاستعارات العجيبة؛ اُنظر إلى أوَّل فقرةٍ منه: «يَا مَنْ دَلَعَ لِسَانَ الصَّبَاحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِه» واعجَب لبلاغتِها وبديع استعاراتها. وإذا اتَّجهت إلى قوله: «يَا مَن دَلَّ عَلَى ذَاتِه بِذَاتِه»، تقطَع بأنَّها من كلماتهم سلامُ الله عليهم، مثل قول الإمام زين العابدين عليه السلام: «بِكَ عَرَفْتُكَ، وَأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيك».

وبالجملة، فما أجود ما قاله بعضُ علمائنا الأعلام: «إنَّنا كثيراً ما نصحِّحُ الأسانيدَ بالمتون»، فلا يضرّ بهذا الدّعاء الجليل ضعفُ سندِه مع قوَّة متنِه، فقد دلَّ على ذاتِه بذاته. (سَبُوحٌ لَها منها عَليها شواهدُ).

* كيف يمكن التّوفيق بين قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْالغاشية:26، وقوله عليه الصّلاة والسّلام في زيارة الجامعة المشهورة: «وَحِسَابُهم عَلَيكم»؟

هذا سهلٌ واضحٌ، وما أكثر التَّوسُّع في لغة العرب وأنواع الكنايات والمجاز، فتقول: «بنى الأميرُ المدينة»، ونقول: «بنى العمَّالُ المدينة». الأوّل تسبيباً وإشرافاً، والثّاني مباشرةً وعملاً، والله سبحانه هو الّذي يأمر أنبياءَه وأوصياءَهم بمحاسبةِ الخَلْق، فيكون حسابُهم عليه أمراً وإشرافاً وإحاطةً، والأنبياء محاسِبون معاشرةً وولاية، ويصحّ نسبةُ الحساب من هذه الحيثيّات إلى الله جلَّ شأنُه من جهة، وإلى الأئمّة عليهم السلام من جهة أخرى.

* هل يكفي في «زيارة عاشوراء» قراءة كلّ من السَّلام واللَّعن مرّة واحدة بدلاً عن مائة مرّة، كما يرى ذلك العلّامة الميرزا حسين النّوريّ قدّس سرّه، أم لا؟

لا بدَّ وأن يُعلَم أنّ أكثر المستحبَّات المركَّبة غير ارتباطيّة، بمعنى أنَّ ثواب بعض أجزائها وصحَّتها غير موقوفة على صحَّة الباقي وثوابه، بل كثيرٌ منها من باب المستحبّ في المستحبّ، كما أنّ القنوت في الصّلاة مستحبّ و«دعاء الفرج» أيضاً في القنوت مستحبٌّ آخر. فإنْ قلنا إنّ «زيارة عاشوراء» من هذا القبيل فيُمكن الاكتفاء بلعنٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، ولكنَّ هذا المعنى من مساق الأدلَّة والأخبار بعيدٌ في الغاية، بل «زيارة عاشوراء» نظير «صلاة جعفر الطّيّار» والتّسبيحات الأربع المُعتبَر فيها بعدد [ثلاثمائة تسبيحة] على التّرتيب المعروف، فإنْ نَقَصَ عددٌ واحدٌ منها في هذه الصَّلاة المخصوصة الّتي لها آثارُها الخاصّة، فكأنَّه لم يأتِ المكلَّف بتلك الصَّلاة. وهكذا في «زيارة عاشوراء» الواردة برواية سيف بن عميرة ورواية صفوان الجمّال بالكيفيّات المعهودة والآثار المخصوصة؛ فإنْ تُرِكَت تكبيرةٌ واحدةٌ من تَكبيراتها، فضلاً عن اللَّعن والسَّلام كلّ واحدٍ منهما مائة مرّة، يكون هذا العمل باطلاً. نعم لا يُحرَم المكلَّف ثواب مطلَق زيارة سيّد الشّهداء عليه السلام، بل يُحسَب من زائريه بلا شكٍّ.

ويُمكن لنا استفادةُ مطلبٍ آخَر من هذه الأخبار وهو أنَّ الزّائر إن كان له شغلٌ أو عُذر، ولا سيّما الشّغل الّذي هو مستحبٌّ مؤكّدٌ عند الشّارع المقدّس، مثل عيادة المؤمن، وتَشييع جنازته، أو قضاء حوائج إخوانه في الدّين، ونظائر ذلك، فيُمكن له أنْ يكتفي بلَعنٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، بمعنى أنَّ له الشُّروع باللّعن وإتمامه ولو حال المَشي في الطّريق أو في مجلسٍ آخَر؛ فإنَّ الأمرَ إذا دار بين فوات الأجزاء أو الشّرائط، فمراعاة الإتيان بالأجزاء أوْلى وأهمّ، والظّاهر أنَّ ".." المحقِّق الأنصاريّ قدّس سرّه تعرّض لهذا المطلب في (فرائده) في «رسالة أصل البراءة».

ويمكن أن نتوسَّع في هذا المعنى حتّى بالنّسبة إلى الصّلوات المستحبّة كـ «صلاة جعفر» وغيرها، بمعنى أنّه إنْ عَرَضَ شغلٌ مهمٌّ للمكلَّف أمكن له أن يصلِّي تلك الصَّلاة حيثما أراد أربع رَكعات متعارفة بنيَّة صلاة جعفر وبقصدِها، وبعد إتمامها يُسبِّح [ثلاثمائة تسبيحة]، فإنْ لم يتكلّم في الأثناء كان أحسنَ وأولى.

وأمَّا في «زيارة عاشوراء»، فإن اكتفى بلَعنٍ واحد وسلامٍ واحد، فيَنبغي إتمام العمل حتّى السّجدة الأخيرة، وبعد ذلك يُتِمُّ اللّعنَ والسّلامَ مائة مرّة إلى آخر العمل، وهذا النّحو أيضاً أحسن وأوْلى البتّة، واللهُ العالم.

* ما معنى المعاد الجسمانيّ، هل يعود عين البدن الدُّنيويّ أو غيره؟ فلو كان عين البدن الدّنيويّ فما معنى قوله تعالى: ﴿..لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًاطه:125؟

معنى المعاد الجسمانيّ كما في بعض الأخبار، أنّك لو رأيتَه لَقُلْتَ هذا هو فلانٌ بِعَيْنِه، وكما أنّك لو رأيتَ شخصاً في الدُّنيا وهو صحيحٌ سليمُ الأعضاء، ثمَّ رأيتَه بعد عشر سِنين مثلاً مقطوع الإصبع، أو اليد، أو قد ذهبَتْ عينُه، أو أُذنه تقول هو فلانٌ بِعَيْنِه، ولا يَقدح في شخصيّته فقدانُ يدِه، فكذلك في الآخرة لا يقدح في وحدته، وتشخُّصه كونه كان في الدّنيا بصيراً ويُحشر في الآخرة أعمى. وهذا العَمى هو العمى الحقيقيّ الّذي كان له في الدُّنيا وهو عمى البَصيرة. وحيث أنَّ الدَّار الآخرة هي الدَّارُ الّتي تُبلى فيها السَّرائر وتظهرُ الحقائق، فلا مَحيص من أن يُحشر الكافر والفاسق أعمى، ويَعرف أهلُ المحشر أنَّ هذا هو الّذي كان أعمى في الدُّنيا حقيقةً وإن كان بصيراً صورةً، قد حَشَرَهُ اللهُ بصورتِه الحقيقيّة في الآخرة الّتي هي دار الحقِّ والحقيقة، ويؤيِّده قوله تعالى: ﴿..كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىطه:126، فتدبَّره جيّداً واغتَنِمه فإنَّك لا تَجِده في شيءٍ من كُتُب التَّفاسير ولا غيرها، والمِنَّةُ للهِ وحده.

* أوردَ المحدّث المعاصر القمّيّ في (مفاتيح الجنان) أخذاً عن شيخِه في (المستدرك) صيغةَ عقدٍ للأخوّة، وقال: ينبغي إيجادها في يوم عيد الغدير، وهي أن يقول الأكبر سنّاً بعد وَضْعِ يدِه اليُمنى على يد أخيه المؤمن: (وآخَيْتُكَ فِي الله وَصافَيْتُكَ فِي الله وَصافَحْتُكَ فِي الله وَعاهَدْتُ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وكُتُبَهُ وَرُسُلَهُ وَأنْبِياءَهُ وَالأئِمَّةَ المَعْصُومِينَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى أَنِّي إنْ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ وَالشَّفاعَةِ وَأُذِنَ لِي بِأنْ أدْخُلَ الجَنَّةَ لا أدْخُلُها إِلّا وَأَنْتَ مَعِي. ثُمَّ يقول أخوه المؤمن: قبلتُ. ثُمَّ يقول: أسْقَطْتُ عَنْكَ جَمِيعَ حُقُوقِ الأُخُوَّةِ ما خَلا الشَّفاعَةَ وَالدُّعاءَ وَالزِّيارةَ). ".." فما هذه الأخوّة، وأيُّ دليلٍ دلَّ على شرعيّة إيجاد هذا العقد، وكيف يُمكن إسقاط الحقوق الثّابتة بأصل الشّرع؟

الذي دفعَ المتشرّعين إلى تفشّي هذه الأعمال وشُيوع استعمالها، هو اشتهارُ «قاعدة التّسامح بالسُّنَن»، وأنَّ مَن بلغَه ثوابٌ على عملٍ فعملَه كان له ذلك الثّواب، وإنْ لم يَكُنِ الأمرُ كما بلغَه، ومن هذا الباب ما شاعَ من الختومات مثل «ختم الواقعة»، و«ختم أَمَّنْ يُجِيْبُ المُضْطَرّ»، وهكذا في جميع الأعمال التي لم يَرِد بها نصٌّ خاصٌّ معتبَر، بل وفي بعضِها ليس فيها خبرٌ لا ضعيفٌ ولا قويّ، فكلٌّ هذه الأمور بما أنّها لا تخرج عن كَونها ذِكراً، أو دعاءً، أو عملاً مُستَحسناً عقلاً، ولا نَصَّ على المَنع منه، فلا مانعَ من العمل به برجاء المحبوبيّة، أو المصلحة الواقعيّة، أمّا الإتيان به مع قَصْدِ الورود فَهو مُشكل، لدخولِه في عنوان التّشريع الحرام.

أمّا إسقاطُ الحقوق الثّابتة شَرعاً، فلا مانعَ منه، مثل حقّ الزّيارة والعيادة، بل وحقّ الغيبة والجوار وأمثالها من الحقوق الوجوبيّة أو الإيجابيّة. والحاصل، لا أهميّةَ في البحث عن الدّليل الخاصّ على رَجحان هذه الأعمال أو جوازِها بعد اندراجِها في العموميّات، وأنّ الأعمال بالنّيّات، ولكلِّ امرئٍ مَا نوى، وما على المُحسنين من سبيل، وعلى الله قَصْدُ السّبيل. وبالجملة، فرجاءُ الواقع له نصيبٌ من الحقّ والواقع، وقصدُ الخير من الخير ".." والله وليُّ التّوفيق، وبه المُستعان.

* ما المُراد من العقول العشرة، وما هي تلك العقول؟

اِعلم أوّلاً أنَّ المُراد من العقول هي الموجودات المقدّسة والجواهر الخالصة المُنزَّهة من شَوْبِ المادّة والمادّيّ والجسم والجسمانيّ، ومعروفٌ أنَّ العقل هو الجوهر المجرَّد في ذاته وفي فعلِه، واتَّفق الحكماءُ بالأدلَّة والبراهين المحكمَة، كقاعدة «إمكان الأشرف» وغيرها: أنَّ العقول أوّل الموجودات ومبدأُ الصَّوادر ووسائط الفَيْض، وذهب المشَّاؤون ".." إلى حَصْر العقول الكلّيّة في العشرة، وليس المراد الكلّيّ المفهوميّ بل الكلّيّ الوجوديّ، ويسمُّونه على اصطلاح الحكماء بـ «ربِّ النّوع».

وبيانُ ذلك إجمالاً هو أنَّ بحكم القاعدة المبرهَنة في محلِّها وهي أنَّ «الواحد لا يَصدر عنه إلَّا الواحد»، لا بدَّ وأن يكون الصَّادر الأوَّل من الواحد البسيط من جميع الجهات هو الواحد، ولمَّا كان الحقُّ سبحانه واحداً من جميع الجهات وبسيطاً من كلّ الحيثيّات، فلا بدَّ وأن يكون الصّادر الأوّل من ذاته الأحديّة [هو] العقل الأوّل. والأحاديث الشّريفة عند الفريقَين متواترة، وفي كتاب (الكافي) وغيره من الجوامع الحديثيّة مرويّة من أنَّ أوَّل ما خلقَ اللهُ العقلَ فقال له أقبِل.. إلخ، وهذا العقل الأوّل عبارة عن مرتبة العقل المحمّديّ صلّى الله عليه وآله، ولهذه الجهة قال صلّى الله عليه وآله: «إنَّ أوّل ما خلقَ اللهُ نوري»، فلا تنافي بين هذَين الحديثَين، وهذا العقل الأوّل هو الّذي يُعبَّر عنه في لسان الشَّرع المقدَّس بالعبارات المختلفة: فهو العقل الأوّل، والحقيقة المحمّديّة، ونور محمَّدٍ وآله، ورحمتُه [تعالى] الّتي وَسِعَت كلّ شيء، وأمثال ذلك. وهذا العقل، وإنْ كان واحداً ولم يَصدر إلَّا عن الواحد، لكن لمَّا كان ممكناً ومعلولاً وحادثاً ومتعدِّد الجهات والحيثيّات، اعتُبِر فيه ثلاث جهات:

الأولى: من حيث نسبتِه إلى علّته، يعني وجوبه الغَيريّ.

والثّانية: من حيث ذاته ووجودِه، يعني وجوده الإمكانيّ.

والثّالثة: من حيث ماهيّته وحقيقته، يعني ماهيّته الإمكانيّة.

فتَحصل فيه ثلاثة معانٍ وجهات: وجوب، ووجود، وماهيّة؛ وبعبارة أخرى نور، وظلّ، وظلمة.

فمِن حيث تعلُّقه بمبدأه صَدَر منه العقل الثّاني ونال فَيْضَ الوجود، ومن حيث تعقُّله بوجود ذاته خلق نفس الفلك الأعلى، ومن حيث تعقُّله بماهيّته وحَدِّه وإمكانه -وهذه الثّلاثة عبارة عن معنًى واحدٍ- خلق جسم الفلك الأعلى، وهكذا الكلام في العقل الثّاني. وتلك الجهات والحيثيّات الثّلاثة فيه أيضاً موجودة؛ فمن الجهة الأولى صدر [منه] العقل الثّالث، ومن الثّانية خُلقت النّفس الفلكيّة للفلك الثّاني، ومن الجهة الثّالثة خُلق جسم الفلك الثّاني، وهكذا فهلمّ جرّا إلى العقل العاشر، وهو آخر العقول، ويُقال له العقل الفعّال. وهو من جهة بُعدِه عن مبدئِه الأصليّ وعِلَّتِه الأولى ظَهَر فيه الضّعف، ومن جهة أنّه لمَّا لم يكن فيه صلاحيّة الفيض لم يصدر عنه عقلٌ أيضاً، ولكن بوجوده الإمكانيّ أُفيضت هَيولى العوالم العنصريّة من فلك القمر وما هو في ضمنِه، وبوجوبه الغيريّ ووجوده أُفيضت النّفوس والصّوَر على تلك الهيولى، ولهذا قال بعض الحكماء إنّه فُوّض للعقل الفعّال ربوبيّة عالم العناصر، فصدر من كلِّ واحدٍ من تلك العقول عقلٌ واحدٌ وفلكٌ واحدٌ ونفسٌ فلكيّةٌ، حتّى تمّت العقول العشرة والأفلاك التّسعة الحيّة، بمعنى أنَّ لها نفساً مدركة عالمة.

وبعضُ كلمات أرباب العصمة والطّهارة سلام الله عليهم دالّةٌ على حياة الأفلاك بهذا المعنى، فمَن تأمَّل في دعاء رؤية الهلال من أدعية زبور آل محمّد صلّى الله عليه وآله، أعني الصّحيفة السّجّاديّة، ظهر له هذا المطلب غاية الظُّهور والوضوح.

وَليُعلَم أنَّ الحكماء شرحوا هذه القضايا ونظَّموا هذه البيانات ونضدُّوها كَنضدِ الدُّرر، ولكن لم يذهبوا -معاذ الله- إلى أنَّ العقل الأوّل خالقٌ للعقل الثّاني والفلك الأوَّل، حتّى يُقال في حقهم إنّهم يجعلون شريكاً للحقِّ جلَّ وعلا في الخلق والإيجاد، حاشاهم أن يقولوا هذا، ولم يتفوَّه أحدٌ منهم بهذه المقالة الفاسدة والكلمة الفاضحة؛ كيف وجميع طوائف الحكماء اتّفقوا على أنَّه: «لا مؤثِّر في الوجود إلَّا الله»، بل مرادهم أنَّ كلّ عقلٍ بالنّسبة إلى الآخر واسطةٌ للفَيض ومُعِدٌّ للوجود له، بمعنى أنَّ الحقَّ جلَّ وعلا يفيضُ الوجود إلى العقل الأوّل ابتداءً، وإلى العقل الثّاني والفلك الأوّل ثانياً وبالواسطة، كما أنّكم تقولون في محاوراتكم أنَّ مِن الأب والأم خُلِقَ الولد، والوالد علّةٌ لوجود الولد، وليس المُراد -والعياذ بالله- أنَّ الوالدَ خالقٌ للولد أو مفيضُ الوجود للولد، بل لا خالقَ ولا موجدَ إلَّا الله تبارك وتعالى، ولكنَّ الشّخص الّذي هو عبارة عن زيد بن عمرو وهند لا يكون موجوداً بهذه الخصوصيّات إلَّا بعد وجود عمرو وهند، وهكذا العقل الثّاني وجودٌ واحدٌ في مرتبة خاصّة، لا يكون موجوداً بهذه المرتبة من الخصوصيّة إلَّا بعد العقل الأوّل، فالعقل الأوّل له نحوُ إعدادٍ لوجود العقل الثّاني، كمُعِدِّيّة وجود الآباء والأجداد في وجودي ووجودك. ".."

وهذا موضوعٌ واسعُ الأطراف، ومسألةٌ في غاية الإحكام والمتانة، وأقربُ إلى الشَّرع المقدَّس، وألْصَقُ بكلمات أصحاب الوحي والتّنزيل، وأَلْيَقُ بعظَمة الحقِّ سبحانه وعدم تناهي قدرتِه، وهي أسماؤه الّتي ملأت أركانَ كلِّ شيءٍ. وفي دعاء مولانا الحجّة المنتظَر عجل الله تعالى فرجه في أيّام شهر رجب وأوَّله: «أللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ بِمَعاني جَميعِ مَا يَدعوكَ به وُلاةُ أمرِكَ..» إلى آخره، إشاراتٌ ورموزٌ تحتَها معادنُ وكنوز، ودلالاتٌ لتلك المَباني والمعاني. وشرحُ هذه المطالب والمذاهب، وتنسيق تلك الحقائق والرّقائق، يحتاج إلى إفراد رسالةٍ مستقلّةٍ في التّأليف والتّرصيف، ولا فُسحةَ في المقام ولا وسعةَ لتلك التّحقيقات الطّويلة الذَّيل.

اخبار مرتبطة

  أيُّها العزيز

أيُّها العزيز

  دوريّات

دوريّات

05/08/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات