أحسن الحديث

أحسن الحديث

26/01/2014

حكمُ اللهِ واحدٌ في عالمَي التّكوين والتّشريع


﴿..وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ..﴾ آل عمران:83.

حكمُ اللهِ واحدٌ في عالمَي التّكوين والتّشريع

ـــــ الشّيخ محمّد السّند ـــــ

 

في هذا المقتطف المختصَر من كتاب (الإمامة الإلهيّة) - وهو تقرير لأبحاث الشّيخ محمّد السّند في الإمامة - نستعرض واقعة العبد الصّالح الخضر مع نبيّ الله موسى عليهما السّلام، والّتي استُدلّ بها على أمرَين: أنّ شريعة الظّاهر هي عين الشّريعة التّكوينيّة، وأنّ الأئمّة عليهم السّلام في تطبيقهم للشّريعة الظّاهرة يستخدمون كِلا العِلمين: الحسّيّ واللّدنّيّ.

 

إنّ القضايا الّتي تعرَّض لها موسى مع الخضر عليهما السلام قد وَقعت بنفسها له مِن قَبل، فوضْعُ أمّه له في اليمِّ يُشبه خرقَ السّفينة من جهة تعرُّضها للغرقِ ولم تغرق، وقتلُه للقبطيّ يُشبه قتلَ الخضر عليه السلام للغلام، واستسقاؤه لِبنات شُعيب وعدم أخذِه الأجرة على ذلك مع تعبِه وجوعه الشّديد، كإصلاح الحائط من دون أخذ الأجرة مع جوعهما. فهذه الأمور الثّلاثة الّتي حصلت للخضر، كانت قد حصلت مثيلاتُها لموسى عليهما السلام، ما يكشف عن موازاةٍ بين ما وقع لكلٍّ منهما.

وهذا مصداقٌ لِما قيل في بحوث المعرفة، من أنّ كلّ إنسان في كلّ حادثة تقع له تكون مورداً لاستغرابه، قد وقعت له حادثة شبيهة لها مِن قبلُ ولم يستغربْ منها؛ لأنّه كان عارفاً بأسبابها آنذاك، ولكنّه غفل عنها عند الاستغراب الآن، بل كلّ ما سيقع للإنسان في مستقبل أيّامه، وفي البرزخ ومشاهد يوم القيامة، كلّه يندرج في قوله تعالى: ﴿..هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا..﴾ البقرة:25.

وقد ظهرت تفسيرات متعدّدة لهذه الموازاة:

أوّلها: تفسير أهل المعنى والذّوق: أن يُري اللهُ تعالى عباده أنّ سرّ القدرة هو تكرّر ما يجري في السّابق على أساسٍ وحكمة.

وثانيها: تفسير المفسّرين: لأجل إعلام موسى عليه السلام أنّ علمه محدود، وأنّ الإحاطة الكلّية محجوبةٌ عنه. وهذا التّفسير مقبولٌ على شرط أن لا يتنافى مع العصمة.

ولكنْ كِلا التّفسيرين ناقص، ومن ثمّ نقدّم تفسيراً ثالثاً مقتبَساً من القرآن، متمّماً لهما وهو:

إنّ هناك تطابقاً بين عالَم القضاء والقدر والإرادات التّكوينيّة، أي بين السُّنن الكونيّة الإلهيّة، وبين الشّريعة بحسب الظّاهر، وأنّهما جميعاً تَسعَيان لغايةٍ واحدةٍ. ومن ثمّ يُفهم قولُه تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ البقرة:9، ونظائرُه، إذ يتصوّر هؤلاء أنّهم نقضوا إقامة الشّريعة الظّاهرة بمَكرِهم ودسائسِهم، فأجابهم القرآن بأنّ عملَهم هذا - وإنْ كان رأس فتنة الشّرّ - إلَّا أنّه في مجموع نظام الخِلقة يصبّ في تحقيق أغراض الشّريعة الظّاهرة من دون أنْ يَشعروا، إذْ الإراداتُ التّكوينيّة تأخذُ مجالَها نحو غايتها، وهي في نفسها غاية الشّريعة بحسب الدّرجتَين، وهذا لا يعني نفيَ شَرّيّة عملهم، إلَّا أنّ الباري تعالى يوظّفه في منظومة الخير، كما هو الحال في العقرب، والأفعى، والذّئب.

وهذا العالم - عالم القضاء والقدر والإرادات التّكوينيّة - قد يُعبّر عنه بعالم الملائكة، كما في لغة القرآن الكريم، وقد يُعبَّر عنه بعالم العقول والنّفوس الكلّيّة كما في لغة الاصطلاح الفلسفيّ. حيث جعل العقل الأخير والعقول التي قبله تعبيراً عن القضاء، والنّفس الكلّية تعبيراً عن لوح القدر، وقد يعبّر عنه بعالم الأنوار والأرواح والنّفوس، كما استقرّ عليه الاصطلاح عند أهل المعرفة.

وهذا العالم ذو درجاتٍ متسلسلةٍ تكويناً؛ وقد عبَّر عنه الفلاسفةُ بالنّظام العلِّيّ والعلميّ، ونظام الوجوب والعلم، مع استثناء لوح القدر حيث لا يكون مُبرَماً.

وقد لوحظ على الحكماء بأنّ فهمهم وإحاطتهم بهذه العوالم محدودة، ومن ثمّ لم يعكسوا لنا إلَّا صورةَ نظامٍ جامدٍ يفتقدُ الحياة، ومن ثمّ لم يتفاعل النّاسُ معهم كما تفاعلوا مع الأنبياء والأوصياء ومن بعدهم أهل المعنى.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ الفلاسفة وإن قَبلوا أنّ الملائكة موجوداتٌ حيّةٌ مختارةٌ، ولكنّهم في الوقت نفسه قالوا بأنّها أسبابٌ تكوينيّة لا تتخلّف، مع تركيزهم على هذه الزّاوية في عموم كلماتهم، ومن ثمّ فسّروا الأمر في: ﴿..لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ..﴾ التّحريم:6، و﴿..وهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ الأنبياء:27، والأمر بالسُّجود لآدم، بأنّها ليست أمراً اصطلاحيّاً، وإنّما بالأسباب التّكوينيّة الّتي لا تتخلّف، وهي لفتةٌ صحيحة وغير صحيحة. كيف؟

هي صحيحة: من جهة أنّه ليس هناك أوامرُ اعتباريّة، وإنشاءات، وشريعة ظاهرة.

وهي غير صحيحة: من جهة أنّها أوامر حقيقيّة، فلا مبرِّر لتأويلها بالسّبب الموهِم لانعدام الاختيار، وإنْ كان الفلاسفة لا ينفون الاختيار، وإنّما هي شريعة كَونيّة في الإرادات الإلهيّة التّكوينيّة، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ حُكْمَ اللهِ في أهلِ السَّماءِ والأرضِ واحِدٌ»، فهم مختارون حقيقةً، وإمكانُ المخالفة موجود، وبابُ التّكامل مفتوح، فقد وردَ أنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم عِلماً.

نعم: المخالفة لا تكون بالمعصية؛ فإنّ القرآن الكريم صريحٌ في أنّهم لا يعصون، كما أنّهم لم يتوفّروا على داعي المعصية - كما جاء في الحديث الشَّهير - وهي الشَّهوة والغرائز الحيوانيّة، وإنّما تتحقّق المخالفة بتَرْكِ الأَولى النّاشئ من محدوديّة العلم بسبب محدوديّة وجودهم، فيقعون في مخالفة الواقع الأوّليّ.

الملائكة والبشر: شريعةٌ واحدة

وبهذا العرض يمكن أن نفهم اعتراضَهم ﴿..أَتَجْعَل فِيهَا..﴾ البقرة:30، وقضيّةَ فطرس، وعشراتِ الرّوايات الّتي يظهر منها تخلُّف الملائكة عن الصَّواب، لكن بنحوِ تركِ الأَوْلى لا المعصية، بل إنّ الموجود كلّما تجرّد كلّما كان أقوى وجوداً وصفةً، ومنها الاختيار والحياة، فالملائكة أشدّ اختياراً وحياةً.

وبعد كلّ هذا يتّضح أنّ فكرة الأمر والنّهي متصوّرة في عالم الملائكة بشقَّيه العقليّ والنّفسيّ، ويتّضح نظام عالم الملائكة وأنّه مختارٌ ومتكاملٌ ومعصومٌ، ووقوع المخالفة لإرادة المَولى بنحوِ تركِ الأَولى بسبب الجهل الممكنِ تَلافيه، ومن ثمّ أمكن تعقّلُ الأمر والنّهي الحقيقيَّين فيه، وأنّه لا يختلف عن البشر إلَّا في قضيّة الشّهوة والغرائز، ويشترك معه في باقي الخصوصيّات. وهذا ما يُستفاد من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في بيان أمر الله تعالى الملائكةَ بالسُّجود لآدم وعناد إبليس: «فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه، كَلَّا مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَه لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِه مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَه فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، ومَا بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِه هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَه عَلَى الْعَالَمِينَ».

فصريحُ كلامه عليه السّلام، أنّ الأحكامَ الإلهيّة بحسب دائرة الدِّين واحدةٌ لأهل النّشأة الأرضيّة والنَّشآت الأخرى، فدينُ الله واحد في العوالم، وليس يُخصّص بدار الدُّنيا، وكلامه عليه السَّلام يُشير إلى قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا..﴾ آل عمران:83.

ومن ثمّ نقول: إنّ هذا النّظام الملائكيّ قد كُلِّف بشريعةٍ مطابقةٍ لشريعة السُّنن الإلهيّة الكونيّة والظّاهرة، بعد التّذكير بأنّنا قد انتهينا من تصوير الشّريعتَين الظّاهرة والكونيّة في نظام التّكوين، بأنّها شريعةٌ واحدةٌ، ولكنّ الوسيلة في التّلقّي والتّطبيق مختلفة.

بيان ذلك: إنّ الشّريعة الظّاهرة عبارة عن صفحةٍ نازلةٍ قد دُوِّن فيها كلّ ما في عالم التّكوين في قوس الصّعود والنّزول، ونشأة الدّنيا وهي الواقعة بين القوسَين، نهاية الأوّل وبداية الثّاني، وبهذا التّصوير يُفهَم قولُه تعالى: ﴿..وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ..﴾ النّحل:89، فإنّه يدلّ بوضوحٍ على عدم وجود شرعةٍ أجنبيّةٍ عن شرعة الظّاهر.

وبهذا نصل إلى نتيجة وهي: إنّ القضايا التّكوينيّة الّتي واجهَها موسى قبل لقائه بالخضر عليهما السّلام المشابهة للقضايا الّتي شاهدها مع الخضر عليه السّلام، أيضاً مطابقة لشريعة الظّاهر بنفس البيان، سوى أنّ القضايا الّتي واجهَها موسى عليه السّلام أوّلاً حدثت ضمن المسار التّكوينيّ، والّتي واجهها ثانياً مع الخضر حَدثَت على أساس الشّريعة الكونيّة.

كيف طبّق أهل البيت عليهم السّلام الشّريعة؟

إنّ الأئمّة عليهم السّلام يطبّقون الشّريعة الكونيّة في السُّنّة الإلهيّة التّكوينيّة، ويعملون بموازينها جنباً إلى جنبٍ عملهم بالشّريعة الظّاهرة.

وبتعبيرٍ آخَر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم الشّريعة الظّاهرة يستخدمون كِلتيْ الوسيلتَين: العلم اللّدنّيّ والعلم الحسّيّ، ويشهد لذلك تعليلُهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: «شاءَ اللهُ أن يراهنّ سبايا».

وشاهدٌ آخَر: إقدامُهم على ما يعلمون، كالإقدام على القتل، فإنّ تفسيره الصّحيح هو العلم اللّدنّيّ، حيث كان استشهادُهم - بعد إجراء قانون التّزاحم بين الملاكات الكاملة - أَوْلى.

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصاليّة لا تخصّ الملائكة - كما يظهر ذلك من العامّة - بل تعمّ قسماً من البشر الّذين يتمتّعون بمواصفاتٍ خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكملُ من الملائكة.

وظهر كذلك أنّ الإمامة غايةُ النّبوّة، وأنّ الهداية الإيصاليّة غايةُ الهداية الإرائيّة.

[الهداية الإرائيّة: يقصد بها التّبليغ والتّشريع وإراءة الطّريق للمؤمنين، وهذه تعتمد على أنّ للإمام علماً لَدنّيّاً وقناةً غيبيّةً يستقي منها علومه.

الهداية الإيصاليّة: هي حيثيّة ولائيّة مولويّة وقدرة، وقد عرّفها العلاّمة الطّباطبائيّ بقيادة المعصوم للنّفوس وإيصالها إلى المنازل المعنويّة الكماليّة].

وهذه النّكتة هي المحوَر الأصليّ في القصّة، بقرينة أسى النّبيّ صلّى الله عليه وآله الّذي ورد في أوّل السُّورة: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ..﴾ الكهف:6، فكانت قصّة الخضر عليه السّلام وغيرها لِتَطمين النّبيّ صلّى الله عليه وآله بأنّ الهداية الإيصاليّة موجودة، وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعيّة والفرديّة للشّريعة الظّاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهيّة لمّا كانت تُعنى بالتّحفّظ على أغراض الشّريعة الكلّيّة في الجزئيّات التّفصيليّة بالنّسبة إلى عموم المجتمع، و[على] الأغراض الّتي تُعَدُّ استراتيجيّة بالنّسبة إلى الشّريعة الظّاهرة، كما نلحظ ذلك في قضيّة الخضر عليه السّلام، فإنّه يدلّ بالأولويّة على أنّ الإرادة الإلهيّة والهداية الإيصاليّة لا تُهمِل ما كان بالغَ الأهمّية في الشّريعة الظّاهرة، كالشّؤون المرتبطة بالدّولة والحُكم وهداية المجموع.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

26/01/2014

دوريات

  كتب أجنبيّة

كتب أجنبيّة

نفحات