تحقيق

تحقيق

منذ 0 ساعات

هضبةُ النّجف، مَرساةُ فُلك نوحٍ عليه السّلام


﴿..وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ..﴾

هضبةُ النّجف، مَرساةُ فُلك نوحٍ عليه السّلام

ـــــ الخبير الجيولوجيّ د. موسى العطيّة ـــــ

أظهرت دراسة أعدّها الخبير الجيولوجيّ الدّكتور السّيّد موسى جعفر العطيّة حول تاريخ النّجف الأشرف وتراثه الجيولوجيّ أنّ نشوء «هضبة النّجف» يندرجُ ضمن مظاهر الإعجاز الإلهيّ في ملحمة طوفان نوح عليه السّلام، حيث رست عليها سفينتُه التي أمرَه الله تعالى بصُنعها. واستندت الدّراسة في ذلك إلى خلاصات تحليلٍ معمّقٍ للخصائص الطّوبوغرافيّة، والطّبَقيّة، والتّركيبة الجيولوجيّة للهضبة. وتقاطعت تلك الخصائص مع الآليّات المعروفة في علوم الأرض حول نشوء الهضاب، فتناقضت خصائصُ الهضبة مع سياقات تلك الآليّات.

هذا التّحقيق، مختصَر عن الدّراسة التي أعدّها الدّكتور العطيّة، ونُشرت في العدد الأوّل من المجلّة الفصليّة العلميّة المحكَمة (تراث النّجف)، التي تُعتبَر فتحاً نوعيّاً في عالم الصّحافة الملتزمة، وتُعنى بالبحوث والدّراسات حول تراث مدينة النّجف الأشرف الحضاريّ والدّينيّ.

تناولت هذه الدّراسة أيضاً خصائص الأرض في النّجف الأشرف، وفي مقبرتها الشّهيرة، وخصائص الأرض في مسالك «درب زُبَيْدَة» المشهور الذي يبدأ من مدينة النّجف، ويربط العراق بالدّيار المقدّسة في الحجاز.

كما تناولت أيضاً الوضع البنيويّ والتَركيبيّ لأرض الغريَّين، وجغرافيّتها القديمة، حيث كانت على امتداد تاريخها الجيولوجيّ جزءاً من بحرٍ كبيرٍ، يغطّي معظمَ مناطق العراق.

قصّة طوفان نوح عليه السّلام، وبُعدها العالميّ

اقترن ذكر النّبيّ نوح عليه السّلام بالطّوفان الذي أحدثه الله تعالى عذاباً لقومه الذين لم يؤمنوا، وبسفينته التي أمرَه الله بصُنعها لينجو بها ومن آمن معه من الغرق. وقد اختزنت ذاكرة البشريّة تلك القصّة، ودوّنتها في تراثها الحضاريّ، كما أشارت إليها الكتب السّماويّة، وتحدّثت عن الطّوفان العظيم، لما في ذلك كلّه من عِبَرٍ واعتبار بالقدرة الإلهيّة، وإعجازها المقرون برسالاته ورسله - جلَّ شأنه - إلى البشريّة، وما تكتنفها من رحمةٍ وغضبٍ تقتضيها الحكمة الإلهيّة.

لقد أجمعت البشريّة، على مختلف أجناسها ودياناتها، على حقيقة قصّة الطّوفان، وإنْ اختلفت رواياتها حول تفاصيل أحداثها وفصولها؛ فقد وردت أخبار الطّوفان في التّوراة والإنجيل والقرآن الكريم، كما وردت في الرّوايات السّومريّة والبابليّة، وفي «ملحمة غلغامش» [هي ملحمة سومريّة مكتوبة بخط مسماريّ، يعتبرها البعض أقدم وثيقة كتبها الإنسان]؛ ولكن إذا ما أردنا قراءة فصول هذه الواقعة الإلهيّة، والتّعمّق في مضامينها، والوقوف على حوادثها وفصولها، فلا بدّ أن نتأمّل بدايةً ما ورد حولها في القرآن الكريم، في مواضع عديدة من سوَره وآياته، فنختار منها، على سبيل المثال، قولَه تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ هود:36–44.

وفي إشارة أخرى، نقرأُ قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ المؤمنون:27–30.

 

التّدبير الإلهيّ في قضيّة الطّوفان وانحساره

ممّا تقدّم من العرض القرآنيّ لقصّة النّبيّ نوح عليه السّلام مع قومه، وعذاب الله الذي أنزله بهم، نقف على معانٍ ومضامين غزيرة، نستخلص منها ثلاث صور للتّدبير الإلهيّ في موضوع الطّوفان، ملاحظين أنّ الإيقاع الزّمنيّ لتسلسل هذه الصّور الثّلاث كان سريعاً، وخاطفاً:

1- أحدثَ الله تعالى الفيضانَ على نحوٍ مفاجئ لِيُغرق قومَ نوحٍ إلّا مَن آمن منهم، وهم الذين ركبوا معه في السّفينة التي أمره الله تعالى بصُنعها. أي أنّ الأرضَ قد فاضت بسرعة، فلم تُمهل الكافرين للخلاص من العذاب، وهذا الأمر تدبيرٌ إلهيّ معجِز.

2- رُسوّ سفينة نوح على أرضٍ مرتفعة، مغمورةٍ بمياهٍ قليلة، ما سمحَ لها بالتّوقّف. ﴿..بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا..﴾ هود:41. وفي الأثناء حُفظت السّفينة ومَن عليها وسط مخاطر الأمواج الشّبيهة بالجبال. وبعد أن استقرَت الفُلكُ على اليابسة، استشعر أولئك المؤمنون الطّمأنينة، وازدادوا إيماناً مع إيمانهم بصدق النّبيّ والنّبوّة، بعدما نجّاهم الله سبحانه من الغرق، وشاهدوا بأعيُنهم مصير الكافرين، فقد غرقوا بعدما جرفَهم الطّوفان، تحقيقاً لوعد الله سبحانه الذي أشارت إليه الآيّة الكريمة؛ وهذه هي المعجزة الثّانية.

3- تصريفُ مياه الطّوفان، بعد تنفيذ الحكم الإلهيّ بعذاب قوم نوح، لتستمرّ الحياة. ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ..﴾ هود:44. فقد انحسر الماء لتظهر اليابسة من جديد، وسرعةُ انحسار مياه الطّوفان هَهنا بمنزلة المعجزة الثّالثة في التدبير الإلهيّ.

وإزاء هذه الصّور المُتتاليّات، ولإعانة المخيّلة على رسم صورة تُشبه ولو من بعيد «واقعة الطّوفان»، يجدر بنا الوقوف عند حدثٍ شهده العالَمُ قبل عشر سنوات، وتناقلت الفضائيّات صورَه المذهلة في بثٍّ مباشر من أقاصي الأرض. ففي التّاسع والعشرين من شهر كانون الأوّل لسنة 2004م، اجتاحت مناطقَ شاسعةً من سواحل المحيط الهندي وجُزُره، موجاتٌ هائلةٌ من مياه البحر، تسبّب بها زلزالُ جزيرة سومطرة في إندونيسيا، عُرفت هذه التّدفّقات المائيّة المهولة بـ «تسونامي» Tusanami أو «أمواج الموانئ»، وقد شاهد مئات الملايين من النّاس عنفوانها وهي تدمّر – في دقائق معدودات - كلّ شيءٍ أمامها، من بنى تحتيّة، ومبانٍ، وآليّات، وطائرات، وغير ذلك، وغطّت المياه مساحاتٍ شاسعةً من اليابسة، وبعد ساعاتٍ قليلة امتدّت تأثيرات الأمواج - وبقوّةٍ تدميريّة ايضاً - إلى مناطق في تايلند، التي تبعد مئات الكيلومترات عن موقع الحدث، شمال جزيرة سومطرة، وبعد عددٍ آخر من السّاعات وصلت القوة التدميريّة الى سواحل إفريقيا التي تبعد آلاف الكيلومترات.

 

المكان الذي رست عليه السّفينة

في ما يتعلّق بالمكان الذي رستْ عليه سفينة نوح عليه السّلام، والذي اختاره الله عزّ وجلّ، بدلالة قوله سبحانه: ﴿..بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هود:41، وقوله تعالى: ﴿..وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ..﴾ هود:44، فممّا لا شكّ فيه أنّه مكانٌ باركه الله سبحانه وتعالى، وقد استُجيبت دعوة نبيّ الله نوح عليه السّلام عندما دعا ربّه عزّ وجلّ: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ المؤمنون:29، فأين هذا المكان المبارك الذي اختاره اللهُ مرساةً لسفينة النّبيّ نوح عليه السّلام؟

لقد ذهب معظم الذين تناولوا البحث عن أرض الطّوفان، إلى أنّ أرض «وادي الرّافِدَيْنِ» كانت موطنَ نوح النبيّ، وفي هذا الخصوص نشير إلى ما توصّل إليه أحد العلماء المشهورين في مجال تاريخ حضارات وادي الرّافِدَيْنِ، وهو السّير وليم وليكوكس  William Willcocks، حيث يقول: «..يجب أن نتذكّر، ونحن في دلتا دجلة والفرات، أنّنا في بلاد الطّوفان».

فإذا كان وادي الرّافِدَيْنِ موطنَ الطّوفان، فأين رستِ السّفينة؟ وأين «الجُوديّ» الذي استوت عليه؟ وأين يقع الجبلُ الذي أراد ابنُ النّبيّ نوح أن يعتصم به من الغرَق؟ ذلك الجبل الذي أخبر عنه القرآن الكريم... وأين جبل النّسر أو جبل نصير، الذي ورد في نصوص «ملحمة غلغامش» بأن السّفينة رستْ عليه؟

لكي نقدِّم الإجابة حول هذه التّساؤلات، لا بدّ أن نبحث أوّلاً، عن موطن النّبيّ نوح عليه السّلام وقومه الذين أنزلَ اللهُ عليهم عذابه.

موطن النّبيّ نوح عليه السّلام

 

لقد اهتمّ علماء التّاريخ والآثار بالطّوفان مكاناً وزماناً، وطرحوا بعض الإجابات والأفكار، ولكن لم يُقدّموا دليلاً مادّيّاً قاطعاً حول موطن قوم نوح عليه السّلام. ولكن هناك دلائل تستند إلى التّحليل المنطقيّ لما يتوافر من شواهد ماديّة، وتاريخيّة، وعقائديّة، قد تكون وافية لتقديم إجابة راجحة عن التّساؤلات المطروحة. وفي هذا السّياق ينبغي أن نحدّد إذا ما كان الطوفان قد طغى على كامل يابسة سطح الأرض، أم أنّه كان محدوداً في منطقة معينة؟

 

 

فإذا كان الطّوفان قد شمل سطح الكرة الأرضيّة كلّه، فإنّ التّساؤل يبقى وارداً: أين استوطن قوم نوح على سطح الأرض؟ أمّا إذا كان الطّوفان قد شمل منطقة محدّدة، فهل تلك المنطقة هي موطن قوم نوح؟

 

هناك رأيان مطروحان في هذا الخصوص:

الأوّل: أنّ الطّوفان كان عامّاً وقد شملَ الأرض كلّها، واستند أصحابُ هذا الرّأي إلى ما ورد في العهد القديم (التّوراة)، من أنّ الطّوفان غطّى سطح الكرة الأرضيّة بأجمعها فهلكَ جميعُ الأحياء، واستقرّت سفينة نوح على «جبل أرارات» [في تركيا]، وتبنّى هذا الرّأي بعض العلماء في القرن السّابع عشر استناداً إلى انتشار قصص الطّوفان المتداولة عند أهل المكسيك والصّين وأقوامٍ آخرين. وزعم البعض، دون أدلّةٍ علميّة، أنّ سطح الأرض كان مستوياً قبل الطّوفان، بلا تلال أو جبال، وأنّ مياه الطّوفان هي التي كوّنت - في اندفاعها - تضاريس سطح الكرة الأرضيّة. ومهما يكن من ضَعف أسانيد هذا الرّأي، فإنّ كثيراً من العلماء يعتقدون أنّ مقولة استقرار السّفينة على «جبل أرارات»، جاءت بناءً على مقولاتٍ قديمة، قبلتها الكنائس الشّرقيّة، وشاعت بين النّاس.

الثّاني: يذهب أصحاب هذا الرّأي إلى أنّ الطّوفان طغى على منطقةٍ محدّدةٍ من العالم، لأنّه كان مُختصّاً بقوم نوح عليه السّلام، فلم يشمل العالم، وقد ورد في قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ الأعراف:64، ويؤكّد ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ المؤمنون:23.

إذا ما أردنا أن ندعم هذا الرّأي بمصدرٍ آخر غير القرآن الكريم، فإنّ ما ورد في الألواح السّومريّة عن أخبار الطّوفان، يضمّ أسماءَ مدنٍ عراقيّةٍ في سهلِ وادي الرّافِدَيْنِ، وأسماء ملوك حكموا مناطق وادي الرّافِدَيْنِ قبل الطّوفان، وإنّ بعض العلماء المُختصّين بآثار أو دراسات حضارات وادي الرّافِدَيْنِ القديمة مثل «وليم ويلكوكس» William Willcocks، و«شارل ليونارد وولي» Charles Leonard Woolley يعتقدون بأنّ أرض الطّوفان هي أراضي «دلتا الفرات ودجلة» شمال «أور» الكلدانيّة [تقع أور حاليّاً على بُعد بضعة كيلومترات عن مدينة الناصرية جنوب العراق]، ويدعم ذلك اكتشافُ الخبيرِ الآثاريّ ليونارد وولي آثارَ الطّوفان في تنقيباته في «أور»، حيث عثر على طبقةٍ من الطّين النّقيّة، يبلغ سمكها 18 قدماً، وأرفد ذلك في إعلان البعثة الآثاريّة لـ «جامعة أكسفورد» عن اكتشاف مُماثل لآثار الطّوفان في منطقة «كيش» [إحدى المدن السّومريّة جنوب العراق]، وأنّ هذه الدّلائل الآثاريّة، وبالرغم من كونها مثيرة للجدل بين علماء الآثار، فإنّه يمكن اعتبارها مقدّمة لدلائل ماديّة يُمكن تطويرها لتحديد تاريخ الطّوفان، بلحاظ أنّ منطقة دلتا وادي الرّافِدَيْنِ كانت موطنَ قوم النّبيّ نوح الذين جرفَهم الطّوفان.

بعد هذه المقدّمة عن ما هو متوافر من نظريّات ومُعطيات عن موطن قوم نوح، والتي تفيد بأرجحيّة الرّأي القائل بأنّ أرض وادي الرّافِدَيْنِ كانت أرض الطّوفان، نعود للتّساؤل الذي طرحناه في البدايّة: أين رست سفينة نوح عليه السّلام؟

المعروف عن أرض وادي الرّافِدَيْنِ بأنها سهلٌ رسوبيٌّ مُنبسط، وخلال تاريخها الجيولوجيّ لفترة حقبة البليستوسين Pleistocene [البليستوسين: العصر الحديث الأقرب، تتوافق نهايته مع نهاية العصر الجليديّ الأخير]  من العصر الرّباعيّ [بالإنجليزيّة (Quaternary) وهو أحدث العصور الثّلاثة لحقبة الحياة الحديثة في مقياس الزّمن الجيولوجيّ. وهو يلي العصر الثّلاثي العلويّ ويضمّ فترتين جيولوجيتين هما: البليستوسين والهولوسين]. وهي الحقبة التي لا يتعدّاها تاريخ ظهور الإنسان على سطح الأرض، لم تبرز في هذا السّهل أيّة مظاهر جيومورفولوجيّة شاخصة كالجبال والتّلال الكبيرة في جُزئَيْهِ الأوسط والجنوبيّ، سوى هضبة النّجف التي يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر، عند حافات طاراتها، حوالي مائة متر، ويصل في بعض أجزائها الجنوبيّة الغربيّة إلى 176 متراً، في الوقت الذي يرتفع مستوى قاعدة هذه الهضبة عن سطح البحر من الشّمال بمقدار 25 متراً، حيث يحدّها نهر الفرات، ومن الجنوب حوالي عشرة أمتار حيث بحر النّجف؛ أمّا مساحة هذه الهضبة، فتبلغ نحو1750 كيلو متراً مربّعاً، ولا يوجد نظيرٌ لها في منطقة وادي الرّافِدَيْنِ، ثمّ إنّ هذا المظهر الجيومورفولجيّ [Geomorphology علم شكل الأرض، ويركّز على دراسة التّضاريس] يبقى شاخصاً لا يناله الغرَق عندما تغرق أرض الرّافِدَيْنِ حوله، وحتّى عندما يبلغ مستوى الطّوفان عشرة أو عشرين متراً عن مستوى سطح الأرض وصولاً إلى مائة متر، وهو افتراضٌ يصل بنا إلى عمق كثير من البحار المتلاطمة الأمواج كالخليج العربيّ مثلاً.

هضبة النّجف موضعُ رُسوِّ سفينة نوح

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار موقع هضبة النّجف وخصائصها على مشارف السّهل الرّسوبيّ لمناطق وسط العراق وجنوبه، وهي المناطق الأكثر احتمالاً لموطن قوم النّبيّ نوح كما أسلفنا، فإنّ التّشخيص يكون منطقيّاً بأنّ هضبة النّجف كانت مرساةَ سفينة نوح عليه السّلام، اختارها الله تعالى أرضاً مُباركة ﴿..بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا..﴾ هود:41 استجابةً منه لدعوة نبيّه نوح عليه السّلام: ﴿..رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ المؤمنون:29، ولا يُمكن أن يكون سواها، وذلك لانبساط مناطق السّهل الرّسوبيّ الشّاسعة، والتي تبرز فيها جزيرة شاخصة عندما يُغرق الطّوفان مناطق ذلك السّهل الرسوبي الشاّسعة وما حولها.

وهنا نضيف، إلى ذلك، مُلاحظة مهمّة حول ملاءمة هضبة النّجف كمرساة تلجأ إليها سفينة تخوض غمار الطّوفان - بأمواجه المُتلاطمة من اضطراب جريان المياه - الذي يكون أشدّه في مسار «التّالوك» لنهرَي دجلة والفرات [التّالوك هو خطّ حدود نهري]، وأنّ الطّاقة العالية لتلك الأمواج تتلاشى في الاتّجاهات البعيدة عن مجرى النّهرين وحوضهما، لا سيّما أن موقع هضبة النّجف تبعد حوالي مائة كيلو متراً عن مجرى نهر الفرات في زمن الطّوفان، وقد قامت على ضفاف النّهر مدن سومريّة وبابليّة عديدة مثل «سبار»، و«كوثى»، و«نفر»، وغيرها، وعليه فإنّ الأمواج تكون هادئة نسبيّاً باتّجاه مقتربات هضبة النّجف، ما يؤمّن رُسوَّ السّفينة فوقها، لا سيّما أنّها تتميّز بالانحدار التّدريجيّ من جهاتها الشّرقيّة.

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ تناقض الإطار الجيولوجيّ والجيومورفولوجيّ لآليّات نشوء هضبة النّجف مع المعطيات الجيوفيزيائيّة والتّركيبيّة، يدفع للاعتقاد بأنّ آليّة نشوء هذه الهضبة صورةٌ من صوَر الإعجاز الرّبانيّ، ينسجم بدوره مع الأركان الثّلاثة – التي تقدّم ذكرُها - للتّدبير الإلهيّ في قصّة الطّوفان.

ثمّ إنّ الأخبارَ المرويّة عن طريق الأئمّة المعصومين عليهم السّلام بخصوص موطن قوم نوح ومرساة سفينته، كثيرةٌ، نذكر بعضها، وفي مقدّمتها ما ورد في دعاء الزّيارة عند ضريح أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، المأثور عن الإمام زين العابدين عليه السّلام، وكذلك بقيّة الأئمّة الأطهار... «السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَميرَ المُؤْمِنينَ، وَعَلى ضَجيعَيْكَ آدَمَ وَنوحٍ، وَعَلى جارَيْكَ هودٍ وَصالِحِ...»

وفي الرّوايات المُتواترة أيضاً أنّ بيت نوح عليه السّلام كان في موقع مسجد الكوفة، وأنّه دُفن في النّجف الأشرف، في نفس الموقع الذي دُفن فيه جَدَثُ آدم عليه السّلام الذي حمله معه في السّفينة. وفي رواية أخرى أنّ الإمامَ عليّاً عليه السّلام عندما أوصى ولدَيه الحسن والحسين عليهما السّلام بمكان دفنه، أخبرهم أنّ الموقع الذي أرشدهم إليه، هو قبر النّبيَّيْن آدم ونوح عليهما السّلام.

في هذا الإطار أيضاً، هناك رواية صفوان الجمّال التي ذكر فيها بأنّه كان بصحبة أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام، وهو في طريقه من المدينة إلى العراق، فلمّا وصلا القادسيّة شاهد من بعيد هضبة النّجف، قال الصّادق عليه السّلام: «هذا الجَبَلُ الذي أَرادَ ابْنُ جَدّي نوحٍ أَنْ يَعْتَصِمَ بِهِ عِنْدَما قالَ: ﴿سَآَوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ..﴾ هود:43».

وهنالك كثيرٌ من الأحاديث والرّوايات عن قُدسيّة أرض النّجف لكونها مقاماً ومثوى للأنبياء والأوصياء. [راجع تحقيق مجلّة شعائر حول مدينة النّجف، العدد الثّاني عشر، والعدد الأربعون]

 

اخبار مرتبطة

  ملحق شعائر 14

ملحق شعائر 14

  دوريّات

دوريّات

25/04/2014

دوريّات

نفحات