أعلام

أعلام

منذ 3 أيام

التّابعيّ الكبير مالك الأشتر النّخعي

 

الإمام عليّ عليه السّلام: «كانَ لي، كما كنتُ لرسولِ الله صلّى الله عليه وآله»

مالكُ بن الحارث الأَشْتَرُ النَّخْعيّ المَذْحِجيّ

«..عَلى مِثل مَالكٍ فَلْتَبكِ البَواكي»

___________ إعداد: «شعائر» __________

 

* من التّابعين بإحسان، ومن طليعة المجاهدين في فتوح الشّام والعراق وفارس، وله المواقف المشهودة فيها. 

* شهدَ تمصيرَ الكوفة، وغدا زعيمَ قومه المَذْحِجيّين فيها، ثمّ رأسَ المعترضين على الانحراف في السُّلطة.

* يمينُ أمير المؤمنين عليه السّلام في الحرب والسّلم، ولّاه على الجزيرة، وكان قائدَ جيشِه في «الجمل» و«صفِّين».

* عهد إليه أميرُ المؤمنين عليه السّلام بولاية مصر، ولكنّه استُشهد قبلَ أن يبلغها، فعدَّ الأميرُ عليه السّلام موتَه «من مصائب الدّهر».

 

* هو مالكُ بن الحارثِ النّخعيّ المَذْحِجيّ، وُلد في اليمن ونشأ بها، لم يضبط التّاريخُ عامَ ولادته، ولكن تُفيد القرائن أنّه ربّما وُلد في السّنة العشرين قبل الهجرة، أو يزيد قليلاً، باعتبار أنّه لمّا قدم إلى المدينة، في حدود السّنة الثّانية عشرة من الهجرة، كان من الفرسان ذَوي المكانة في قومه.

* كُنيته أبو إبراهيم، وابنُه إبراهيم أحدُ أركان حركة المختار الثّقفيّ، الّذي أخذ بالثّأر من قَتَلة سيّد الشّهداء عليه السّلام.

* لقبُه «الأَشْتَر»، يعني «مَن انقلبَ جفنُ عينِه ولم يعد قادراً على إطباقه»، وحصل معه ذلك إثر جراحةٍ أُصيبَ بها في معركة «اليرموك».

مجاهدٌ طليعيّ

كان مالكُ الأشتر واحداً ممّن أسلموا من دون أنْ يَروا النّبيّ صلّى الله عليه وآله، أو يسمعوا حديثَه، وبُعَيد وفاته صلّى الله عليه وآله، هاجر من بلده في اليمن إلى المدينة على وَقع حركة الفتح الّتي انطلقت آنذاك. 

وقد كان من اليمانيّين الّذين شكّلوا ما يزيدُ على نصف الجيش الّذي خرج سنة 13 للهجرة، قاصداً العراق لمحاربة السّاسانيّين، ثمّ عاد مع فرقةٍ من الجيش الإسلاميّ إلى الشّام لمقاتلة الرّوم، حيث ظهر اسمُه لأوّل مرّة في نصٍّ ينقله ابن عساكر، ويبيّن شجاعتَه ومبادرتَه في الحرب: «فلمّا انتهوا إلى تلك الجماعة من الرّوم، وأقبلوا يرمونهم بالحجارة من فوقهم، تقدّم إليهم الأشتر وهو في رجالٍ من المسلمين، فإذا أمامَهم رجل من الرّوم عظيمُ الجسم، فمضى [الأشتر] إليه حتّى وقفَ عليه، فاستوى هو والرّوميّ على صخرةٍ مستويةٍ فاضطربا بسيفَيهما، فأطرّ الأشتر كفَّ الرّوميّ..». وانتهى الأمر بقتله الرّجل الرّوميّ وانهزام جماعته.

أمّا مشاركتُه في معركة «اليرموك» ضدّ الروم أيضاً، فمعلومة في التّواريخ، وقد أبلى فيها أحسن البلاء كما ينقل ابنُ عساكر: «وكان الأشتر الأحسنَ في اليرموك، قالوا: لقد قتل ثلاثة عشر». وقد شُتِرت فيها عينُه كما مرّ.

مالك في الكوفة

في أوائل سنة 15 للهجرة، غادر مالكٌ الشّام متّجهاً إلى العراق مع فريقٍ من عسكر المسلمين مدداً للجيش الّذي كان معسكِراً في القادسيّة استعداداً للمعركة الكبرى المترقّبة مع الفرس، ولكن لم تنقل المصادر تفاصيل عن مشاركته في معركة «القادسيّة». يقول الشّيخ جعفر المهاجر في كتابه (مالك الأشتر سيرته ومقامه في بعلبك)، أنّ مالكاً شهدَ في السّنتَين التّاليتَين لعوده إلى العراق، المعاركَ المتوالية الّتي أنهت آخر وجودٍ للدّولة السّاسانيّة في العراق، وأنّه شهد تمصيرَ الكوفة، سنة 17، حيث كان لقومه النّخْع مكانٌ مناسبٌ في تخطيط المدينة الجديدة، ومع تمصيرها ألقى عصا التّرحال، واستقرّ فيها مع بني قومه.

موقفه من الانحراف في السّلطة

عاش مالك الأشتر، رضوان الله عليه، في الكوفة بُعيد الفتوح في الشّام والعراق عيشةً مستقرّة، وكان من وجوه أهلها وسيّداً من ساداتها، وقد اتّجه اتّجاهاً تعبّديّاً؛ فكان من جملة الّذين عُرفوا بالقرّاء، يعلّمون النّاس القرآن، واستمرّت الأمور على هذه الحال إلى أن بدأت تظهر آثارُ سياسات استئثار البيت الأمويّ بمقدّرات المسلمين، واستهتارهم بالشّعائر الدّينيّة، من ذلك أنّ أخا عثمان بن عفّان لأمّه، وهو الوليد بن عقبة، كان والياً على الكوفة، فاستفزّ هذا الأمرُ أهلَها لِما كان يُعرف من فسق الوليد وتجاهره بالحرام. وقد بلغ من استهتار الوليد أنّه أخَّر صلاة الصّبح يوماً، ومرّةً أخرى صلّى بالنّاس وهو سكران، فكان مالك من الّذين اعتَرضوا على سلوكه، ومن الّذين توجّهوا إلى المدينة لرفع الشّكوى وتقديم البيّنات على انحرافه، ما أدّى إلى عزله وتعيين سعيد بن العاص - الأمويّ أيضاً - مكانه.

ولم تمضِ فترة طويلة حتّى أظهر سعيد بن العاص مكنوناتِ نفسه المعبّرة عن نزعة الاستئثار بالسّلطة؛ ففي مجلسٍ ضمّه ومالكاً الأشتر وآخرين، قال سعيد: «إنّما السّوادُ بستانُ قريش»، يقصد أنّ أرض العراق مُلْك لعائلته يفعلون فيها ما يشاؤون، فاستفزّ هذا القولُ الأشتر، فردّ على الوالي بقوله: «أَتَجعلُ مراكزَ رماحِنا، وما أفاء اللهُ علينا بستاناً لكَ ولقومك؟ والله لو رامه أحدٌ لقُرع قرعاً يَتَصَأْصَأُ منه [أي يُذلّ]». ثمّ قام أصحابُ مالك بضرب صاحبِ الشّرطة الّذي دافع عن مقولة الوالي.

نفيُه إلى الشّام

كانت هذه الحادثة أوّلَ تصادمٍ بين الوالي الأمويّ الجديد وأهل الكوفة، الّذين عبّر عنهم مالك بتلك الجرأة والحزم. فما كان من سعيد بن العاص إلّا أن كتب إلى عثمان شاكياً الأشتر وأصحابه يقول: «إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الّذين يُدعَون القرّاء - وهم السّفهاء - شيئاً». فأتى الجواب بنفي الأشتر وأصحابه إلى الشّام، وكتب عثمان إلى الأشتر بالخصوص يقول له: «إنّي لأَراكَ تُضمر شيئاً لو أظهرتَه لحلّ دمُك، وما أظنّك منتهياً حتّى تصيبَك قارعةٌ لا بُقيا بعدها، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ إلى الشّام لإفسادك مَن قِبَلك».

وهكذا فقد نُفي الأشتر إلى الشّام، ونُفي معه عددٌ من أبرز سادة الكوفة، منهم: كميلُ بن زياد، والحارثُ الهمدانيّ، وزيد بن صوحان الأزديّ وآخرون، ممّا أثار حالةً عامّةً من الاستنكار والغضب في الكوفة، تمثّلت في كتابٍ أرسله جمعٌ من وجهائها إلى عثمان، منهم حجر بن عديّ، وعمرو بن الحمق، وسليمان بن صُرد، جاء فيه: «إنّ سعيداً [بن العاص] أكثرَ على قومٍ من أهل الوَرَع والفضل والعفاف، فحمّلكَ في أمرهم ما لا يحلّ في دِينٍ، ولا يحسُن في سماعٍ، وإنّا نذكّرك الله في أمّة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فقد خفنا أنْ يكون فسادُ أمرِهم على يدَيك، لأنّك قد حملْتَ بني أبيك [الأمويّين] على رقابهم، واعلم أنّ لك ناصراً ظالماً، وناقماً عليك مظلوماً، فمتى نصرَك الظّالم ونقمَ عليك النّاقم تباينَ الفريقان، واختلفتِ الكلمة..».

ولمّا بلغ معاويةَ أنّ قوماً من أهل دمشق يجالسون الأشترَ وأصحابه أحسّ بالخطر، فكتبَ إلى عثمان يقول: «إنّك بعثْتَ إليّ قوماً أفسدوا مِصرَهم وأنغلوه، ولا آمَنُ أن يُفسدوا طاعةَ مَن قِبَلي، ويعلّموهم ما لا يُحسنونه، حتّى تعودَ سلامتُهم غائلةً، واستقامتهم اعوجاجاً». فكتب إليه عثمان أن يسيّرهم، أي مالكاً وأصحابه، إلى حمص، ففعل.

وحين دبّ الخلاف والاختلاف بين المسلمين، بسبب مخالفة البعض لتعاليم القرآن الكريم وسنّة النّبيّ الأمين صلّى الله عليه وآله، لم يَسَع الأشترَ السّكوتُ وقد كُسِر ضلع عبدالله بن مسعود الصّحابيّ الجليل، وأُخرج بالضّرب من المسجد النّبويّ، ونال عمّارُ بن ياسر من العنف والضّرب ما ناله، وهو الصّحابيّ الشّهمُ المخلصُ المضحّي، ولَقِيَ أبو ذرّ ما لَقِيَ من النّفي والتّشريد وقطعِ عطائه، وهو الّذي مُدح مدحاً جليلاً على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فسار مالكُ الأشتر في مائتي رجلٍ، وفيهم كثيرٌ من الصّحابة الأتقياء والتّابعين بإحسان، فعرضوا على عثمان مطالبهم ومعارضتهم لهذه الانتهاكات الواضحة، إلّا أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام أرجعَهم وأمرَهم بالصّبر؛ توقّياً من الفتنة، وحفظاً لدماء المسلمين مِن أنْ تُراق، بل حفاظاً على الإسلام من ارتداد النّاس عنه. فلمّا رجع المعترضون، أمسكوا في الطّريق بغلامٍ معه كتابٌ من عثمان يأمر فيه عامله بالتّنكيل ببعض المعترضين، وحَبْسِ بعضهم، وقتل البعض الآخر، فغضبوا ورجعوا إلى المدينة وحاصروا دار الحكومة، ومِن هناك سَرَت نيرانُ الثّورة، فكان ما كان.

الأشتر في خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام

يظهر أنّ أوّل معرفة لمالك بأمير المؤمنين عليه السّلام كانت عندما حضر إلى المدينة في ظروف نقمة المسلمين على عثمان. فلمّا قُتل هذا الأخير، وراح النّاسُ ينثالون على أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام لمبايعته، كان مالك في طليعتِهم، وأوّلَ مَن بايعَ وصيَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ اختار ملازمتَه والعيشَ في ظلِّه صلوات الله عليه.

 

وحينما دبّت «فتنة الجَمل»، واضطُرّ الإمام عليّ عليه السّلام لمواجهةِ هذا الانقلاب، جاء الأشتر إلى الإمام يستأذن في أن يتقدّمه إلى الكوفة لحشد النّاس، فأذِنَ له، فأقبل حتّى دخلَها، فوجد واليَها أبا موسى الأشعريّ – الّذي عُيّن خلَفاً لسعيد بن العاص- يخطبُ في النّاس يثبّطهم عن الخروج، فجعلَ الأشترُ لا يمرّ بجماعةٍ من النّاس إلّا دعاهم قائلاً: «اِتبعوني إلى القصر»، فدخلَ قصر الإمارة، وأَخرَج منه جماعة الأشعريّ.

 ونزل الإمامُ عليه السّلام منطقة «ذي قار» بمَن جاء معه من الحجاز، والتَحقت به الجموعُ القادمةُ من الكوفة ممّن استنفرهم مالك، فجعلَه الإمامُ على مَيمَنة جيشِه، وسار بهم الى البصرة.

دارت الحرب بين الطّرفَين وسقط فيها آلاف القتلى، وانهزم معسكرُ النّاكثين، وقد برزَ فيها دور الأشتر حينما تقدّم الى «الجمل الفتنة»، قاصداً عبد الله بن الزّبير الّذي كان يُمسك بخطامه، باعتبار أنّه رأسُ الفتنة ومَن أكرَه عائشة على الخروج، فضربه الأشترُ على رأسه فجرحَه، ثمّ نزلا عن فرسَيهما واعتركا، إلى أن خلّص ابنَ الزّبير أصحابُه، بعدما سمعوه يستغيث: «اقتلوني ومالكاً».

الأشتر في «صفِّين»

بعد واقعة «الجمل»، دانتِ الأقطار لأمير المؤمنين عليه السّلام، وبايعَه أهلُ البصرة، وأهلُ مصر والبلدانُ الّتي فُتحت في فارس، إضافةً إلى الحجاز حيث كانت قد تمّت له البيعة أوّلاً، إلّا معاوية بن أبي سفيان الّذي كان والياً على الشّام مِن قِبَل عثمان، فإنّه قد أبى البيعةَ متذرّعاً بفِريَة الاقتصاص من قَتَلة عثمان، فقرّر الإمامُ المسيرَ الى الشّام لقتال معاوية. وعندما وصل إلى الرّقّة، وجد أنّ أهلَها قد فكّكوا الجسرَ المنصوبَ على نهر الفرات، قاصدين إعاقة تقدّم جيش الإمام وعبوره إلى الجانب الشّاميّ من النّهر، وأبَوا إعادته، فناداهم الأشتر - كما في (وقعة صفِّين) للمنقريّ - قائلاً: «يا أهلَ هذا الحصن! إنّي أُقسمُ بالله، لَئِن مضى أميرُ المؤمنين ولم تجسّروا له عند مدينتِكم حتّى يعبرَ منها لأُجرّدنّ فيكم السّيف، ولأقتلنّ مقاتلتَكم، ولأخرّبنّ أرضَكم، ولآخذنّ أموالَكم. فَلَقِيَ بعضُهم بعضاً، فقالوا: إنّ الأشتر يَفي بما يقول، وإنّ عليّاً خلّفه علينا ليأتينا منه الشّرّ. فبَعثوا إليه: إنّا ناصبون لكم جسراً فأقبلوا. فأرسل الأشترُ إلى عليٍّ فجاء، ونَصبوا له الجسر، فعبر الأثقال والرّجال، ثمّ أمرَ الأشترَ فوقفَ في ثلاثة آلاف فارس، حتّى لم يبقَ أحدٌ من النّاس إلّا عَبَر، ثمّ إنّه عَبَر آخر النّاس راجلاً». 

ولمّا اشتعلتِ الحرب بين الشّاميّين والعراقيّين، كان للأشتر وقومه النّخْع اليدُ الطّولى فيها، ففي  المرحلة الأولى الّتي اقتصرت على المبارزة بين أفرادٍ من الجيشَين، بارز الأشترُ ثمانية من فرسان أهل الشّام، وأرداهم واحداً بعد واحد.

ولمّا اصطفّ العسكران بالكامل وبدأ القتال، كان الأشتر أوّلَ مَن خرج بخيلِه من أهل الكوفة، ودارت الحرب أيّاماً طويلة أبلى فيها الأشترُ البلاءَ الحَسَن.

وفي يوم الجمعة السّابع عشر من شهر صفر، سنة 37 للهجرة، وهو صباحُ «ليلة الهرير» الّتي لم يكفّ فيها النّاسُ عن القتال، كان أمير المؤمنين في قلب الجيش، والأشتر على المَيمَنة، فراح يزحف بها ويقول لأصحابه الّذين أرهقَهم طولُ القتال: «ازحفوا قيدَ هذا الرّمح»، ويزحف بهم، فإنْ هم فعلوا، قال: «ازحفوا قيد هذا القوس»، حتّى ملّ النّاسُ وبلغ بهم التّعب، فدعا بفرسِه وتركَ الرّايةَ مع أحد فرسان مَذْحج، وخرجَ يسيرُ بين الكتائب وينادي: «مَن يشتري نفسه مِن الله عزّ وجلّ حتّى يَظهرَ أو يَلحقَ بالله؟».

وسارتِ الأمورُ على هذا النّحو حتّى كاد جيشُ الإمام يحقّقُ النّصرَ المبين، وهنا ظهرت خدعةُ رفع المصاحف الّتي انطلتْ على المغفّلين في عَسكر العراق، فهدّدوا بقتال الإمام أو القبول بإيقاف الحرب، فأمَر الإمام عليه السّلام مالكاً بالرُّجوع من المعركة، بعد أن كان على وشك الوصول إلى خيمة معاوية.

فأقبل الأشتر، فصاح بهؤلاء الّذين عُرفوا بـ «الخوارجَ» فيما بعد: «يا أهل الذُّلّ والوَهَن، أحينَ عَلَوْتم القومَ فظنّوا أنّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يَدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمَرَ اللهُ فيها وسُنَّةَ مَن أُنزِلت عليه، فلا تجيبوهم..»، ولمّا لم يسمعوا له وأصرُّوا على وقف القتال، قال لهم: «خُدِعتم والله فانخَدَعتُم، ودعيتُم إلى وضعِ الحرب فأَجبْتُم، يا أصحابَ الجباهِ السُّود، كنّا نظنّ صلاتَكم زهادةً في الدّنيا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى فرارَكم إلّا إلى الدّنيا من الموت. ألا فَقُبْحَاً..».

وبعد انتهاء معركة صفّين، وما أعقبَ التّحكيم، عاد مالكُ الأشتر إلى عملِه بالجزيرة، وما تحتَ سلطانه من أرض العراق، والّتي كانت في غاية الأهمّيّة لِقُربها من حدود الشّام، وقد ضبطَها ضبطاً محكماً.

ولايتُه على مصر

استطاع معاوية وعمرو بن العاص أن يُثيرا الشّغب ويخلقا المتاعب في مصر لوالي الإمام محمّد بن أبي بكر، وخطّطا لِقتله، تمهيداً لاحتلالها. فلمّا علمُ الإمام عليّ عليه السّلام بذلك، كتبَ إلى مالك الأشتر وهو في نَصيبين بالجزيرة: «..أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيمِ، وأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ، وقد كنتُ ولّيتُ محمّدَ بنَ أبي بكر مصر، فخَرَجَت عليه الخوارجُ، فأقدِم عليّ للنّظر في ما ينبغي، واستَخْلِف على عملِك أهلَ الثّقة والنّصيحة من أصحابك، والسّلام».

وأتبعَ الأميرُ صلوات الله عليه كتابَه هذا، بآخر إلى أهل مصر، قال فيه: «..أمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللهِ، لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ، ولَا يَنْكُلُ عَنِ الأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ، أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ، وهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ، فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ ".." وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ، وشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ..».

وقد حمّل الإمام عليه السّلام مالكاً عهداً هو من أجمع ما جاءَ في كُتبه عليه السّلام، لوجوه السّياسة المدنيّة والإداريّة فيها، أثبتَه الشّريفُ الرّضيّ في (نهج البلاغة).

وفاته ومدفنه

خرج مالك الأشتر من الكوفة قاصداً مصر يحملُ عهدَ ولايتها، ومن ذلك الحين انقطعت أخبارُه، وما وصلَ هو رواياتٌ متضاربةٌ تحملُ مضموناً واحداً، هو أنّه حينما وَصل إلى القُلزم [مدينة السّويس في مصر] على البحر الأحمر، قام أحدُهم بأمرٍ من معاوية بدَسِّ السُّمّ له في شربةٍ من عسل، فمات من حينه. وللشّيخ جعفر المهاجر في كتابه (مالك الأشتر، سيرته ومقامه في بعلبك) دراسة نقديّة لروايات موت مالك في القلزم، حيث يرجِّح أنّها وُضعت بأمرٍ من معاوية أو أجهزته بهدف التّضليل عن حقيقة ما جرى لمالك، ويرى الشّيخ المهاجر أنّ مالكاً رضوان الله عليه، لم يصل إلى تلك البلاد أبداً، مستفيداً من «قرائن قويّة» على وجود قبرٍ لمالك في الجهة الشّماليّة من مدينة بعلبك، في لبنان.

في المقابل، هناك آراء تؤكّد أنّ مالكاً استُشهد في مصر، مستدلّةً برواياتٍ تاريخيّة، ومدعِّمة أقوالَها بوجود قبرٍ يُنسَب إلى مالك الأشتر بمنطقة المرج بالقاهرة، يُعرَف بقبر «الشّيخ العجميّ»، أو «السّيّد العجميّ»، تمّ تجديدُ بنائه في السّنوات الأخيرة، وصُوَره منشورةٌ ومتداولة.

أمّا أمير المؤمنين سلام الله عليه، فلمّا بلغه نبأُ استشهاد مالك، استرجع وبدا عليه الحزن والألم، وقال، في جملة ما قال ناعياً إيّاه:

- «إنّا للهِ وإنّا إلَيه رَاجعون، والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، أللّهمّ إنّي أحتَسِبُهُ عِنْدَكَ، فَإنَّ مَوتَه مِن مَصائبِ الدَّهْر».

- «للهِ دَرُّ مالك! وما مالك؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْداً [المنفرد من الجبال]، ولو كان حجَراً لكان صَلْداً، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَماً، ولَيُفرِحَنّ عالَماً، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي».

- وقال عليه السّلام: «رَحِمَ اللهُ مَالِكاً، فَلَقَد كانَ لِي كَما كنتُ لِرسولِ الله صلّى الله عليه وآله».

اخبار مرتبطة

  ملحق شعائر 14

ملحق شعائر 14

  دوريّات

دوريّات

منذ 3 أيام

دوريّات

نفحات