أحسن الحديث

أحسن الحديث

25/07/2014

أسلوب العلّامة الطّباطبائيّ في (تفسير الميزان)

أسلوب العلّامة الطّباطبائيّ في (تفسير الميزان)

تكاملُ المنهج بين العقليّ والغيبيّ

ـــــ الشّيخ عارف هنديجاني فرد* ـــــ

 

لقد تميّز أسلوبُ العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ قدّس سرّه، في (تفسير الميزان) بالدّرجة العلميّة والرّوح الموضوعيّة معاً، إذ تَراه يستندُ في فَهمه للآيات القرآنيّة على مبادىء وأُسس ثابتة، سواء من القرآن الكريم، أم من السّنّة النّبويّة الشّريفة، وبالمأثور عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام.

وهذه المقالة الّتي نقدّمها للقارئ هي مقتطف من كتاب المفكّر افسلاميّ الشّيخ عارف هنديجاني فرد الصّادر تحت عنوان (علوم القرآن عند العلّامة السّيّد محمّد حسين الطباطبائيّ).

 

كانت الآية الّتي استند إليها العلّامة الطّباطبائيّ، في منهجه لتفسير القرآن الكريم، هي قوله تعالى: ﴿..وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً﴾ النّساء:82، حيث إنّها ناظرةٌ إلى حقيقة ما ينبغي أن ينطلقَ منه المُفسّر في فهم آيات الله تعالى وتفسيرها، فيما لو كان مُتوفّراً على الشّروط والصّفات الّتي تؤهّله لهذا التّفسير، لأنّه غالباً ما لا تكون للمُفسّر القدرات اللّازمة للولوج إلى هذا البحر العظيم الّذي لا يُدرَكُ قَعرُه، فهو كلامُ الله تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصّلت:42.

ثلاثة مصادر لفَهم القرآن

انطلاقاً من ذلك، نرى أنّ العلّامة الطبّاطبائيّ يختلف عن سائر المُفسِّرين في كونه جمع إلى الإحاطة المعرفيّة الكاملة للقرآن، القدرة العقليّة الّتي تميّز بها في تناول آيات القرآن للكشف عمّا تهدي إليه، سواء في مجال الدّين أم في مجال الدّنيا.

يقول آية الله الشّيخ جوادي الآمليّ في كتاب (الطّباطبائيّ مفسِّراً وفيلسوفاً): «إنّ العلّامة بنى تفسيره على ثلاثة مصادر يستحيل أن يتعارض معها القرآن، وهي:

أوّلاً: المُحكَمات من الآيات.

وثانياً: السُّنّة القطعيّة.

وثالثاً: المبادىء العقليّة والأصول اليقينيّة». (...)

إنّ الإحاطة العلميّة الواسعة للعلّامة الطّباطبائيّ بالقرآن والسُّنّة من جهة، وبعلوم الحياة من جهةٍ ثانية، مع ما رافق ذلك من تكاملٍ سلوكيّ في شخصيّته، كلّ ذلك جعل من أسلوبه في التّفسير أسلوباً كاشفاً عن كثيرٍ من الحقائق القرآنيّة.

وإذا كانت للعلّامة الطّباطبائيّ هذه الميزة، فهو إنّما ارتكز إلى حقيقة ما للقرآن من معانٍ وأبعاد تتجاوز العالم الحسّيّ، إلى عالم ما بعد المادّة، ذلك العالم الّذي أنزل منه القرآن على قلب رسول الله، صلّى الله عليه وآله، حيث تلقّى القرآن من لدن عليم حكيم.

وطالما أنّ لهذا القرآن هذا المعنى في عالمَي المُلك والملكوت، وأنّ ﴿..الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..﴾ الإسراء:9، وأنّه لو ﴿.. كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا..﴾ النّساء:82، فقد أوضح هذا كلّه للعلّامة الطّباطبائيّ طريقة الوصول إلى الحقائق القرآنيّة، لأنّ ما ليس من عند الله تعالى يقع فيه الاختلاف. والّذي يهدي إلى الّتي هي أقوم تتجلّى فيه المعرفة الكاملة، خلافاً لبقيّة الكتب، وهذا دليل واضح على أنّ كلام الله تعالى لا يُشبه كلام الخَلق، كما لا تشبه أفعاله أفعالهم. (...)

لذا، فإنّ من أهمّ ما تميَّز به أسلوب الطّباطبائيّ في تفسير القرآن، فضلاً عن معرفته الكاملة للقرآن، هو إيمانه القويّ بالرّسول، صلّى الله عليه وآله، والأئمّة الأطهار، عليهم السّلام؛ إذ هو لم يكتفِ بعرض الآيات القرآنيّة على نحو ما اشتهر عنه من تفسيرٍ للقرآن بالقرآن، وإنّما سعى إلى تفسير الآيات بالسّنّة القطعيّة، لأنّ سنّة أهل البيت، عليهم السّلام، والقرآن مرتبطان بحقيقةٍ واحدة، هي حقيقة الحقّ المحض، فكيف يمكن أن تختلف السّنّة مع القرآن؟

وقد ثبت أنّ الثّقلَين، كتاب الله وعترة أهل البيت عليهم السّلام، لا يفترقان حتّى يَرِدا الحوض على النّبيّ صلّى الله عليه وآله، إلى غير ذلك من الأحاديث النّبويّة الّتي تساعد على التّجلّي في التّفسير للقرآن فيما انطوى عليه من عبادات ومعاملات وسياسات، ومنهج قويم، وكمال دِين، حيث إنّ القرآن هو كتاب كامل نزل به الرُّوح الأمين على قلب رسول الله، صلّى الله عليه وآله، ليكون مُبشِّراً ونذيراً، من خلال القرآن الّذي جعله الله تعالى تبياناً لكلّ شيءٍ، لا في مجال الهداية وحسب، كما هو مبنى ظاهر اللّفظ من البيان، وإنّما في ما هو كائن ويكون إلى يوم القيامة، وكما يرى الطّباطبائيّ أنّ هناك رواياتٍ لو صحّت تكشف عن أسرار وخبايا لا سبيل للفهم المُتعارف إليها.

المنهج العقليّ - الغيبيّ

إذاً، هناك ما يميِّز أسلوب الطّباطبائيّ في (تفسير الميزان)؛ فهو بالإضافة إلى قدراته العقليّة، واستيعابه الآيات القرآنيّة من حيث مدلولاتها وما تعرّضت له من مواضيع وحقائق، نرى أنّ الطّباطبائيّ أحاط بما سبقه من أهل التّفسير ومناهجهم، عارضاً لكثيرٍ من أغاليطهم في مجال الفهم والتّحليل، إضافة إلى المعارضة في ما عرضوا له، سواء لجهة فهم الآيات القرآنيّة بذاتها، أم لجهة الاستدلال عليها بالرّوايات الّتي لا تصلح لأن تكون دليلاً، وهذا ما أدّى إلى أن يكون القرآن عرضة للتّفسير بالرّأي، ولضَرب القرآن بالقرآن، ويكفي للتّدليل على هذا المعنى التّأمّل في ما عرض له كثير من المفسِّرين في فهم الشّجرة الملعونة في القرآن، إلى غير ذلك من الآيات الّتي جزّأت الحقيقة الواحدة، ومنعت من فهم المُراد منها.

وممّا تجدر الإشارة إليه هنا، هو أنّ الطّباطبائيّ لم يسلك في تفسيره، وفي أسلوبه طريق الاستدلال بالآية على الآية وحسب، بل نراه يميّز في استدلالاته بين ما هو ناظرٌ إلى المعارف العقليّة، وبين آيات الأحكام العباديّة، نظراً لما كان يمتلكُه من منهجٍ عقليٍّ ميّز أسلوبه في التّفسير، وتجنّب من خلاله التّعارض مع الدّليل العقليّ القاطع، ولذا هو ميَّز بين الآيات الّتي لها بُعْدٌ عقائديّ، وبين الآيات ذات البُعْدِ التّشريعيّ العباديّ، على اعتبار أنّ العبادات ليست مجالاً للعمل العقليّ، وإنّما هي توقيفيّة.

وكان إذا لم يعثر على دليلٍ ضمنَ البحوث العقليّة، يفسّر الآية بحيث لا تتعارض مع أيّ دليلٍ عقليٍّ قاطع. ولا شكّ في أنّ المُتأمِّل في تفسير الطّباطبائيّ يلحظ كيف أنّه لم يستغرق في آيات الأحكام والعبادات لكونه يعتبر التّفصيل بشأن أحكامها من اختصاص كُتُب الفقه، وهذا ما بيّنه في مقدّمة تفسيره مُفضّلاً عدم التّعرّض لها إلاّ بالمقدار الّذي لا يُخلّ بعمليّة التّفسير، الّتي لا بدّ من التّواصل بها في سياق عرض الآيات في السّورة الواحدة. (...)

إنّ أدنى تأمّل في ما عرض له الطّباطبائيّ في تفسيره (الميزان)، يكشف عمّا بلغه من باعٍ في التّفسير، إذ استطاع أن يحدث قفزةً نوعيّةً في التّفسير القرآنيّ رغم أنّ هناك المئات من التّفاسير القرآنيّة وبمناهج متنوّعة، إلّا أنّ للـ (ميزان) ميزته وتفرّده بين هذه التّفاسير، لأنّه جمع إلى تفسير الآية بالآية، القدرة العقليّة المُتميّزة، لكون الطّباطبائيّ هو مِنَ الذين يؤمنون بأنّه لا تناقض بين العقل والوحي، لأنّ التّناقض معناه عدم قبول العقل القطعيّ، واعتبار الوحي الإلهيّ باطلاً، وهذا بحدِّ ذاته يؤكّد استحالة التّضادّ بين حُجّتيْن من حُجَج الله سبحانه. وكيف يُمكن لباحث أن يستثنيَ العقلَ في تفسيره القرآن، وجميع المعارف الإلهيّة والحقائق الموجودة في القرآن مستندة إلى حقيقة واحدة، وهي أصلها جميعاً، كما يقول الطّباطبائيّ، وهي التّوحيد. فالقرآن، كما يرى الطّباطبائيّ، يؤيّد التّفكّر العقليّ ويعتبره جزءاً من التّفكير الدّينيّ، والتّفكّر العقليّ بعد أن يصادق على صدق نبوّة النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، يجعل الظّواهر القرآنيّة بما فيها الوحي السّماويّ، وأقوال النّبيّ وأهل البيت، عليهم السّلام، من موارد الحُجَج العقليّة.

لقد ابتعد الطّباطبائيّ، كما هو مشهودٌ له، عن التّفسير بالرّأي، أو بالرّوايات الّتي لم يصحّ سندها إلى النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، والأئمّة المعصومين، عليهم السّلام، كما أنّه ابتعد عن التّفسير العقليّ المحض رغم إيمانه بأنّ العلوم والمعارف الدّينيّة تتعلّق بما وراء الطّبيعة، باعتبار أنّها مُنزّهة عن الخضوع لقوانين الحركة والمادّة، فهي تتمتّع بأصلٍ ثابت، وبحقيقةٍ ثابتة غير مُتغيّرة.

ولعلّه لا يكون من المبالغة القول، إنّ أسلوب الطّباطبائيّ في (تفسير الميزان)، لو أنّه سبق للمُفَسِّرين أن اعتمدوه أو أخذوا بشيءٍ منه في سياق بحوثهم القرآنيّة، لاكتشفوا الكثير من أبكار الحقائق، ولكنّهم اكتفوا بحدود الرّوايات وما تفيده من دلالات في سياق المعنى الدّينيّ، ما أدّى إلى (أن تصبح) التّفاسير القرآنيّة شعراً منثوراً، أو ألفاظاً وقوالب مادّيّة لا يستبين فيها الأمر إلّا بمقدار ما يتعمّق فيه هذا المُفسّر أو ذاك في الكشف عن الأبعاد اللّغويّة، والبلاغيّة، والإعجازيّة التي ينطوي عليها القرآن الكريم.

ولكن، كما تبيّن لنا، في سياق عرضنا لأهمّ ما تميّز به أسلوب الطّباطبائيّ، أنَّ كثيراً من التّفاسير أخرجت القرآنَ من كونه تجلّياً لتجعل منه تجافٍ، وتجاهلت أنّ الألفاظ إنّما وُضعت لأرواح المعاني، إلى غير ذلك ممّا لم يتنبّه له كثيرٌ من المُفسِّرين، وخاصّة في مجال تجلّي القرآن، الّذي يرى فيه الطّباطبائيّ، تجلّياً طوليّاً ينتهي به إلى أمّ الكتاب. ولهذا، فإنّك تجده يركِّز على معارف القرآن الطّوليّة، ويضع كلّاً منها في مرتبتِه الخاصّة به، وقد يطول الكلام فيما لو أردنا الحديث عمّا تميّز به أسلوب الطّباطبائيّ في تفسيره، الّذي جعل مُحكمات القرآن أساساً له، كما قال الإمام الرّضا عليه السّلام: «مَن رَدَّ مُتَشابِهَ القُرْآنِ إِلى مُحْكَمِهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ».

 

* عالم دين وباحث إسلامي من إيران

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

26/07/2014

دوريّات

نفحات