المدينة المنوّرة في عهد الرسول

المدينة المنوّرة في عهد الرسول

03/05/2011

أوّل عاصمة لدولة التوحيد العالميّة

 تحقيق: أحمد الحسيني

حين أصرّت مكّة بغالبيّتها على عبادة الأصنام، اختارت يثرب التوحيد والنبوّة. حباها الله تعالى بشرف الهجرة النبويّة، فكانت مهبطَ الوحي، وقاعدة الدولة المحمّديّة الإلهيّة. احتضنت ثاني الحرمَين، ومزار أشرف خلق الله تعالى، وبضعته سيّدة نساء العالمين، وأسباطه الأئمّة. الحسن المجتبى، والسجّاد، والباقر، والصادق، وموطناً لسائر الأئمّة - النقباء الإثني عشر عليهم السلام.
ما يلي تحقيق حول المدينة المنوّرة من استقبال رسول الله إلى وفاته صلّى الله عليه وآله.

كان رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يدع مناسبة إلّا ودعا الناس فيها إلى الإسلام، وكان يرى الفرصة مناسبة للدّعوة في موسم الحجّ، حيث تَفِد القبائل العربيّة إلى مكّة. ففي العام الحادي عشر من البعثة الشريفة، لقي النبيّ صلّى الله عليه وآله وفداً من الخزرج في منطقة «العَقَبَة» في مكّة، يضمّ ستّة رجال، (ذكرت كتب السّيرة والتاريخ أسماءهم)، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوه في ما دعاهم إليهم، ولا سيّما أنّهم سمعوا من اليهود أنّ نبيّاً سيظهر في أرض الحجاز.
وعندما عادوا إلى يثرب حدّثوا بما سمعوا، فآمن فريق من أهلها.
في العام التالي، قدم مكّة اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب (ذكرت كتب السيرة والتاريخ أسماءهم) للقاء رسول الله في «العَقَبَة» في موسم الحجّ، وهناك بايعوه، فكانت أوّل بيعة إسلاميّة، وهذا نصّها:
«بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله، ليلة العقبة الأولى، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف».
 فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله: «فإن وفيتم فلكم الجنّة، وإن غشّيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء عذّب وإن شاء غفر».
عاد هؤلاء الرّجال إلى قومهم وأخذوا ينشرون الإسلام بين ظهرانيهم، وكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يبعث لهم رجلاً يعلّمهم القرآن ويُفقّههم في الدّين، فأرسل إليهم «مصعب بن عُمير»، فتفانى هذا الصحابي في عمله، حتى لُقّب بالـمُقرىء.

بيعة العقبة الثّانية

أَتَت ثمار الذين أسلموا في يثرب أُكلَها، فازداد عدد المسلمين في تلك المدينة، فلمّا كان موسم الحجّ في العام الثالث عشر من المبعث، خرجت قافلة كبيرة من أهلها قوامها خمسمائة شخص، فيهم ثلاثة وسبعون مسلماً بينهم امرأتان (هما نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عديّ)، وقد ضُبطت أسماؤهم في كتب التاريخ والسيرة. ولـمّا وصلوا إلى مكّة، واعدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله بالعقبة من أوسط أيّام التشريق. فالتقاهم مع عمّه العبّاس بن عبد المطّلب الذي وصف، بدايةً، مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله ومنزلَتَه، وأخذ الوعد منهم على نصرته ومساندته، ثمّ تكلّم رسول الله صلّى الله عليه وآله فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثمّ قال: «أُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم». فبايعوه، ووعدهم الرسول صلّى الله عليه وآله أن يؤازرهم، فلا يتركهم ويعود إلى قومه إن مكّن الله له الدّين. كما وعدهم بالهجرة إليهم عندما تسنح الفرصة المؤاتية.
وطلب تعيين اثني عشر نقيباً منهم ليكونوا مسؤولين أمام قومهم، وكان النقباء الذين اختيروا لذلك تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوْس.
فكانت هذه البَيعة بَيعة دفاع مشترك، وقد علمت بها قريش، فجنّ جنونها لأنّها كانت تعتقد أنّ أمر الإسلام قد خَفَت، وحاولت التصدّي لتلك البيعة عبر أَسْر اثنين من النّقباء هما: سعد بن عبادة الذي عُذّب بمكّة حتى أجاره جبير بن مطعم بن عديّ، والمنذر بن عمرو الذي أفلت منهم.

مؤامرة زعماء مكّة على النبيّ صلّى الله عليه وآله

بعد ازدياد عدد المسلمين في يثرب، والحلف الذي عُقد بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله، اجتمعت قريش في دار الندوة واستقرّ الرأي بعد المداولات على قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله، على أن تشترك جميع القبائل في قتله من خلال إشراك رجل من كلّ قبيلة لتلك الغاية.
أخبر جبرئيل عليه السلام النبيّ صلّى الله عليه وآله بالمكيدة، فكان الأمر بالهجرة، فخرج من مكّة، بعدما بات أمير المؤمنين عليه السلام في فراشه، وتُوضح كتب السيرة والتاريخ تفاصيل خروجه صلّى الله عليه وآله.

الهجرة النبويّة إلى يثرب

كانت الهجرة النبويّة في العام الثالث عشر من المبعث الشريف في شهر ربيع الأوّل، وكان أوّل وصوله صلّى الله عليه وآله إلى منطقة قباء القريبة من يثرب، ومكث هناك أيّاماً، فلمّا قدم أمير المؤمنين عليه السلام بالفواطم، قرّر الدخول إلى يثرب.

الوصول إلى يثرب

ما إن أطلّ موكب النبيّ صلّى الله عليه وآله حتى استُقبل بالأهازيج، وعندما وصل إلى يثرب، تمنّت كلّ جماعة أن ينزل عندها، وحاولوا اعتراض ناقته وإناختها، علّهم يفوزون بإقامته بينهم، لكنّه كان يقول لهم: «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة». ولـمّا أُرخي زمامها، انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم، ولم يكن مسجداً، إنّما كان مربداً واسعاً ليتيمَين من بني النجّار من الخزرج هما سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو. وكان ذلك المكان بالقرب من منزل أبي أيّوب، خالد بن زيد (ت 52هـ- 672م)، فبادرت أمّ أبي أيّوب إلى رَحْل النبيّ صلّى الله عليه وآله فحلّته وأدخلته منزلها، فلمّا أكثر القوم على الرسول صلّى الله عليه وآله وتنازعوا في أخذه، قال صلّى الله عليه وآله: «المرء مع رَحْله». وبقي هناك حتى اكتمل بناء منزله قرب المسجد.

الخطوات الأولى في المدينة

*بناء المسجد:

طلب النبيّ صلّى الله عليه وآله من أسعد بن زرارة أن يشتري المربد من أصحابه، فساوم اليتيمَين عليه، فقالا: هو لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: لا إلاّ بثمن، فاشتراه بعشرة دنانير. وكان في ذلك المربد ماء مستنقع، وقيل كان فيه مقبرة للمشركين. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يُسال ويجفَّف. ثمّ أمر بالحجارة فنُقلت من الحرّة، وهي أرض ذات حجارة سوداء كأنّها أحرقت بالنار، وقيل جيء بطوب اللّبن من بقيع «الخَبْخَبَة» الذي يقع على يسار بقيع الغرقد عند بئر أبي أيوّب بالمناصع، و«الخَبْخَبة» شجرة كانت تنبت هناك.
وكان بناء المسجد في بادىء الأمر بـ«السميط» (وهو وضْع لبنة على لبنة)، وبادر النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى حمل اللّبِن ليُرغّب المسلمين في إعماره، فتعاون المهاجرون والأنصار على البناء، ودأبوا في العمل.
وكان المسجد مربّع الشكل تقريباً، كان طوله من المشرق إلى المغرب 63 ذراعاً (الذّراع 66 سنتم)، وعرضه من الشمال إلى الجنوب 54 ذراعاً وثلثا ذراع. أمّا مساحته فألف وستّون متراً مربّعاً، وقد رُفع أساسه بالحجارة. وفي البدء لم يسقف أو يسطّح، إذ كانت أرضه مكشوفة، وكان ارتفاعه قامة.

* الصُّفَّة

وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يُظلّل مكان في مؤخّرة المسجد، غرب ما يُعرف اليوم بدكّة الأغوات، إلى الجنوب قليلاً، وليس لها حالياً أيّ علامة مميّزة. وسمّى ذلك المكان «الصُّفّة» أو «الظُّلّة»، وقد أعدّه لأبناء السّبيل والفقراء، والوافدين الذين لا مأوى لهم، كما أعدّه لنزول العزّاب من المهاجرين.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يتولّى تعليم هؤلاء القرآن وأحكام الدّين، كما تولّى أصحابه هذه المهمّة، فإذا وقعت غزوة ودُعي للجهاد، خرج القادر منهم للحرب.
وتفيد المصادر أنّ عدد المتواجدين في الصُّفّة كان يصل إلى أربعمائة شخص، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان دائم التواصل معهم، وكان يرسل إليهم طعامهم. وله صلّى الله عليه وآله معهم دروس للأجيال وعبرٌ خالدة، وقد عُرف منهم صحابة طليعيّون وشهداء، كحارثة بن مالك (الشاب الذي كان يخفق برأسه في المسجد بعد صلاة الصبح، وسأله النبيّ عن يقينه، ثمّ استشهد بمؤتة) وكذلك جويبر، الأسود اللون، الأنصع بياض القلب، الذي بعثه النبيّ ليخطب بنت شيخ عشيرة بني بياضة.
كانت «الصُّفة» دار المهاجرين إلى الله ورسوله، والتأسيسَ للمدرسة المتكاملة مع مهمّة المسجد كمركز للتربية الإسلاميّة – الإنسانية العالميّة.
ثمّ زيد على مساحة المسجد شيئاً فشيئاً زمن الرّسول صلّى الله عليه وآله وما بعده. وكان هذا المسجد موضع اجتماع المسلمين للتداول بأمور دينهم ودنياهم، ولإدارة شؤون الأمّة والفصل في النزاعات، ووَضْع الخطط العسكريّة، وقد أضحى ثاني المساجد قداسة بعد المسجد الحرام، وبتأسيسه كان التحوّل الكبير الذي عرفته أرض الحجاز، حتى وصل صوت الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، وفيه دُفِن سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله، والصلاة فيه تعادل ألف ركعة.

*الأنصار: الاسم الجديد للأوس والخزرج

كان بين الأوس والخزرج عداوة قديمة غذّاها اليهود لسنواتٍ طوالٍ، وبعد أن أسلم القسم الكبير منهم، رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يوحِّدهم  فيكونوا جماعة واحدة، وبذلك يذيب العداوة والبغضاء شيئاً فشيئاً، فأطلق عليهم اسم «الأنصار» لأنّهم نصروه وآووه، وكانوا خير عوْن له عندما ضيّقت عليه قبيلته في مكّة وحاربته وحاربت من أسلم معه أشدّ محاربة.
شكّل بروز جماعة الأنصار في المدينة المنوّرة مصدر قوّةً للمسلمين على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكري، في مقابل قوّة اليهود وتعاظم نفوذهم في هذه المدينة، كما شكّل تحدّياً لقريش التي دان لها العرب في مكّة.

*المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

استقبلت المدينة المنوّرة المهاجرين الذين وفدوا إليها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو الذين هربوا بدينهم من أذى قريش. وعندما وصل هؤلاء، لم تكن أوضاعهم الاقتصاديّة بخير، لأنّهم تخلّوا عن كلّ شيء عندما التحقوا بإخوانهم المسلمين، فعمل النبيّ صلّى الله عليه وآله على خطّين: الأوّل: تعزيز الوحدة والأُخوّة بين الوافدين والمقيمين، والثاني: تحصين الجبهة الداخليّة أمام مخاطر اليهود والمشركين في شبه الجزيرة العربيّة. فآخى بين أصحابه، على قاعدة المؤاخاة بين «الأشباه والنظائر» وقد آخى بين نفسه صلّى الله عليه وآله، وبين الإمام عليّ عليه السلام، ويورد كتّاب السيرة -ومنهم ابن هشام في (السيرة النبويّة)- أسماء كلّ متآخييْن. وبهذا التدبير خفّف صلّى الله عليه وآله من وطأة الأزمة الاقتصاديّة التي قد تنشب جرّاء قدوم المهاجرين ومكوثهم في المدينة، كما ساعد في نشر المحبّة والإيثار، وفي تقوية شوكة المسلمين.

*تغيير اسم يثرب

غيّر النبيّ صلّى الله عليه وآله اسمها من يثرب إلى المدينة، ونهى النّاس عن استخدام اسمها القديم. ومع الأيّام أضحى للمدينة المنوّرة أسماء وألقاب، وقد ذكرت الكتب المختصّة بتأريخ المدينة المنوّرة تسعاً وعشرين اسماً.
أمّا لقب المنوّرة، فيرجّح بعض الباحثين أنّ ذلك يعود إلى حديث أنس بن مالك: «لـمّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله المدينة، أضاء من المدينة كلّ شيء». وقد شاع هذا الاسم وارتبط باسم المدينة رسميّاً منذ العهد العثماني.

*معاهدة هدنة ودفاع بين المهاجرين والأنصار، ويهود المدينة

رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يعقد معاهدة تفاهم بين المهاجرين والأنصارواليهود في المدينة المنوّرة، وذلك لتحصين الجبهة الداخليّة أمام خطر الوثنيّين، ولتثبيت دعائم السلام بين أهل المدينة.
وتُعدّ هذه المعاهدة من أهمّ الوثاثق السياسيّة، وقد حفظتها كتب التاريخ والسيرة وذكرت بنودها كاملة. وقد استوفى الكلام حولها وشرح بنودها، الفقيه المحقِّق المرحوم الشيخ علي الأحمدي في كتابه القيِّم (مكاتيب الرسول).
وقد نقض اليهود تلك المعاهدة، فجنّدوا طاقاتهم الفكريّة والدينيّة  لزعزعة إيمان الذين أسلموا، ثمّ تآمروا مع مشركي قريش في حربهم ضدّ المسلمين، وكذلك تآمروا مع منافقي المدينة الذين استتروا بالإسلام لتمرير مخطّطاتهم الهدّامة، وكان عبد الله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وهو الذي قال، كما أخبر القرآن الكريم: ﴿لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ..﴾ المنافقون:8 في غزوة بني المصطلق، وفي قوله ذلك نزلت سورة المنافقين بأسرها. وقد حاول اليهود قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله والوقيعة بالمسلمين، فما كان منه إلّا أن أجلاهم، بعد سنوات قليلة، من المدينة بعد انكشاف مؤامراتهم، كما أمر النبيّ بهدم مسجد المنافقين «مسجد ضرار» في قباء، بعد غزوة تبوك، لأنّه بُني للتآمر على المسلمين.

*تحويل القبلة إلى الكعبة

كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يصلّي إلى بيت المقدس مدّة مقامه بمكّة، وفي المدينة المنوّرة جرى تحويل القبلة إلى الكعبة، ولهذا التدبير دلالاته الدينيّة والسياسيّة، وهو ما أزعج اليهود الذين ظنّوا أن لا بديل عن بيت المقدس لقبلة الموحّدين.

المدينة منطلق الدعوة العالميّة والدفاع

كانت حرب بدر مفصلاً في تثبيت هيبة الدولة الفتيّة، التي أرادت قريش استئصالها، إلّا أنّ النصر كان حليف المسلمين، ما جعل موازين القوى تميل لصالحهم، ثمّ تتالت المواجهات، فاندكّت حصون خيبر، ثمّ كان فتح مكّة في العام الثامن الهجري، هذا الفتح الذي غيّر مجرى التاريخ، فبدأت الوثنيّة في شبه الجزيرة العربيّة بالانهيار، وأضحى الإسلام الدّين الجديد، وأخذت الوفود في ما بعد تُقبل على النبيّ صلّى الله عليه وآله مُعلنةً إسلامها، وفي الوقت نفسه كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يرسل مبعوثيه إلى الملوك والقادة، العرب منهم وغير  العرب، يدعوهم إلى الإسلام ويعرّفهم بالدّين الجديد، فممّن بعثهم على سبيل المثال: دُحية الكلبي، أرسله إلى قيصر الروم في القسطنطنيّة، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى الفرس، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس في مصر، وعمرو بن أُميّة الضميري إلى النجاشي في الحبشة، وشجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني في الشام، وسليط بن عمرو إلى ملك اليمامة في اليمن هوذة بن عليّ.

المدينة المنوّرة، عاصمة الدولة الإسلاميّة

على الرّغم من فتح مكّة والظفر المبين فيها، إلّا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله آثر العودة إلى المدينة المنوّرة وجعلها عاصمة بلاد المسلمين، حيث أصبحت مقرّاً للنبيّ صلّى الله عليه وآله، ومركزاً للجيش الإسلامي، فخسرت مكّة ثقلها السياسي الذي عرفته قريش في جاهليّتها، وتحوّلت المدينة إلى عاصمة البلاد بالمفهوم الحديث، وبدأ العرب يعرفون الدولة ككيان سياسي موحّد بعدما كانوا قبائل متفرّقة في طول شبه الجزيرة العربيّة وعرضها.

اقتصاديّات المدينة

عندما بدأت الهجرة إلى المدينة، كانت الأحوال الاقتصاديّة بالمستوى الذي يحقّق الكفاية لأهلها، ولا شكّ أنّ الزيادة المتسارعة لعدد السكان قد أثّرت على اقتصادها، خاصة وأنّ المهاجرين كانوا في الغالب من الفقراء بالأصل، أو أنّهم لم يستطيعوا إخراج أموالهم معهم. وقد استعلت الأخوّة الإسلاميّة على جميع الظروف الاقتصاديّة، فاستضاف الأنصار من أهل المدينة العائلات المهاجرة، وأشركوهم في دُورهم وأموالهم. وبقدر ما كان الأنصار باذلين لإخوانهم، كان تعفّف المهاجرين كبيراً، فلم يأخذوا إلّا قدر الحاجة، واجتهدوا في العمل والكسب في مجالَي الزراعة والتجارة.
أمّا الصناعة، فكانت مجالاتها محدودة، كصناعة الحدادة التي تُنتج السيوف والرماح والسكاكين وما شابه. كما ونشطت في المدينة حياكة النسيج وصباغة بعض المنتوجات، إضافة إلى المهن الأخرى مثل الجزارة والخرازة والسقاية.
كما شكّلت التجارة عاملاً اقتصاديّاً نشطاً في المدينة، حيث ابتدأت في أوّل الأمر بتجارة الثياب داخل الأسواق، وامتدّت بعدها إلى تسيير قوافل تجاريّة إلى الشام واليمن.
وأخذت أمور المسلمين الاقتصاديّة في المدينة تتحسّن يوماً بعد يوم بفعل نظام خمس الغنائم والفيء، ونظام الزكاة، وتشجيع النبيّ صلّى الله عليه وآله على زراعة الأرض واستصلاحها، ومساعدة الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل. وازدهرت الحركة التجاريّة فيها بعدما استتبّ الأمن في البلاد. وقد تردّد القاصي والداني إليها للقاء النبيّ صلّى الله عليه وآله والتزوّد بتعاليمه ونصائحه.

السكان والعمران

أحدثت الهجرة تغيّراً جذريّاً في المدينة من حيث السكّان والعمران. فقد تضاعفت سكّاناً ومساكنَ عدّة أضعاف، وظهرت كتلة المسجد النبوي وما حولها من المساكن، فصارت مركز المدينة وقلبها، ولم تعد الامتدادات العمرانيّة تتّجه نحو الأطراف، بل راحت تصل المناطق البعيدة بكتلة المسجد النبوي، وتستفيد من الأراضي الخالية بينها.

حجّة الوداع

في السّنة العاشرة للهجرة، حجّ النبيّ صلّى الله عليه وآله حجّة الوداع، فاستنفر المسلمين من نواحي المدينة للحجّ معه، وخرج في حوالي مائة ألف من المسلمين، وفي موسم الحجّ نزل عليه الوحي: ﴿...بلِّغ ما أُنْزِلَ إليكَ...﴾ المائدة:67، وفي طريق العودة من الحجّ، وعند الوصول إلى مفترق الطرق حيث سيبقى مع النبيّ من جاء معه من المدينة، ويتفرّق الباقون، أمر الرسول صلّى الله عليه وآله بالنزول في منطقة «غدير خُمّ» وهي قريبة جداً من ميقات «الجحفة» الذي يتوجّه إليه الحجّاج من «جدّة» ليعقدوا إحرامهم فيه.
لم يشأ صلّى الله عليه وآله أن يدَعَ الدولة الفتيّة دون راعٍ من بعده، لذلك أمر صلّى الله عليه وآله بتهيئة المكان والمنبر، فنصّب أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام بأمر إلهيّ خليفة من بعده، أمام مرأى الحشود ومَسمعهم.
ويُجمع المسلمون على خطبة النبيّ صلّى الله عليه وآله في غدير خم، وأنّ رسول الله قال: «من كنت مولاه..» إلخ، إلّا أنّ تسييس النص جعل الكثيرين يقفون عند تفسير كلمة «مولى» بالرغم من الإجماع على أنّ ذلك الحشد من الصحابة قد هنّأ أمير المؤمنين بالولاية، وقد قال له «الخليفة الثاني»: «بخٍ بَخٍ لك يا عليّ، فلقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة».

وفاة النبيّ

بعد حجّة الوداع بثلاثة أشهر، أي في السنة الحادية عشر للهجرة، كانت الفجيعة الأعظم بوفاة سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله، ورغم الإنقلاب على الأعقاب الذي أخبر به وحذَّر منه القرآن الكريم، ورغم الروح القبليّة التي كانت ما تزال مستشرية في مَن لم يحسُن إسلامهم ممّن «مردوا على النفاق»، فقد حفظ الله تعالى الذِّكر، واستمرّت مسيرة التوحيد، وانتشر نور الإسلام في الخافقَين.
 
 

اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات