الملف

الملف

26/09/2014

واقعةُ الغدير

واقعةُ الغدير

«... ما أبرحُ من هذا المكان حتّى أُبلِّغَ رسالة ربّي»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشّيخ محمّد باقر الأنصاري* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

في السّنة العاشرة للهجرة أعلن النّبيّ الأكرم، صلّى الله عليه وآله، بشكلٍ رسميٍّ لأوّل مرّة النّفير العامّ للحجّ، وأن يحضر جميعُ النّاس في تلك المراسم مهما استطاعوا، وسُمِّي هذا السّفر باسم «حجّة الوداع». وقد تمحوَرت الأهداف في هذه الحجّة المُباركة حول رُكنَين أساسيّين: أحدهمـا الحجّ، والآخر الخلافـة والولاية على الأُمّة من بعده صلّى الله عليه وآله.

النّصّ الآتي يروي وقائع حادثة الغدير بشيءٍ من التّفصيل، اخترناه من بحثٍ روائيّ للسّيّدة ندى الطّويل حول عيد الغدير.

«شعائر»

 

بَعث النّبيّ صلّى الله عليه وآله رسلَه ومبعوثيه إلى محلّات المدينة وما حولها، وإلى قبائل العرب يُخبرهم بعزمه على السّفر للحجّ، ويأمرهم أن يوافوه إلى مكّة للحجّ معه.

وقد استجاب جمعٌ غفير من المسلمين، وجاؤوا من كلّ المناطق زرافاتٍ ووحداناً؛ منهم إلى المدينة ومنهم إلى مكّة رأساً، لوداع نبيّهم والمشاركة في أداء فريضة الحجّ المقدّسة.

 

انطلاق موكب حجّة الوداع

تحرَّك الموكب النّبويّ من المدينة يوم السّبت الخامس والعشرين من ذي القعـدة مُتَّجهاً إلى مكّـة. وكان عدد الحجّاج يزداد في الطّريق بين المدينة ومكّة بانضمام وفود القبائل من المناطق القريبة والنّائية من الجزيرة واليمن، ليروا النّبيَّ، صلّى الله عليه وآله، ويحجّوا معه ويودِّعوه قبل رحيله إلى ربِّه.

لقد أعلن النّبيّ صلّى الله عليه وآله مرّات عديدة أنّ هذا العام هو العام الأخير من عمره الشّريف، وهذا بحدّ ذاته يثير الرّغبـة لدى المسلمين للاشتـراك في هذه الرّحلة التّاريخيّة. وقد كان عدد المشاركين في موسم الحجّ في هذه الواقعة ما يقرب من مائة وعشرين ألف حاجّ، وقد حضر من المدينة وما حولها سبعون ألف حاجّ تشرّفوا بصحبة النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، ومشوا في قافلته مُتَّجهيـن إلى مكّة، هاتفين طول الطّريـق بالتّلبية والتّكبيـر.

إحرام الوداع

وقد تحرَّك الموكب النّبويّ من المدينة نحو مسجد الشّجرة ليبدأوا إحرامهم هناك.. وكان أهل بيت النّبوّة جميعاً بصحبة النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، في حجّ هذا العام.

وكان برفقته أهل بيته الأبرار، أصحاب الكساء الأطهار، فاطمة الزّهراء والحسن والحسين وسائر الذّرّيّة الطّاهرة عليهم السّلام، وكذلك نساء النّبيّ ركبنَ المحامل تحملُها الإبل في تلك القافلة الجماهيريّة.

ولم يطل نزولُهم في «مسجد الشّجرة»، حتّى أحرموا للحجّ من هناك وأعلنوا تلبية نداء ربّهم. ثمّ واصلت المسيرةُ انطلاقتَها باتّجاه مكّة في موكبٍ مهيب في مسيرة عشرة أيّام، في قافلة عظيمة تشمل الرّكبان والمشاة.

ساروا طوال اللّيل مُلبِّين ذاكرين الله تعالى إلى فجر يوم الأحد، حيث توقّفوا في الطّريق ومكثوا إلى المساء. وبعد أداء صلاة المغرب والعشاء واصلوا مسيرتهم حتّى وصلوا صباح اليوم التالي إلى «عرق الظّبية». ثمّ واصلوا السّير حتّى توقّفوا فترة قليلة في «الرّوحاء»، وتحرّكوا منها إلى «المنصرف» حيث نزلوا فيها لأداء صلاة العصر. ثمّ نزلوا في «المُتعشّى» فأدَّوا صلاة المغرب وتناولوا طعام العشاء هناك. ثمّ واصلوا السّير إلى «الأثاية» فأدَّوا صلاة الصّبح. وفي صباح يوم الثّلاثاء وصلوا إلى منطقة «العرج»، وفي يوم الأربعاء وصلوا إلى «السّقيا».

وفي يوم الخميس وصلت القافلة النّبويّة إلى «الأبواء»، وهو المكان الّذي توفيت فيه «السّيّدة آمنة» أمّ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، فقام بزيارة مرقدها الطّاهر.

وفي يوم الجمعة واصلوا سيرهم فمرّوا على منطقة «غدير خمّ» و«الجُحفة». بعدها ساروا إلى منطقة «القُديد»، فنزلوا هناك واستراحوا إلى يوم السّبت. ثمّ رحلوا منها ووصلوا إلى «عُسفان» يوم الأحد، ثمّ يوم الاثنين إلى «مرّ الظّهـران» وبقوا هناك إلى اللّيـل.

 

وتوجَّهوا ليلاً فوصلوا إلى «سَرِف» آخر منزل قرب مكّة المكرّمة. ثمّ ساروا حتّى دخلوا مكّة يوم الثّلاثاء الخامس من ذي الحجّة. فقطعوا تلك المسافة في عشرة أيّام، وأناخ أوّل موكب مهيب للحجّ بمكّة، تحفُّ به آياتُ الجلال والعظَمة، بما لم يسبق له مثيل، وبما يقصرُ الوصفُ عن بيانه.

وفي مكّة خطبَ النّبيّ صلّى الله عليه وآله خطبتَه الأولى من الخُطب النّبويّة السّتّ في حجّة الوداع.

أداء المناسك

في اليوم الثّامن من ذي الحجّة بدأ النّبيّ صلّى الله عليه وآله بمناسك الحجّ، فأحرم وتوجَّه إلى عرفات، وبات في طريقه إليها في مِنى.

وفي اليوم التّاسع خطب في عرفات خطبته الثّانية، وأكَّد على الأمّة التّمسّـك بالثّقليْـن: القرآن والعترة، وبشَّرهم بالأئمّة الاثنَي عشر من عترته. وبعد غروب عرفة توجَّه إلى المشعر، فصلّى وبات ليلته.

وفي اليوم العاشر توجَّه إلى منى لأداء مناسك يوم الأضحى من تقديم الأضحية ورَمْي الجمرات. ثمّ واصل إلى مكّة للطّواف والسّعي بين الصّفا والمروة.

وفي جميع هذه المراحل كان، صلّى الله عليه وآله، يُبيِّن للمسلمين مناسك الحجّ من واجبات ومستحبّات، حتّى تمَّت أعمال الحجّ في اليوم الثّاني عشر من ذي الحجّة.

 

الولاية، السّرّ المستودع في حجّة الوداع

كان جبرئيل، عليه السّلام، في حجّة الوداع وظروفها المصيريّة ينزل على النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، بأوامر ربِّه، وقد يكون رافقه طوال موسم الحجّ، وأملى عليه عبارات خطبه.

وكان ممّا قال له في المدينة: «يا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِؤُكَ السَّلامَ، وَيَقولُ لَكَ: إِنَّهُ قَدْ دَنا أَجَلُكَ، وَإِنّي مُسْتَقْدِمُكَ عَلَيَّ؛ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تَدُلَّ أُمَّتَكَ عَلى حَجِّهِمْ، كَما دَلَلْتَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ وَزَكاتِهِمْ وَصِيامِهِمْ؛ وَتَدُلَّهُمْ عَلَى إِمامِهِمْ بَعْدَكَ، وَتَنْصِبَ لَهُمْ عَلِيّاً وَصِيّاً وَخَليفَةً بَعْدَكَ».

 

وفي عيد الأضحى، اليوم العاشر من ذي الحجّة، خطب النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، خطبته الثّالثة في مِنى، فبيَّن فيها مقام أهل بيته من بعده، وأنّ الله حرَّم عليهم الصّدقات وفرضَ لهم الخُمس.

وفي اليوم الحادي عشر خطب خطبةً أخرى أيضاً في مِنى، وأوصى فيها الأُمّة أيضاً بإطاعة أهل بيته من بعده.

وفي اليوم الثّاني عشر خطب النّبيّ صلّى الله عليه وآله الخطبة العظيمة في مسجد الخَيف، وقد فصَّل فيها مقامَ أهلِ بيته، وفريضة التّمسّك بهم وطاعتهم.

وهذه الخُطب الخمسُ كلُّها شواهدُ نبويّة على وصيّته لعليٍّ عليه السّلام.

التّمهيد للبلاغ المُبين

وفي آخر أيّام الحجّ، نزل جبرئيل على النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنْ «.. قَدِّمْ وَصيّتَك وَاعمَد إلى ما عندَك من العلم وميراثِ علومِ الأنبياء من قبلِك، والسّلاحِ والتّابوتِ وجميعِ ما عندَك من آياتِ الأنبياء، فَسَلِّمها إلى وصيِّك وخليفتِك من بعدِك، حجّتي البالغة على خَلقي عليِّ بن أبي طالب، فَأَقِمْه للنّاسِ عَلَماً، وجَدِّد عهدَه وميثاقَه وبيعتَه..».

وقد كان من المتوقّع للنّبيّ صلّى الله عليه وآله في سفره الوحيد للحجّ أن يبقى مدّةً في مكّة، ولكنّه بعد الانتهاء من مناسك الحجّ مباشرةً أمر بلالاً أن ينادي بالنّاس: «لا يَبْقَى غَداً أَحَدٌ إِلّا عَليلٌ، إِلّا خَرَجَ..». وهكذا فقد أخبرهم صلّى الله عليه وآله عن مراسـم خاصّة اقتضـت الحكمة أن يكـونَ إجراؤها في غدير خمّ، وانضـمّ إلى القافلة الرّاجعـة من الحجّ كثيرٌ ممّن لم تكن بلدانُهم على ذلك المسير.

الوحي يوقفُ القافلة النّبويّة عند الغدير

تحرَّكت القافلة العظيمة يوم الخميس الخامس عشر من ذي الحجّة، فبَعد الخروج من مكّة وصلوا إلى «سَرِف»، ومن هناك إلى «مرّ الظّهران»، ثمّ إلى «عسفان»، ومنها إلى «قُدَيْد»، حيث وصلوا «كُراعَ الغَميم» على مقربة من الجُحفة، الّذي يقع «غدير خمّ» في أحدِ جوانبِها.

وقبيل الظّهر من يوم الاثنين، في الثّامن عشر من ذي الحجّة، ولدى وصولهم إلى منطقة «غدير خمّ»، جاءه جبرئيل لخمس ساعاتٍ مضتْ من النّهار، وقال له: «يا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِؤُكَ السَّلامَ وَيَقولُ لَكَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ المائدة:67».

وكأنّ الوحي قد جمّدَ الزّمن، فوقفَ النّبيّ صلّى الله عليه وآله في مكانه وأصدر أمره إلى المسلمين بالتّوقّف، وغيَّر مسيره إلى جهة اليمين وتوجَّه نحو الغدير، وقال: «أيُّها النّاسُ، أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ، أَنا رَسولُ اللهِ». ثمّ قال: «أَنيخوا ناقَتي، فَوَاللهِ ما أَبْرَحُ مِنْ هَذا المَكانِ حَتّى أُبَلِّغَ رِسالَةَ رَبِّي»، وأمرهم أن يردُّوا مَن تقدَّم من المسلمين، ويوقفوا من تأخَّر منهم حين يصلون إليه.

وبعد أن صدر الأمرُ النّبويّ المذكور توقَّفت القافلةُ كلّها، ورجعَ منهم مَن تقدّم، ونزل النّاس في منطقة الغدير، وأخذ كلُّ فردٍ يتدبَّر أمر إقامتَه هناك حيث نصبوا خيامَهم، وسكن الضّجيج تدريجيّاً.

وشهدت الصّحراء لأوّل مرّة ذلك الاجتماع العظيم من النّاس، وقد زاد من عظَمته حضور الأنوار الخمسة المقدّسة: النّبيّ الأكرم وأمير المؤمنين وفاطمة الزّهراء والحسن والحسين عليهم السّلام؛ وقد اشترك في ذلك التّجمّع الجماهيريّ الرّجالُ والنّساء من مختلف الأقوام والقبائل والمناطق، وبدرجات متفاوتة من الإيمان، انتظاراً لخطبة النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله.

وكانت حرارة الصّحراء ووهج الشّمس من القوّة والشّدّة بحيث أنّ النّاس - ومنهم النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله - وضعوا قسماً من ردائهم على رؤوسهم والقسم الآخر تحت أقدامهم، وقد بلغ الأمر لدى البعض أن لفُّوا عباءتهم حول أقدامهم من شدّة حرارة أرض الصّحراء!

الإعداد لمنبر «الغدير»

دعا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أربعةً من خواصّ أصحابه، وهم: المقداد وسلمان وأبو ذرّ وعمّار، وأمرهم أن يُهيِّئوا المنبرَ تحت الأشجار القائمة على امتدادٍ واحد. فقاموا بكَسح الأشواك تحت تلك الأشجار، ورفْع الأحجار، وقطْع الأغصان المُتدلِّية إلى الأرض، ونظَّفوا المكان ورشُّوه بالماء، ومدُّوا ثياباً بين شجرتَيْن لتكميل الظّلال، فصار المكان مناسباً.

ثمّ بنوا المنبر في وسط الظّلال، فجعلوا قاعدته من الأحجار ووضعوا عليها بعض أقتاب الإبل، حتّى صار بارتفاع قامة ليكونَ مُشْرفاً على الجميع، يَرون النّبيّ صلّى الله عليه وآله ويسمعون صوته، وفرشوا عليه بعضَ الثّياب.

ونظراً إلى كثرة النّاس فقد اختاروا «ربيعة الجمحيّ» الّذي كان جَهْوَريّ الصّوت لإيصـال كلام النّبـيّ صلّى الله عليه وآله جملةً جملةً إلى مَن لا يصلُ إليه من جمهور المسلمين.

 

النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السّلام على المنبر

حان الوقت الموعود، ونادى منادي الرّسول صلّى الله عليه وآله، فخرج المسلمون من الخيام واصطفّوا للصّلاة، وخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله من خيمته، وصلّى بهم صلاة الظّهر.

ورقى النّبيُّ صلّى الله عليه وآله المنبر ووقف على مِرقاته الأخيرة، ثمّ دعا بأمير المؤمنين عليه السّلام وأمَرَه أن يصعدَ المنبر ويقفَ إلى يمينه. فجاء أميرُ المؤمنين عليه السّلام ووقف على المنبر أدنى من موقف النّبيّ صلّى الله عليه وآله بمِرقاة، بحيث وضع النّبيُّ صلّى الله عليه وآله يده على كَتِفه.

ثمّ ألقى النّبيّ صلّى الله عليه وآله ببَصره الشّريف يميناً وشمالاً، يتفحّصُ ذلك الحشدَ الكبير من النّاس، وانتظر هنيئةً كيما يُصغي النّاسُ بأَسْرهم. وكانت النّساءُ في جانبٍ من ذلك المكان يَسمعن النّبيّ صلّى الله عليه وآله ويُشاهِدنَه.

 

خطبة الوداع، وإعلان الولاية

وشرع النّبيّ صلّى الله عليه وآله في خطبته التّاريخيّة، آخر خطبة رسميّة له إلى العالم أجمع، الّتي لم يذكر التّاريخ خطبةً لنبيٍّ من الأنبياء عبر التّاريخ مثلها، في مثل هذا الحشد المهيب.

وبدأ النّبيّ صلّى الله عليه وآله باسم الله تعالى، وحَمْدِ الله تعالى والثّناء عليه... وأَشْهَدَ اللهَ والنّاسَ على عبوديّته المطلقة لربِّه العظيم.

ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لا يُؤْمَنُ مَكْرُهُ وَلا يُخافُ جَوْرُهُ. أُقِرُّ لَهُ عَلى نَفْسي بِالعُبودِيَّةِ وَأَشْهَدُ لَهُ بِالرُّبوبِيَّةِ، وَأُؤَدّي ما أَوْحى إِلَيَّ، حَذَراً مِنْ أَنْ لا أَفْعَلَ فَتَحُلَّ بي مِنْهُ قارِعَةٌ لا يَدْفَعُها عَنّي أَحَدٌ، وَإِنْ عَظُمَتْ حيلَتُهُ. أيُّها النّاسُ، إِنّي أُوشِكَ أَنْ أُدْعى فَأُجيبَ، فَما أَنْتُمْ قائِلونَ؟

فقالوا: نشهد أنّك قد بلّغتَ ونصحتَ.

فقال صلّى الله عليه وآله: أَلَيْسَ تَشْهَدونَ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسولُ اللهِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ البَعْثَ حَقٌّ؟

قالوا: يا رسول الله، بلى.

فَأَومأَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إلى صدِره وقال: وَأَنا مَعَكُمْ.

ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: أَنا لَكُمْ فَرَطٌ [أي سابق]، وَأَنْتُمْ وارِدونَ عَلَيَّ الحَوْضَ، (عرضُهُ) ما بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلى بُصْرى، فيهِ عَدَدُ الكَواكِبِ قُدْحانَ، ماؤُهُ أَشَدُّ بَياضاً مِنَ الفِضَّةِ... فَانْظُروا كَيْفَ تَخْلُفوني في الثَّقَلَيْنِ.

فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، وَما الثَّقَلانِ؟

قال صلّى الله عليه وآله: الأَكْبَرُ مِنهُما كِتابُ اللهِ، طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَسَبَبُ طَرَفِهِ بِأَيْديكُمْ، فَاسْتَمْسِكوا بِهِ وَلا تَزِلُّوا وَلا تَضِلُّوا. وَالأَصْغَرُ عِتْرتي أَهْلُ بَيْتِي. أُذَكِّرُكُمَ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمَ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمَ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي. وَإِنَّهُما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ. سَأَلْتُ رَبِّي ذَلِكَ لَهُما، فَلا تَقَدَّموهُمْ [أي فلا تتقدّموا عليهم] فَتَهْلَكوا، وَلا تَتَخَلَّفوا عَنْهُم فَتَضِلّوا، وَلا تُعَلِّموهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. أَيُّها النّاسُ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمونَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْلاي، وَأَنا مَوْلَى المَؤْمِنينَ، وَأَنّي أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال صلّى الله عليه وآله: قُمْ يا عَلِيُّ. فقامَ عليٌّ عليه السّلام، وأقامَه النّبيُّ صلّى الله عليه وآله عن يمينِه وأخذَ بيدِه ورفعَها حتّى بانَ بياضُ إبطَيهما، وقال:

مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، أللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دارَ. فَاعْلَمُوا، مَعاشِرَ النّاسِ، أَنَّ اللهَ قَدْ نَصَبَهُ لَكُمْ وَلِيّاً وَإِماماً مُفْتَرِضاً طاعَتَهُ عَلى المُهاجِرينَ وَالأَنْصارِ، وَعَلى التّابِعينَ لَهُمْ بِإِحْسانٍ، وَعَلى البادي وَالحاضِرِ، وَعَلى الأَعْجَمِيِّ وَالعَرَبِيِّ، وَالحُرِّ وَالمَمْلوكِ، وَالصَّغيرِ وَالكَبيرِ.

فقام أحدُهم فسأله وقال: يا رسولَ الله، ولاؤه كَماذا؟

فقال صلّى الله عليه وآله: وَلاؤُهُ كَوَلائِي، مَنْ كُنْتُ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيٌّ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ!

وأفاضَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله في بيان مكانةِ عليٍّ عليه السّلام، والعترة الطّاهرة، والأئمّة الاثنَي عشر من بعده: عليّ والحسن والحسين وتسعة من ذرّيّة الحسين عليهم السّلام، واحداً بعد واحد، الّذين هم مع القرآن والقرآنُ معَهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتّى يَرِدوا عليه الحوضَ يوم القيامة.

ثمّ أشهدَ المسلمين مرّاتٍ أنّه قد بلّغ عن ربِّه... فشهدوا له. وأمرَهم أن يبلِّغ الشّاهدُ الغائبَ... فوعدوه وقالوا: نعم. وقام إليه آخرون فسألوه... فأجابهم...

وما أن أتمّ خطبته حتّى نزل جبرئيلُ بقوله تعالى: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..﴾ المائدة:3، فكبَّر رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وقال: «اللهُ أَكْبَرُ عَلى إِكْمالِ الدّينِ، وَإِتْمامِ النِّعْمَةِ، وَرِضى الرَّبِّ بِرِسالَتي، وَوِلايَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي».

وبعد فراغ النّبيّ صلّى الله عليه وآله من خطبته ضجّ النّاسُ قائلين: «نعم، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِأَمْرِ اللهِ وَرسولِه بقلوبِنا وأنفُسِنا وَأَلسِنَتِنا وأيدينا».

ثمّ إنّهم ازدحموا على النّبيّ وأمير المؤمنين عليهما السّلام، وتَسابقوا لإعطاء البيعةِ لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وهنا قال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «الحَمْدُ للهِ الّذي فَضَّلَنا عَلَى جَميعِ العَالَمِينَ».

وقد قال كلٌّ من الشّيخين لأمير المؤمنين عليه السّلام في ذلك اليوم بعد بيعتِهما له: «بَخٍ بَخٍ لكَ يا عليّ! هنيئاً لكَ يا أبا الحسن! فقد أصبحتَ مولايَ ومولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة».

وأمرَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله مناديه أن يمشي بين النّاس ويُكرِّر عليهم جوهرَ بيعةِ الغدير بهذه العبارة : «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، أللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ».

واستمرّت المراسم ثلاثةَ أيّامٍ حتّى شارك جميعُ المسلمين في البيعة. ومن جملة الأشخاص الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام في يوم الغدير، أولئك الذين سارعوا إلى نقضِ بيعتِه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله، وانقلبوا على أعقابهم كما أخبر اللهُ تعالى.

وقد أمر النّبيّ صلّى الله عليه وآله النّساء أيضاً بالبيعة لعَليٍّ عليه السّلام بإمرة المؤمنين وتَهنئتِه، وقد أكَّد ذلك بصورة خاصّة على زوجاته وأَمَرَهُنّ أن يذهبنَ إلى خيمتِه ويُبايِعنَه.. ففعلنَ ذلك.

 

 


* النّص مختصر عن كتابه (بيعة الغدير)

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الخامس و الخمسون -شهر ذو الحجة 1435 - تشرين أول 2014

شعائر العدد الخامس و الخمسون -شهر ذو الحجة 1435 - تشرين أول 2014

نفحات