وصايا

وصايا

26/09/2014

وصيّة لأمير المؤمنين عليه السّلام


وصيّة لأمير المؤمنين عليه السّلام:

المِضْمارُ اليَوْمَ، وَالسِّباقُ غَداً

ــ رواية الشّيخ الطّوسيّ ــ

 

خطبةٌ لأمير المؤمنين، عليه السّلام، في تحميد الله تعالى على ما له من الكبرياء والعظَمة، واللّطف والمَرحمة، والشّهادةِ على رسالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ التّوصية بتقوى الله ورَفْضِ العَلائق عن الدّنيا.

روى هذه الخطبة الشّيخ محمّد بن الحسن الطّوسيّ في (أماليه): الحديث التّاسع من المجلس الثّامن والثّلاثين، وهو مجلس يوم الجمعة الرّابع عشر من شعبان سنة 457 للهجرة.

 

«..عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: خَطَبَ أَميرُ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: الحَمْدُ للهِ الّذي لا يَحْويهِ مَكانٌ، وَلا يَحُدُّه زَمانٌ، عَلا بِطَوْلِهِ، وَدَنا بِحَوْلِهِ، سابِقِ كُلِّ غَنيمَةٍ وَفَضْلٍ، وَكاشِفِ كُلِّ عَظيمَةٍ وَأَزْلٍ [الأزْلُ: الضّيق والشّدّة]، أَحْمَدُهُ عَلى جُودِ كَرَمِهِ، وَسُبوغِ نِعَمِهِ، وَأَسْتَعينُهُ عَلى بُلوغِ رِضاهُ، وَالرِّضا بِما قَضاهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ إيماناً، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ إيقاناً.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، الّذي رَفَعَ السَّماءَ فَبَناها، وَسَطَحَ الأَرْضَ فَطَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالجِبالَ أَرْساها، لا يَؤودُهُ خَلْقٌ، وَهُوَ العَلِيُّ العَظيمُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالهُدى المَشْهورِ، وَالكِتابِ المَسْطور، والدِّينِ المأثورِ، إِبْلاءً لِعُذْرِهِ، وَإِنْهاءً لِأَمْرِهِ، فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ، وَهَدى مِنَ الضَّلالَةِ، وَعَبَدَ رَبَّهُ حَتّى أَتاهُ اليَقينُ، فَصَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَثيراً.

الدّنيا غرّارة

أُوصيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّ التَّقْوَى أَفْضَلُ كَنْزٍ، وَأَحْرَزُ حِرْزٍ، وَأَعَزُّ عِزٍّ، فيها نَجاةُ كُلِّ هارِبٍ، وَدَرَكُ كُلِّ طالِبٍ، وَظَفَرُ كُلِّ غالِبٍ، وَأَحُثُّكُمْ عَلى طاعَةِ اللهِ، فَإِنَّها كَهْفُ العابِدينَ، وَفَوْزُ الفائِزينَ، وَأَمانُ المُتَّقينَ.

وَاعْلَموا - أَيُّها النّاسُ - أَنَّكُمْ سَيّارَةٌ [السَّيّارَةُ: القَوْمُ يَسيرونَ]، قَدْ حَدا بِكُمُ الحادي، وَحَدا لِخَرابِ الدُّنْيا حادٍ، وَناداكُمْ لِلْمَوْتِ مُنادٍ: ﴿..فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحُياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرورُ﴾ لقمان:33.

أَلا وَإِنَّ الدُّنْيا دارٌ غَرّارَةٌ خَدّاعَةٌ، تَنْكِحُ في كُلِّ يَوْمٍ بَعْلاً، وَتَقْتُلُ في كُلِّ لَيْلَةٍ أَهْلاً، وَتُفَرِّقُ في كُلِّ ساعَةٍ شَمْلاً، فَكَمْ مِنْ مُنافِسٍ فيها، وَراكِنٍ إِلَيْها مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ، قَدْ قَذَفَتْهُمْ في الهاوِيَةِ، وَدَمَّرَتْهُمْ تَدْميراً، وَتَبَّرَتْهُمْ تَتْبيراً، وَأَصْلَتْهُمْ سَعيراً.

حَشْرَجَةُ المَوت

أَيْنَ مَنْ جَمَعَ فَأَوْعى، وَشَدَّ فَأَوْكى، وَمَنَعَ فَأَكْدى؟ بَلْ أَيْنَ مَنْ عَسْكَرَ العَساكِرَ، وَدَسْكَرَ الدَّساكِرَ [الدَّسْكَرَةُ : بِنَاءٌ كالقَصْرِ يكون للملوك حَولَه بيُوتٌ وَمنازِلُ للخَدَم والحَشَم، جمعُه دَسَاكِرُ]، وَرَكِبَ المَنابِرَ، أَيْنَ مَنْ بَنى الدّورَ، وَشَرَّفَ القُصورَ [شَرَّفَ القصرَ أو غيرَه: جعلَ له شُرْفةً]، وَجَمْهَرَ الأُلوفَ؟ قَدْ تَداوَلَتْهُمْ أَيامُّها، وَابْتَلعَتْهُمْ أَعْوامُها، فَصاروا أَمْواتاً، وَفي القُبورِ رُفاتاً؛ قَدْ نَسُوا ما خَلَّفوا، وَوَقَفوا عَلى ما أَسْلَفوا، ﴿ثُمَّ رُدّوا إِلى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسِبينَ﴾ الأنعام:62.

وَكَأَنّي بِها وَقَدْ أَشْرَقَتْ (أَشْرَفَتْ) بِطَلائِعِها، وَعَسْكَرَتْ بِفَظائِعِها، فَأَصْبَحَ المَرْءُ بَعْدَ صِحَّتِهِ مَريضاً، وَبَعْدَ سَلامَتِهِ نَقيضاً، يُعالِجُ كَرْباً، وَيُقاسي تَعَباً، في حَشْرَجَةِ السِّباقِ، وَتَتابُعِ الفُواقِ، وَتَرَدُّدِ الأَنينِ، وَالذُّهولِ عَنِ البَناتِ وَالبَنينِ، وَالمَرْءُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ شُغْلٌ شَاغِلٌ، وَهَوْلٌ هائِلٌ، قَدِ اعْتُقِلَ مِنْهُ اللِّسانُ، وَتَرَدَّدَ مِنْهُ البَنانُ (البَيان)، فَأَصابَ مَكْروهاً، وَفارَقَ الدُّنْيا مَسْلوباً، لا يَمْلِكونَ لَهُ نَفْعاً، وَلا لِما حَلَّ بِهِ دَفْعاً، يَقولُ اللهُ في كِتابِهِ: ﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ الواقعة:86-87.

ثُمَّ مِنْ دونِ ذَلِكَ أَهْوالُ القِيامَةِ، وَيَوْمُ الحَسْرَةِ وَالنَّدامَةِ، يَوْمَ تُنْصَبُ المَوازينُ، وَتُنْشَرُ الدَّواوينُ، بِإِحْصاءِ كُلِّ صَغيرَةٍ، وَإِعْلانِ كُلِّ كَبيرَةٍ؛ يَقولُ اللهُ في كِتابِهِ: ﴿..وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ الكهف:49.

المبادرة إلى التّوبة.. قبل طَيِّ الصّحيفة

ثُمَّ قالَ: أَيُّها النّاسُ، الآنَ الآنَ مِنْ قَبْلِ النَّدَمِ، وَمِنْ قَبْلِ ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الزّمر:56-58، فَيَرُدّ الجَليلُ: ﴿ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ الزّمر:59، فَواللهِ ما سَأَلَ الرُّجوعَ إِلّا لِيَعْمَلَ صالِحاً، وَلا يُشْرِكَ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.

ثُمَّ قالَ: أَيُّها النّاسُ، الآنَ الآنَ، ما دامَ الوَثاقُ مُطْلَقاً، وَالسِّراجُ مُنيراً، وَبابُ التَّوْبَةِ مَفْتوحاً، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَجِفَّ القَلَمُ، وَتُطْوَى الصَّحيفَةُ، فَلا رِزْقَ يَنْزِلُ، وَلا عَمَلَ يَصْعَدُ؛ المِضْمارُ اليَوْمَ، وَالسِّباقُ غَداً، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرونَ إِلى جَنَّةٍ أَوْ إِلى نارٍ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ».

 

 

 

أَفضلُ الوصايا، وأَكرمُها

من وصايا الإمام الصّادق عليه السّلام لأحد أصحابه:

«أَفْضَلُ الوَصايا وَأَكْرَمُها:

* أَنْ لا تَنْسى رَبَّكَ.

* وَأَنْ تَذْكُرَهُ دائِماً وَلا تَعْصِيه.

* وَتَعْبُدَهَ قائِماً وَقاعِداً.

* وَلا تَغْتَرَّ بِنِعْمَتِهِ، وَتَخْرُجْ مِنْ أَسْتارِ عَظَمَتِهِ وَجَلالِهِ فَتَضِلَّ وَتَقَعَ في الهَلاكِ، وَإِنْ مَسَّكَ البَلاءُ وَالضُّرُّ وَأَحْرَقَتْكَ نيرانُ المِحَنِ.

* وَاعْلَمْ أَنَّ بَلاياهُ مَخبوءَةٌ بِكَراماتِهِ الأَبَدِيَّةِ، وَمِحَنَهُ مُورِثَةٌ رِضاهُ وَقُرْبَتَهُ وَلَوْ بَعْدَ حينٍ، فَيا لَها مِنْ مَغْنَمٍ لِمَنْ عَلِمَ وَوُفِّقَ لِذَلِكَ».

وقال عليه السّلام: «رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً اسْتَوْصى رَسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لا تَغْضَبْ قَطُّ.

قالَ: زِدْني، فَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:

صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ؛ فَإِنَّ فيها الوَصْلَ وَالقُرْبَى.

فقالَ: : زِدْني، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:

اسْتَحِ مِنَ اللهِ اسْتِحْياءَكَ مِنْ صالِحِ جيرانِكَ؛ فَإِنَّ فيها زِيادَةَ اليَقينِ.

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ ما يَتَواصى بِهِ المُتَواصونَ مِنَ الأَوّلينَ وَالآخِرينَ في خَصْلَةٍ واحِدَةٍ: وَهِيَ التَّقْوَى، يَقولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿..ولَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله..﴾ النّساء:131. وَفيهِ جِماعُ كُلِّ عِبادَةٍ صالِحَةٍ، وَبِهِ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلى الدَّرَجاتِ العُلَى وَالرُّتَبِ القُصْوى، وَبِهِ عاشَ مَنْ عاشَ مَعَ اللهِ بِالحَياةِ الطَّيِّبَةِ، وَالأُنْسِ الدّائِمِ؛ قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ القمر:54-55».

 

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الخامس و الخمسون -شهر ذو الحجة 1435 - تشرين أول 2014

شعائر العدد الخامس و الخمسون -شهر ذو الحجة 1435 - تشرين أول 2014

نفحات