الملف

الملف

منذ يومين

تحصين الأجيال من التّحريف والانحراف

التّحذير من اتّباع سَنن الأمم السّابقة

تحصين الأجيال من التّحريف والانحراف

ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّيخ حسين كوراني ـــــــــــــــــــــــــــــ

منهج مركزيّ:

- يكشف وحدةَ خصائص النّفس البشريّة.

 - ويُضيء على تهافت ربط التّحضّر بالتّقدّم التّقنيّ.

 - ويصوّب البحوث الفكريّة باتّجاه إنسانيّة الإنسان.

 - ويعصم من السّقوط في الغرائزيّة الحيوانيّة التي نتج عنها: ثقافة «الغرائز والحيوان».

 كما يعصم من «التّشيئة»، التي أفرزت «ثقافة الآلة».

من تجلِّيات الإعجاز النّبويّ، تَعدُّد المناهج التي يشكّل كلٌّ منها قاعدة راسخة، تنطلق منها الأجيال وتستضيء بنورها لتضمن سلامة الفكر والسّلوك، عبر خطّين مُتلازمَين:

1) الاهتداء إلى سلامة العقيدة ونقائها من التّحريف بمستوياته المختلفة.

2) والمحافظة على استقامة سلوك الفرد والأُمّة في جميع المجالات، بما يشمل نظامَ الحكم وإقامةَ العدل في خطّ التزام العقيدة الأصيلة.

أبرز هذه المناهج

1) منهج التزام القرآن الكريم والعترة المعصومة: «كتاب اللهِ وَعِتْرَتي». وتندرج فيه جميع النّصوص حول مرجعيّة القرآن الكريم المُهيمنة، وحيث إنّ القرآن الكريم يصرّح بمرجعيّة أهل البيت، عليهم السّلام، في تفسيره فإن هذا المنهج يشمل - بالدّرجة الأولى والمباشرة - كلّ الرّوايات النّبويّة في أهل البيت، عليهم السّلام، عموماً أي بالعناوين العامّة من قبيل: «أهل البيت» أو «العِترة».

وينبغي التّنبّه بعناية إلى أنّ هذا المنهج هو الأصل الذي تصبّ فيه كلّ المناهج الآتية، وتتقوّم به، حيث إنّ منهجيّة كلٍّ منها مُتوقّفة على كون ما يعتبَر منهجاً يوصل إلى الالتزام بالقرآن الكريم والعترة المعصومة.

وبما أنّ الأخذ بالكتاب مع إنكار الرّسول صلّى الله عليه وآله، هو في الحقيقة إنكارٌ للمرسِل والرّسالة، فكذلك هو الأخذ بالكتاب والتزامه مع إنكار وجوب التزام العِترة عليهم السّلام.

يتّضح – إذاً - أنّ جوهر هذا المنهج الأصل والغاية هو التزام أهل البيت عليهم السّلام، وهو ما تُجمع عليه الأُمّة بإجماعها على ما صحّ عن رسول الله، صلّى الله عليه وآله، ورواه العلماء المسلمون وصرّحوا بالاعتقاد به.

* في معرض نقْله عن بعض كبار العلماء تأكيد أهل السّنّة وجوبَ حبِّ أهل البيت، عليهم السّلام، قال الأصبهانيّ: «يقولون [أي السّنَّة]: إنّ الله تعالى أوجب محبّة أهل بيت نبيّه على جميع بريّته، ولا يؤمن أحدُكم حتّى تكونَ عترة النّبيّ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - أحبّ إليه من نفسه، ويروون في ذلك أحاديث. منها: ما رواه البيهقيّ، وأبو الشّيخ، والدّيلميّ، أنّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَكونَ عِتْرَتي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ). وأخرج التّرمذيّ، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - قال: (أَحِّبوا أَهْلَ بَيْتي بِحُبّي)، إلى غير ذلك من الأخبار. ويقولون: مَن ترك المودّة في أهل بيت رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فقد خانه، وقد قال الله تعالى: ﴿..لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرّسُولَ..﴾ الأنفال:27، ومن كره أهل بيته فقد كرهَه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ولقد أجاد من أفاد:

وَلا تَعْدِلْ بِأَهْلِ البَيْتِ خَلْقاً

فَأَهْلُ البَيْتِ هُمْ أَهْلُ السّيادَة

وبُغْضُهُمْ لِأَهْلِ العَقْلِ خُسْرٌ

حَقيقِيٌّ وَحُبُّهُمُ عِبادَة

 

ويُوجبون الصّلاة عليهم في الصّلوات، قال الشّيخ الجليل فريد الدّين أحمد بن محمّد النّيسابوريّ رحمه الله: من آمن بمحمّد ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن، أجمع العلماء والعرفاء على ذلك ولم يُنكره أحد. انتهى كلام صاحب (الصّواعق)». (الأصبهانيّ «الوفاة: 1339»، القول الصّراح في البخاريّ وصحيحه الجامع: ص48؛ وانظر: النقويّ، خلاصة عبقات الأنوار: ج 9\ ص 191 نقلاً عن الصّواقع للكابليّ، ولعلّ «الصّواعق» هنا تصحيف الصّواقع).

2) منهج التزام أمير المؤمنين، عليه السّلام، فإنّ الحقّ معه يدور «كَيْفَما دارَ». وتندرج فيه من النّصوص النّبويّة المتفّق عليها بين المسلمين ما يفوق التّصوّر ويُبهر العقول.

3) منهج التزام الزّهراء، عليها السّلام، «أُمّ أبيها»، في مقابل استغلال الإمبراطوريّات الظّالمة لعنوان «أمّ المؤمنين» حتّى بما لا ترضى به أمّ المؤمنين.

4) منهج التزام الحَسَنَيْن، عليهما السّلام، وتندرج فيه الأفعال والنّصوص النّبويّة في التّعريف بعظيم مقاماتهما، عليهما السّلام، وكذلك النّصوص حول ما عُرِفَ باسم «صلح الحسن»، وحول «كربلاء» وشهادة الإمام الحسين عليهما السّلام.

5) منهج التزام «الأئمّة الاثني عشر»: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»، وأنّ الاثني عشر موزّعون على امتداد بقاء الدّنيا ليبقى الإسلام – بل الدّنيا - ببقائهم كما قضت مشيئة الله تعالى. وتندرج فيه روايات: «لا تَخْلو الأَرْضُ مِنْ حُجَّةٍ»، و«النُّجومُ أَمانٌ لِأَهْلِ السّماءِ، وَأَهْلُ بَيْتي أَمانٌ لِأَهْلِ الأَرْضِ». وممّن نصَّ على ذلك «الهَيتميّ» في (الصّواعق المُحرقة)!

 6) منهج التّحذير من «الشّجرة الملعونة في القرآن»، أي بني أُميّة، وبالخصوص أبي سفيان ومعاوية ويزيد، ومن آل العاص، وأنّهم يحكمون باسم الإسلام، والإسلام منهم بريء، ويتّخذون «مالَ اللهِ دُوَلاً، وَعِبادَهُ خَوَلاً..».

7) منهج إخبارات النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يكون، أي بما سيقع من بعده من تحريف وانحراف، وهو على قسمين: خاصّ وعامّ.

* والمراد بالخاصّ:

1) إخبارات النّبيّ بحوادث مركزيّة بخصوصها كإخباره صلّى الله عليه وآله وسلّم بحروب الإمام عليّ، عليه السّلام، النّاكثين والقاسطين والمارقين، وكإخباره بصلح الإمام الحسن، وبشهادة الإمام الحسين عليهما السّلام.

2) وإخباره أيضاً بمفردات جُزئيّة تقع في سياقها من قبيل «راكبة الجمل»، أو «الحوأَب»، أو عدد قتلى الخوارج في «النّهروان»، أو تفاصيل في سياق أحداث كربلاء، كخبر قطع السِّدرة:  «لَعَنَ اللهُ قاطِعَ السّدْرَة»، وهي شجرة سِدر كانت في كربلاء يستظلّ بها الزوّار، فأمر «هارون» المُسمّى بالرّشيد، أو المُتَوَكّل بقطعها، ويحتمل أنّ أَمْرَ القطعِ صدر مرّتين، وعندما قُطعت جاء زائر من كربلاء إلى الكوفة فذكر في مجلس أحد المُحدّثين أنَّ الخليفة أمر بقطع السّدرة، فقال المُحدّث: الله أكبر، خبرٌ كنّا نرويه ولا نفقه معناه: «لَعَنَ اللهُ قاطِعَ السِّدْرَة»!

3) وممّا يدخل في الخاصّ إخبار النّبيّ صلّى الله عليه وآله بأمور جزئيّة لكنّها مَفصليّة ومركزيّة تشكّل دليلاً موصلاً إلى الحقّ ومن أمثلته:

أ) إخباره صلّى الله عليه وآله بمقتل عمّار بن ياسر على يد الفئة الباغية: «عَمّارٌ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ الباغِية».

ب) أمْر النّبيّ صلّى الله عليه وآله، الأمّة بالتفريق بين معاوية وعمرو بن العاص إذا اجتمعا، فإنّهما لا يجتمعان على خير. أورد نصر بن مزاحم المنقريّ (ت:212) في كتابه (وقعة صفّين: ص 218)، حول ذلك ما يلي: «دخل [الصّحابيّ] زيد بن أرقم على معاوية، فإذا عمرو بن العاص جالسّ معه على السّرير، فلما رأى ذلك زيد جاء حتّى رمى بنفسه بينهما، فقال له عمرو بن العاص: أما وجدتَ لك مجلساً إلّا أن تقطع بيني وبين أمير المؤمنين؟

فقال زيد: إنّ رسول الله غزا غزوةً وأنتما معه، فرآكما مجتمعَين فنظر إليكما نظراً شديداً، ثمّ رآكما اليوم الثّاني واليوم الثّالث، كلّ ذلك يُديم النّظر إليكما، فقال في اليوم الثّالث: إِذا رَأَيْتُمْ مُعاوِية وَعَمْرو بْنَ العاصِ مُجْتَمِعَيْنِ فَفَرِّقوا بَيْنَهُما، فَإِنَّهُما لَنْ يَجْتَمِعا عَلى خَيْرٍ».

* والمراد بالعامّ: إخباره، صلّى الله عليه وآله، بضابطة كلّيّة وقاعدة عامّة يعرَف بها جميع أنواع التّحريف والانحراف، ومثاله المنهج الثّامن التّالي الذي هو موضوع «الملفّ» في هذا العدد.

تدبّر تجارب الأمم السّابقة

منهج، «يَجْري في هَذِهِ الأُمَّةِ ما جَرَى في الأُمَمِ السّابِقَةِ»، «شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِراعاً بِذِراعٍ»، بل «حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ»، أي كتطابق ريشة الفرشاة مع ريشةٍ أخرى.

يعني هذا المنهج توكيد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وحدةَ السّنَن الاجتماعيّة بين جميع أُمَم الأنبياء، في البُعدَين الفرديّ والجماعيّ، ولذلك فإنّ ما سيجري على الأُمّة الإسلاميّة هو عين ما جرى على الأُمم من قبلها. وحيث إنّ تجارب الأُمم السّابقة تمتدّ على مساحة التّاريخ كلّه من النّبيّ آدم، على نبيّنا وآله وعليه السّلام، فإنّ خزين تجارب جميع الأمم السّالفة - وهو نفسه خزين انطباق جميع السّنن الاجتماعيّة - يشكّل لهذه الأُمّة رصيداً معرفيّاً وسلوكيّاً بحجم أعمدة القرون، ليسددّ مسار الفرد والجماعة في مختلف ميادين الحياة، ليتناسب رشد الأُمّة مع مستوى الرّسالة الخاتمة التي تحملها.

وتندرج في هذا المنهج رواياتٌ كثيرة بلغت حد التّواتر. (انظُرْ في هذا الملفّ: روايات اتّباع سنن الأُمم من قبلنا). وهذا بعض القليل منها:

* في كتاب (المسترشد للطّبريّ الإماميّ: ص229):

قال صلّى الله عليه وآله: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ، حَتّى لَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ، فقيل: يا رسول الله: اليهود والنّصارى، قال: فَمَنْ أَرَى؟».

* وفي (كمال الدّين) للشّيخ الصّدوق، بإسناده عن غياث بن إبراهيم، عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام:
 «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كُلُّ ما كانَ في الأُمَمِ السّالِفَةِ فَإِنَّهُ يَكونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ مِثْلُهُ،
حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

* وفي روايّة ثالثة زيادة: «حَتّى أَنَّ لَوْ كانَ مَنْ قَبْلِكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ».

 * وفي رابعة زيادة: «حَتّى إِنْ كانَ فيهِمْ مَنْ أَتى أُمَّهُ يَكونُ فيكُمْ».

* من خصائص هذا المنهج: أنّه المنهج الأشمل الذي تتعدّد فيه مسارات البحث الفرديّة والاجتماعيّة إلى حيث يصعب حصرُها.

والسّبب في هذا التّعدّد القياسيّ أن النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، أكّد شمول قاعدة هذا المنهج للحالات الفرديّة كما تقدّم، وتجد المزيد في سائر الرّوايات.

نموذج لِسعة دوائر هذا المنهج

يكفي لإدراك سعته المترامية الأطراف وجامعيّته الفريدة التأمّل في تسع آيات متتالية من سورة النّساء هي الآيات 46 إلى 55، إذ نجد فيها حشداً ممّا جرى على بعض الأُمم السّابقة وهو يدخل ضمن قاعدة: «يجري على هذه الأمّة ما جرى على الأُمَم قبلها».

تتضمّن هذه الآيات التسع كلّ المحاور التاليّة:

1) تحريف الكَلِم عن مواضعه: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ..﴾ النساء:46.

2) استحقاق الإضلال المعبّر عنه بقوله تعالى: ﴿..مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا..﴾ النّساء:47.

3) واستحقاق اللّعن: ﴿..أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السّبْتِ..﴾ النّساء:47.

4) الوقوع في المعصية والحاجة إلى المغفرة: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ النّساء:48.

5) تزكيّة النّفس: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ النّساء:49.

6) افتراء الكذب على الله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ النّساء:50.

7) الإيمان بالجبت والطّاغوت: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا﴾ النّساء:51. 

8) استحقاق اللّعن (ما تقدّم لمجرّد معصيتهم، وهنا بسبب إيمانهم بالجبت والطّاغوت): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ النّساء:52. 

9) البُخل: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًاالنّساء:53. 

10) الحسد: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًاالنّساء:54. 

11) إيمان البعض وكفر البعض الآخر: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ النّساء:55. 

الانقلاب على الأعقاب والصراع على السّلطة

ومن أبرز المسارات الاجتماعيّة والسّياسيّة الحسّاسة والمصيريّة التي تتجلّى فيها فرادة هذا المنهج، أنّه يقدّم للأُمّة تجارب الأُمم السّابقة بعد الأنبياء، في المحافظة على الاستقامة - أو عدمها - عندما يتوفّى النّبيّ وتخيّم على أُمّته أجواء السّنّة الاجتماعيّة الأخطر وهي الانقلاب على الأعقاب، والسّقوط في فِتن الصّراع على السّلطة وحروبها، استجابة لإغواء الشّيطان ببهارج حبّ الدّنيا.

في سياق ضمانة استمرار التّوحيد كان تحذيرُ القرآن الكريم من الانقلاب على الأعقاب: ﴿وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكِرِينَ﴾ آل عمران:144.

وفي سياق هذا التأسيس القرآنيّ كان التأسيس النّبويّ المنهجيّ في المسارات التي تحدّ من أخطار الانقلاب على الأعقاب، وتحصّن الأجيال من التّلبيسات والتّمويهات التي اختلط الباطل فيها بالحقّ، إلى حيث أصبح معاوية بن أبي سفيان «خليفة رسول الله».

* ويكشف التأمّل في سيرة النّبيّ الأعظم، صلّى الله عليه وآله، أنّه أمضى مرحلة النّبوّة كلّها يركّز على محور تثبيت التّوحيد، وعلى محور التّحذير من الانقلاب على الأعقاب، وهما في الحقيقة واحد، فالانقلاب على الأعقاب ارتداد إلى الشّرك.

يتّضح ممّا تقدّم أنّ في طليعة ما يجري على الأُمّة ممّا جرى على الأمم السّابقة هو الاستبدال في المجال السّياسيّ، وكلّ ما يرتبط بمركز القرار في إدارة شؤون الأُمّة.

وقد أجمع المسلمون على أنّ بقاءَ التّوحيد في هذه الأُمّة رهنٌ بالتزامِ أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً،  ولن تتّبع الأُمّة سَنن الأمم من قبلها إلّا من خلال تنكّب صراط أهل البيت، عليهم السّلام. وهذا يعني بوضوح أن منهج: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ» هو منهج سياسيّ بامتياز مصبّه الرّئيس هو «مركز القرار في إدارة الأُمّة»، وأنّ ما جرى على أوصياء الأنبياء السّابقين سيجري على أوصياء النّبي محمّد، صلّى الله عليه وآله، «شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ»، و«حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

* من أمثلة ذلك:

1) تفرّق الأُمّة عمّن هو من النّبيّ بمنزلة هارون من موسى، عليهم السّلام، كما خالف قومُ موسى هارونَ ولم يرقبوا قولَهُ حين مضى موسى إلى «ميقات ربّه».

 2) خروج أُمّ المؤمنين عائشة على وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما حاربت «صفورا» زوجة النّبي موسى عليه السّلام وصيّه يوشع عليه السّلام.

***

تنقسم الأمور التي تقع في هذه الأُمّة وقد وقع مثلها في الأُمم السّابقة إلى قسمَين:

الأوّل: ما تتبّع فيه الأُمّةُ الأُممَ السّابقة.

الثّاني: حوادث تقع في الأُمّة وقد وقع مثلها في الأُمم السّابقة ولكن لا مدخليّة في وقوعها للاتّباع.

التّطابق في الفكر والسّلوك

مواردَ التّطابق بين هذه الأمّة والأمم السّابقة في الفكر والسّلوك خاصّةٌ وعامّة، والدّليل على ذلك أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله ذكر أمثلة فرديّة في سياق الحديث عن موارد التّطابق العامّة من قبيل قوله صلّى الله عليه وآله: «حَتّى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ».

وتقدّم أنّ موارد التّطابق بين هذه الأُمّة وبين الأُمم السّابقة مُتراميّة الأطراف كثيرة التّشعّب، بما يتناسب مع تجارب تلك الأُمم في قرون مُتمادية.

لذلك لا يمكن التّقصّي إلّا بتراكم الجهد وتعدّد الأبحاث، إلّا أنّ الحاجة ماسّة – للاعتبار- إلى تتبّع أبرز موارد هذا التّطابق، وما يلي محاولة أوليّة في ذلك أمكن من خلالها رصد ما يلي:

1) الكفر بعد الإيمان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا..﴾ النساء:137¬  يماثله الانقلاب على الأعقاب.

قال الشّيخ الطّوسيّ: «فأين التّعجّب من ذلك [الانقلاب على الأعقاب] وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..﴾ آل عمران:144.

وقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتّى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ. فقالوا: يا رسول الله اليهود والنّصارى، فقال عليه السّلام: فَمَنْ إِذاً؟!».

2) اختراع إله: ﴿..اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا..﴾ الأعراف:138. )العجل - ذات أنواط(.

3) النّفاق: ﴿.. قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ..﴾ البقرة:14.

4) ضعف الإيمان بالغيب: وهو مرض عضال يؤدي إلى رفض «التّعبّد»: ﴿..فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ البقرة:71، ﴿..فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي..﴾ البقرة:249.

والتّعبُّد هو الالتزام بما يحدّده المُختصّ الذي حكم العقلُ بوجوب الرّجوع إليه، والالتزامِ بتوجيهاته، وهو - أي التّعبّد - حكمٌ عقليٌّ تقوم عليه أمور الدّنيا، ومن مصاديقه التزامُ قولِ الطّبيب الموثوق الذي يأمر بالخضوع لعمليّة جراحيّة حسّاسة فيحكم العقل بوجوب الامتثال، بل ويحكم العقل بمسؤوليّة مَن يموت لامتناعه عن إجراء هذه العمليّة لأنّه مختصّ يجب الرّجوع إليه و«التّعبّد» برأيه.

«التّعبّد» قاعدة عقليّة: ﴿..فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل:43، ورفض التّعبّد هو في جوهره رفض التزام القانون والنّزوع نحو العبثيّة والتفلّت، وهو تغييب للفكر والعقل وتحكيمٌ للغرائزيّة ورواسب الجاهليّة: ﴿..وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ..﴾ الزّخرف:22.

5) التّشريع: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ﴾ الأنعام:21، ﴿..وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:169.

6) البِدعة: نوع خاصّ من التّشريع هو إفراطٌ في تطبيق حكم شرعيّ: ﴿..وَرَهْبَانِيّة ابْتَدَعُوهَا..﴾ الحديد:27.

7) تحريف الكلِم عن مواضعه: قال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِالسّنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ النّساء:46.

8) تغليب الحسّ على العقل، وهو يعني النّزوع إلى المحسوس: ﴿..لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً..﴾ البقرة:55، ﴿..هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً..﴾ المائدة:112.

9) الرّجعة: وهي تعني رجوع موتى بعد موتهم إلى هذه الحياة الدّنيا، وأدلّته القرآنيّة الصّريحة متعددةٌ كما لا يخفى.

ومعنى التّطابق بين هذه الأُمّة في الرّجعة، حذو القُذّة بالقُذّة، أن يتعاظم إنكارُ البَعث، أو تُطبق الغفلة فيظنّ النّاس أنّهم قادرون على اجتناب الموت، فيستتبع تعاظم الإنكار أو إطباق الغفلة وقوع الرّجعة، أو أن تحصل في الأُمّة أو الفرد درجة من إنكار الغَيب تستدعي إقامة الحجّة بطريقة إعجازيّة، فتقع الرّجعة.

 يدلّ على التّرابط بين إنكار البعث بعد الموت ووقوع الرّجعة قوله تعالى: ﴿أوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيّة وَهِيَ خَاوِيّة عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيّة لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة:259.

ويدلّ على التّرابط بين إطباق الغفلة ووقوع الرّجعة، قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ البقرة-243.

قول في الرّجعة

* حول «الرّجعة» قال السّيّد الطّباطائيّ:

«الرّوايات متواترة معنى عن أئمّة أهل البيت، حتّى عدّ القول بالرّجعة عند المخالفين من مُختصّات الشّيعة وأئمّتهم من لدن الصّدر الأوّل، والتّواتر لا يبطل بقبول آحاد الرّوايات للخدشة والمناقشة، على أن عدّة من الآيات النّازلة فيها، والرّوايات الواردة فيها تامّة الدّلالة قابلة الاعتماد، وسيجيء التّعرّض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا..﴾ النمل:83 وغيره من الآيات.

على أنّ الآيات بنحو الإجمال دالّة عليها كقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ..﴾ البقرة: 214.

ومن الحوادث الواقعة قبلنا، ما وقع من إحياء الأموات كما قصَّه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعُزير وأرميا وغيرهم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الفريقان: (وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، لا تُخْطِئونَ طَريقَهُمْ ولا يُخْطِئُكُمْ سَنَنُ بَني إِسْرائيلَ).

على أنّ هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمّة أهل البيت من الملاحم المُتعلّقة بآخر الزّمان، وقد أثبتها النّقلةُ والرّواةُ في كتب محفوظة النّسَخ عندنا، سابقة تأليفاً وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كلّ يوم صدقَ شطرٍ منها من غير زيادةٍ ونقيصةٍ، فلنحقّق صحّةَ جميعِها وصدقَ جميعِ مضامينها».

(الميزان: ج 2/ ص 108)


اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

منذ يومين

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

  إصدارات عربيّة

إصدارات عربيّة

نفحات