الحريّة .. والإستعمار المُهَجَّن

الحريّة .. والإستعمار المُهَجَّن

30/05/2011

«أَصبحت الأُمم تخاف ظلم رُعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيّتي». الإمام عليّ عليه السلام

الشيخ حسين كوراني

«أَصبحت الأُمم تخاف ظلم رُعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيّتي» .الإمام عليّ عليه السلام

من المفاهيم المحوريّة التي قامت عليها دعوة الأنبياء، مفهوم الحريّة، وهو سياق «وضْع الإِصر والأغلال»، ومواجهة المُستكبرين، والطواغيت، والملأ، إنصافاً للمظلومين والمُستضعَفين.
كانت مهمّة الأنبياء «ليُثيروا دفائن العقول» دعوةً إلى التحرُّر من كلِّ الآلهة المُصطَنعة، وإلى عبادة الحقّ تعالى ﴿ذلك بأنّ الله هو الحقّ، وأنّه يحيي الموتى، وأنّه على كلِّ شيءٍ قدير الحج:6.
«الدِّين» عبر أنبياء الله، أوَّل مَن حمل لواء الحريّة. كلّ مَن خاض غِمار ميادين الحريّة غير المُمَوَّهة، فهو يعمل في «مشروع الأنبياء»، شاء أم أبى.
يُمكن تلخيص تاريخ البشريّة، وحاضرها والمستقبل، بالتَّوْق إلى الحريّة، والمعاناة النفسيّة والميدانيّة للوصول إليها.
يَتداخَل مفهوم الحريّة مع حبِّ التملُّك، والتسلُّط، والتَّفرعُن، وإشباع الغرائز والنزَوات، والتفلُّت من كلِّ قَيْدٍ أخلاقيٍّ وغيره، بل ويَنفر من مجرَّد التفكير بالقيود حتّى إذا كانت حدود القانون وقيوده. ولذلك فهو مفهوم مُلتبِس، والتباسه منزَلق إلى العبثيّة واللّاهدفيّة، بالغ الخطورة، كما أنّ ردّ الفعل غير المتبصِّر على توهّم أنّ مَن يطلب حريّته قد تجاوز الحدّ، هو أيضاً منزلقٌ إلى الإستعباد والتفرعن لا يقلُّ خطراً عن سابقه.
هذا المفهوم البديهي والحقّ الطبيعي والمشروع، شديد الإلتباس، متعدِّد المسارب كتعدُّد مَسارِب النفس البشريّة التي انطوى فيها «العالم الأكبر».
هو دِين يُدان الله تعالى به، إلّا أنّ شديد التباسه يُحتِّم وجوب الحذر من ركوب الفرعون موجتَه لِغايةٍ في نفس «بني يعقوب»!

**

ليس الحاكم في الرؤية الدِّينيّة حاكماً على الناس، بل هو حاكم بين الناس ﴿..وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..﴾ النساء:58.
في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام -و«رجب» شهره- ما يكشف عن فرادة موقع الحريّة في الفِكر الدِّيني، ويوضِّح كيف أسّس القرآن والرسول لحريّة الإنسان.
ليس للحاكم أن يعتمد الترغيب غير المشروع ليستميل به القلوب ويحشد المناصِرين، فيُصادِر حريّة اختيار من أُعطِيَ وحقّ من حُرم وحريّته.
عُوتب على التسوية في العطاء فقال: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور في من وُلِّيتُ عليه، والله لا أطُور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجم في السماء نجماً. لو كان المال لي لسوَّيت بينهم، فكيف وإنّما المال لهم، (فكيف وإنّما المال مال الله)».
كذلك، ليس للحاكم أن يصادر الحريّة بالترهيب.
طال استنفار عليّ عليه السلام الناس للجهاد فلم ينفروا، فسجّل للأجيال وثيقة خالدة، توضح أنَّ الحُكم يجب أن يقوم على قاعدة حفظ حريّة الناس، ولا يحقُّ للحاكم أن يجبرهم على ما يريد بالظلم والبطش والتنكيل. قال عليه السلام:
«ولقد أَصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيّتي. إستنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأَسمعتُكم فلم تسمعوا، ودعوتُكُم سرّاً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحتُ لكم فلم تقبلوا». «ولقد علمتُ أنَّ الذي يُصلحكم هو السَّيْف، وما كنتُ مُتَحَرِّياً صلاحكم بفساد نفسي».
وقال أيضاً: «أما إنِّي أعلم الذي تريدون، ويُقيم أَوَدَكُم، ولكن لا أشتري صلاحكم بفساد نفسي».

**

مساحة الحريّة في الرؤية الدينيّة أَبعد غوْراً وأوْسع آفاقاً، من كلّ ما حفل به الفكر البشري خارج السياق الدِّيني، من سِعَة للحريّة ومَدَيات.
يجب الجهر بأعلى الصوت أنّ مفهوم الحريّة بحسب النصّ الشرعي، هو بالتأكيد أعمق وأوسع من كلِّ ما منحته التجارب باسم الدِّين من حريّات، ما عدا التجارب التي قادها معصومون، وفي الأُطُر المتَّصلة بهم مباشرة، أي بما لا يشمل ممارسات أكثر الوُلاة والمنتدَبين من المعصومين لتنفيذ مهام معيّنة.
في هذا السياق الثاني، لا بُدّ من وقفة حرّة في محضر الله تعالى عند الحريّة التي يفهمها «المتديِّن» في علاقته الزوجيّة والأسريّة، وكلّ دوائر العلاقات البشريّة، ويَشفُّ الأمر ويَدقُّ كلّما تكثَّف عنصر الإحساس بميزة «المسؤوليّة» في هذه العلاقة.
«عملك ليس لك بطُعمة» ميزانٌ لخلجات نفس كلّ «عامل». سواءٌ في ذلك الحاكم، والوالي، وكلّ إمام جمعة ومنبر، وإمام جماعة أو مسؤول عنها.

**

حقيقة الحريّة مناعة في النفس تجعلها تُحكِّم العقل في الرَّغبات والأهواء.
مَن قادته رغباته، تردّى وهَوَى، ومن قاده العقل فهو الحرّ.
ومن التسطيح الغَوْغائي ربط الحريّة بخيارات الشعوب، في حين أنّ مِن العمى والتفرعُن أنْ لا يخفق القلب مع كلِّ صرخة شعب في وجه فرعونه.
للشعوب كلّ الحقّ -بل من واجبها بِحُكم العقل والشرع- أن تنتفض على الحكَّام مطالِبةً بحقِّ الحريّة المقدَّس، إلّا أنّ اكتمال حركة التحرُّر يتوقَّف على سلامة الإختيار، وسلامةُ الإختيار رهن سلامة المُنطلقات، التي تعني مناعة النفس من استبداد الأهواء، وإذا استبدّ الهوى تحوَّل الثائر إلى فرعون، وانقلبت حركة الإنتفاضة والتحرُّر إلى وسيلة «معاصرة» للإستعباد، و«الإستعمار الجديد» وهو ما تمارسه الآن إدارة الشيطان الأكبر الصهيو-أميركي.
للحريّة مستويان: ما يؤدِّي إلى سوء الإختيار، وما يؤدِّي إلى حُسن الإختيار.
كلا المستويَيْن من حيث المبدأ، وقبل استقرار الإختيار، حقٌّ مشروع ومقدَّس، إلّا أنّ ما قد يؤدّي إلى سوء الإختيار، مَسار «مَن طلبوا الحقَّ فأخطأوه» وليسوا إطلاقاً كـ «مَن طلب الباطل فأصابه».

**

واجب الأمَّة كلّها مواجهة محاولات «الإستعمار الجديد» في ركوب موجة التحرُّر المشروعة عبر امتطاء الطائفيّة «حصان طروادة» الألفيَّة الثالثة للقرون الوسطى الأميركيّة.
وكما كان شهر رجب، شهر انتصار «تمّوز» كما عُرف، وكان أوّل شهيد في هذا الإنتصار هو «إبراهيم محمّد الرجب، أبو محمّد»، فليكن أوّل الأشهر الثلاثة بداية انتفاضة الأمَّة في وجه ما تكشَّف من صهيونيّة هذه الهجمة الشرسة على القرآن الكريم، وروح المقاومة، ثأراً من كلِّ مَن ساهم في كسر شوكة أميركا وإسرائيل في جنوب لبنان وغزّة هاشم. 

اخبار مرتبطة

  إصدارات : دوريات

إصدارات : دوريات

02/06/2011

  إصدارات : كتب أجنبية

إصدارات : كتب أجنبية

02/06/2011

  إصدارات : كتب عربية

إصدارات : كتب عربية

02/06/2011

نفحات