أعلام

أعلام

20/04/2015

أستاذ الفقهاء والمحققين (الآخوند) الخراساني


أستاذ الفقهاء والأصوليّين عبر الأجيال، الشيخ محمّد كاظم الخراساني قدّس سرّه

بدايةُ فكره، نهاية فكر الآخرين

___________ إعداد: سليمان بيضون __________

 

* أحد أكبر أساتذة علمَي الأصول والفقه، ومن مراجع الدّين الذين مزجوا العلم بالعمل، وجمعوا إلى الزّهد في الدّنيا التّصدّي للشّؤون الاجتماعيّة والسّياسيّة للأُمّة.

* من أبرز تلامذة العلّامة الشّيخ مرتضى الأنصاريّ، والمجدّد الميرزا محمّد حسن الشّيرازيّ، الذي شهد له بالقول: «بداية فكر الآخوند نهاية فكر الآخرين».

* حضر درسه – متنكراً -  شيخ الإسلام في عاصمة الدولة العثمانية، فباحثه، ورجع إلى بلاده منبهراً بقوة حجّته.

* كُشف عن جسده بعد حوالى 50 عاماً من وفاته فكان غضّاً طريّاً. 

* أعدّت هذه الترجمة – بتصرّف - استناداً إلى ما ورد في مقدمة (كفاية الاصول) حواشي المحقّق الميرزا أبي الحسن المشكيني، بتحقيق الشيخ سامي الخفاجي، منشورات دار الحكمة، قم.

 

 

الشيخ محمّد كاظم ابن المولى حسين الهروي الخراسانيّ، المعروف بـ «الآخوند». ينتسب والداه إلى مدينة «هراة» من بلاد خُراسان. وقد هاجر والده في أيام شبابه الأولى من مسقط رأسه إلى مدينة مشهد حيث المرقد الطاهر للإمام عليّ بن موسى الرضا، عليه السلام، من أجل تحصيل العلوم الإسلاميّة.

كانت ولادته في مشهد عام 1255 للهجرة، ونشأ وترعرع في بيئة صالحة، وفي أحضان عائلة مُتديّنة؛ وفي دفء إيمانها وحنانها شبَّ ونما، وتحت رعاية والد خيِّرٍ محبٍّ للعلم والعلماء وفي كنفه عاش وتربّى.

                                       هجرته في طلب العلم

 بدأ الشيخ الآخوند في تحصيل العلوم الدينية والمعارف الإسلامية ومقدّماتها وهو في الحادية عشرة من عمره، في مدينة مشهد حتى إذا بلغ سنّ الثالثة والعشرين كان قد أنهى مرحلتَي المقدّمات والسطوح مع الإتقان والضبط.

وفي تلك المرحلة كان صيت النجف الأشرف في عصر علَّامتها الأكبر الشيخ مرتضى الأنصاري قد طبق الخافقين، وكانت نفس الشيخ توّاقةً للمزيد من طلب العلم فصمّم على الهجرة إليها، وكانت رحلة طويلة شاقّة، استغرقت مع توقُّفاتها قرابة السنتَين، حيث لم تتهيّأ له الأسباب لمواصلة السفر من دون توقّف.

وقد استفاد خلال توقّفاته، في أثناء الطريق، كثيراً في الفلسفة والحكمة في «سبزوار» من الفيلسوف الشهير المولى هادي السبزواري (ت 1289 للهجرة) لفترة قصيرة لا تتعدّى الخمسة شهور من عام 1277 للهجرة، وفي طهران - حيث كانت قد ازدهرت فيها العلوم العقليّة والحَكَميّة - مكث ثلاثة عشر شهراً ينتهل من تلك العلوم على يدَي الحكيمَين المبرَّزين: الميرزا أبي الحسن جلوه، والمولى حسين الخوئي، وكان في هذه الفترة ينتظر الفرج وتهيّؤ أسباب السفر، ليواصل المسير إلى دار هجرته المقصودة، حتى هيّأ الله تعالى له أسباب سفره.

في النجف الأشرف

غادر الشيخ الآخوند مدينة طهران في أواخر سنة 1278 للهجرة إلى مدينة النجف، وهناك حضر بحث الشيخ الأنصاري، ولازمه مدّة عامَيْن حظي خلالهما منه باهتمام بالغ، وأحاطه بعناية خاصّة، وبقي الشيخ ملازماً لأستاذه، ومُكبّاً على درسه بكل حرص وشغف، حتى إذا التحق شيخه بالرفيق الأعلى، في عام (1281 للهجرة)، اختصّ بالميرزا محمد حسن الشيرازي مع أنّه كان ملازماً لدرسه أيام شيخه الأنصاري، حتى ينقل عنه قوله: «إنني اتخذتُ المحقّق الأنصاري أوّل ما حللتُ النجف شيخاً لنفسي، واتخذتُ سيدنا الميرزا حسن الشيرازي أُستاذاً، فكنت أختلف إلى سيّدي الأُستاذ، وأحضر أبحاثه الخصوصيّة والعموميّة، ثمّ بصحبته نحضر معاً درس شيخنا الأنصاري، فنكمّل استفاداتنا من بياناته».

وبقي المحقّق الآخوند ملازماً للسيّد الشيرازي عشر سنوات يحضر درسه ويباحثه، وقد يستمرّ بينهما النقاش لياليَ وأياماً عديدة، وربما استطاع الشيخ الآخوند أن يُقنع أُستاذه برأيه، فلا يتردّد الأُستاذ بإعلان صحّة رأي تلميذه الآخوند على الملأ من العلماء والأفاضل، مُشيداً به، قائلًا في حقّه تلك الكلمة: «بداية فكر الآخوند نهاية فكر الآخرين».

حتى إذا غادر الإمام الشيرازي النجف إلى سامرّاء، ناقلًا معه الحوزة العلميّة، انتقل معه المحقّق الآخوند، ولم يطل به المقام هناك حيث أمره أُستاذه المجدّد بالعودة إلى النجف الأشرف من أجل التصدّي للتدريس هناك ولحاجة النجف إليه، فاستقطب إلى بحثه أكثر الأفاضل والطلَّاب، حتى صار المدرّس الأوّل فيها حيث امتاز درسه بالقوّة والإيجاز والتهذيب والإحاطة، كما صرّح بذلك السيد محسن الأمين العاملي في (أعيان الشيعة) بقوله: «وتميّز [الآخوند] عن جميع المتأخِّرين بحبِّ الإيجاز والاختصار وتهذيب الأُصول والاقتصار على لُباب المسائل وحذف الزوائد مع تجديد في النّظر وإمعان في التحقيق».

وقد تتلمذ المحقّق الآخوند إضافة إلى الشيخ الأنصاري والإمام الشيرازي على يدي العلَّامتين المحقّقين: السيد علي التستري (ت 1283)، والشيخ راضي آل خضر (ت 1290).

تلامذته

بفضل مزايا بحث المحقّق الآخوند، تقاطر عليه علماء حوزة النجف وفضلاؤها، وازدحموا في درسه وتحت منبره، فكان مجلس بحثه محفلاً علميّاً ضخماً مهيباً، وربما بلغ عدد الحاضرين في درسه زُهاء ثلاثة آلاف مستمع، ولم يقلّ تعدادهم عن ثمانمائة؛ قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في (الذريعة):

«وقد سمعتُ ممّن أحصى تلاميذ الأُستاذ الأعظم المولى محمد كاظم الخراسانيّ في الدورة الأخيرة في بعض الليالي بعد الفراغ من الدرس أنه زادت عدّتهم على الألف والمائتين، وكان كثير منهم يكتب تقريراته». وقال السيد الأمين: «وعَمرَ مجلس درسه بمئات من الأفاضل والمجتهدين».

ومن هؤلاء التلامذة (الأعلام): الميرزا النائيني، والسيّد أبو الحسن الأصفهاني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ محمد حسين الأصفهاني، والشيخ عبد الكريم الحائري، والحاج السيد حسين الطباطبائي البروجردي، والشيخ علي القوجاني، والميرزا أبو الحسن المشكيني الأردبيلي، والسيّد عبد الحسين شرف الدين، والشيخ محمد جواد البلاغي، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد صدر الدين الصدر، والسيد رضا الهندي، والسيّد محسن الطباطبائي الحكيم، وغيرهم.

وطار صيته في الآفاق شرقاً وغرباً، حتى قصده من عاصمة الدولة العثمانية شيخ الإسلام فيها ليتعرّف إليه عن كثب، وحضر درسه متنكَّراً، ثمّ انصرف إلى بلاده ولسانه يلهج بحمد الشيخ الآخوند، منبهراً بعظمة بحثه وقوّة حجّته.

آثاره العلميّة

لم يمنع الشيخ الآخوند اشتغالُهُ بالتدريس، وتحمُّلُه لأعباء المرجعية، واهتمامُه بأُمور المسلمين في تلك الفترة الملأى بالمتغيرات السياسية من إتحاف المكتبة الإسلاميّة - الأُصولية والفقهية منها بالخصوص - بنفائس الكتب والرسائل، في الفقه، والأُصول، والفلسفة، ومن أهمّها:

* كتبه ورسائله الأُصولية:

1 – (حاشية على فرائد الأُصول) - للشيخ الأنصاري - كتبها في الثامنة والعشرين من عمره.

2 – (درر الفوائد): حاشية أُخرى على (فرائد الأصول)، ابتدأ بتصنيفها في السادسة والثلاثين من عمره.

3 – (فوائد الأُصول): قال العلَّامة الطهراني إنّه «في غوامض المسائل الأصولية، كالواجب المشروط، ومقدّمة الواجب، والضدّ والاجتماع».

4 – (حاشية على مبحث الظنّ).

5 – (حاشية على مبحث القطع).

6 – (كفاية الأُصول): في مجلّدين. وهو من أشهر الكتب الأُصولية، استوعب البحوث الأُصولية وأبرزَ الآراء المطروحة فيها، مع مناقشتها وإعطاء رأي المصنِّف فيها بعبارة وجيزة دقيقة. كتبت عليه الشروح والحواشي الكثيرة التي قد تصل إلى 150 شرحاً وحاشية.

* كتبه ورسائله الفقهيّة:

7 – (حاشية على كتاب المكاسب) - للشيخ الأنصاري -  في البيع والخيارات.

8 – (شرح كتاب التبصرة) - للعلَّامة الحلّي.

9 – (تكملة التبصرة): وهي دورة فقهيّة تحتوي على آخر فتاواه.

10 – (شرح متن التكملة): أسماه (اللّمعات النيّرة في شرح تكملة التبصرة)، وقد أراد له أن يكون دورة فقهيّة استدلالية دراسيّة موجزة تُختتم بها مرحلة السطوح، ولكنه توفّي قبل أن يتمّه.

11 – (رسالة في الدماء الثلاثة): تُعدّ أهمّ آثاره الفقهية وأدقّها.

12 - كتاب (في القضاء والشهادات)، أتمّه من بعده ولده الميرزا محمّد.

13 – (روح الحياة): وهي رسالته العمليّة للمكلّفين.

14 – (ذخيرة العباد في يوم المعاد): رسالة عمليّة باللغة الفارسيّة.

* مصنّفاته في الفلسفة:

15 – (حاشية على الحكمة المتعالية) - لصدر المتألّهين الشيرازي.

16 – (حاشية على منظومة السبزواري).

أخلاقه وسجاياه

لم يكن نبوغُه العلميّ، وعمقُ أفكاره، وإحاطتُه بالآراء، وقوّة حجّته وبيانه، وقيادتُه الشجاعة والحكيمة هي كل ما يميِّز شخصيّة المحقّق الآخوند، بل كان إلى جنب ذلك يتمتّع بأخلاق عالية، ونزاهة، وزهادة، وكرم، وسماحة، وحلم، وحياء، وأدب جمّ، وطمأنينة، وشجاعة، وسائر مكارم الأخلاق التي لم تجتمع إلَّا لدى العظماء والكُمَّل من البشر. ولعلّ أبرز ما يُجلّي عظَمته في الجانب الأخلاقي والسجايا النفسيّة:

1 – إحسانه بالمال على الذين يُخالفونه في الرّأي، بل حتّى أولئك الذين يهاجمونه علناً من خصومه ومعارضيه.

2 - سخاؤه الكبير، بحيث إنه قد يُعطي كلّ ما يملك من مال، ولا يستبقي لنفسه شيئاً.

3 - قلَّة أكله، بحيث كان لا يتناول إلَّا لُقيمات خلال وجبتين فقط في اليوم الواحد، كذلك كان قليل النوم.

4 - مُخالفته لهواه، وكان يقول: «إنّ تديُّن أبنائي لا يثبت لديّ إلَّا إذا قلَّدوا غيري».

ولعلّ ممّا يكشف عن كرامته عند الله سبحانه أنّه عندما تُوفِّيت ابنته الوحيدة عام 1375 للهجرة - أي بعد وفاته قدّس سرّه بـ 46 سنة - وحفروا لها بجنب قبره، انهدم الجدار الَّذي بين القبرين، فانكشف جثمان الشيخ، فوجدوه غضّاً طريّاً، سليماً، لم يَبْلَ، ولم تأكل الأرض شيئاً من جسده كأنّه مستغرقٌ في نومٍ عميق.

من الأقوال بحقّه

* الشيخ جعفر ابن الشيخ باقر آل محبوبة في كتابه (ماضي النجف وحاضرها): «هو أشهر مشاهير عصره، كان آيةً في الذكاء والحفظ وسرعة الانتقال، مُتقناً لعلمَي الحكمة والكلام وأصول الفقه، وهو الذي تنبّه لخلاص شعبه من رقّ الاستبداد ونزع عنه نير الاستعباد، له أيادٍ مشكورة على العلماء وأهل العلم وحملَة الدّين إذ جدّد لهم منهج الدراسة، وصنّف في الأصول والفروع، فكشف عن غامضها الحجاب وميّز القشور عن اللّباب، وكانت حوزته تعدّ بالمئات وربّى كثيراً من العلماء..».

* السيد محمد مهدي الأصفهاني الكاظمي في موسوعته (أحسن الوديعة في تراجم مجتهدي الشيعة): «أستاذنا الآخوند ملا محمّد كاظم الخراساني كان، قدس الله نفسه الزكية وأسكنه بحابيح جنانه العلية، من أعاظم المدرّسين في الأصول وأكابر العلماء في المعقول والمنقول، وقد أودع في كتبه الشريفة ومصنّفاته اللطيفة أبكار الأفكار لم تصل إليها أيدي الفحول وقعد عنها أذهان أرباب العقول ".." وكان قدّس سرّه ذا هيبةٍ ووقَار وعزٍّ واقتدار..».

* من ترجمته في (موسوعة طبقات الفقهاء) إصدار مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: «..وللمترجم مواقف سياسية وجهادية مهمّة، أبرزها تأييد الحركة الدستورية في إيران، ومطالبة الملك القاجاري محمد علي شاه بنبذ الظلم والاستبداد، والتقيّد في إدارة شؤون البلاد بقوانين مجلسٍ نيابيّ، يراعي في المصادقة عليها الأحكام والموازين الإسلامية».

* من مقدمة تحقيق كتاب (كفاية الاصول)  لمؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث: «..أوحد علماء العصر، قطب فلك الفقاهة والاجتهاد، ومركز دائرة البحث والانتقاد، الطود الشامخ، والعلَم الراسخ، محيي الشريعة وحامي الشيعة، النحرير الأوّاه، والمجاهد في سبيل الله، خاتم الفقهاء والمجتهدين ".." فقد فاز منه [علم الأصول] بالقدَح المعلّى، وجلّ عن قول أين وأنّى، وجرى بفكرٍ صائب تقف دونه الأفكار، ونظرٍ ثاقب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، فلذا أذعن بفضله الفحول، وتلقّوه بأنعم القبول، وأظهر صحفاً هي المنتهى في التبيان..».

 

وفاته

ارتحل الآخوند الخراساني عن الدنيا قُبيل شروق الشمس من صبيحة يوم الثلاثاء 20 ذي الحجّة سنة 1329 للهجرة، بعد أن عاش عمراً حافلًا بالمآثر والمفاخر، وقد كان - رضوان الله عليه - ليلتها عازماً على الرحيل إلى إيران ليتصدّى للاحتلال الروسي هناك. حيث ألمَّ به وجعٌ مفاجئ – وكان يتهيّأ للخروج للصلاة في مرقد أمير المؤمنين عليه السلام - فأدّى النافلة والفريضة في داره، ثمّ استلقى، وأنَّ أنَّةً خفيفة، وفارقت روحه بدنه.

وشيّعتْه الجماهير المفجوعة بقلوبٍ متصدِّعة وعيونٍ دامية ونفوسٍ حسرى، حتّى مثواه الأخير، وقد رثاه الشعراء والأُدباء، وكان ممّن رثاه مُؤرّخاً وفاته الشيخ حسن رحيم بقوله:

وَفَريدٌ قدْ حَظي التُّرْبُ بِهِ         لَيْتَنا كُنّا لَهُ نَمْضي فِدا

أيْتَمَ العِلْمَ بَلِ الدّينَ مَعاً           كاظِمٌ لِلْغَيْظِ، يَنْعاهُ النَّدى

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

20/04/2015

دوريات

نفحات