أحسن الحديث

أحسن الحديث

14/06/2015

حقائقُ في الدّعاء


﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..﴾

حقائقُ في الدّعاء

____ العلّامة الطّباطبائي قدّس سرّه ____

هذا المقال في فلسفة الدّعاء، مختصَر من بحث روائيّ مفصَّل للعلّامة الطباطبائي في (تفسير الميزان)، أورده في سياق تفسيره للآية 186 من سورة البقرة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

ليس الدّعاء إبطالاً لسببيّة الأسباب الوجوديّة التي جعلها الله تعالى وسائلَ متوسِّطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجوديّة، لا عِللاً فيّاضة مستقلّة دونَ الله سبحانه.

وللإنسان شعورٌ باطنيّ بذلك، فإنّه يشعر بفطرته أنّ لحاجته سبباً مُعطياً لا يتخلّف عنه فعله، ويشعر أيضاً أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب الظاهريّة يمكن أن يتخلّف عنه أثره؛ فهو يشعر بأنّ المبدأ الذي يبتدئ عنه كلّ أمر، والرّكن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كلّ حاجةٍ في تحقّقها ووجودها، غير هذه الأسباب. ولازِمُ ذلك أن لا يركن الرّكون التامّ إلى شيءٍ من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السّبب الحقيقيّ، ويعتصم بذلك السّبب الظّاهري.

الاستجابة بين التخيُّل والنظام الفطري

والإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجُّهٍ والتفات؛ فإذا سأل أو طلب شيئاً من حوائجه فوقع ما طلبَه، كشف ذلك أنّه سأل ربّه، و[توجّه بـ] حاجته - التي شعر بها بشعوره الباطني - من طريق الأسباب إلى ربِّه فاستفاض منه. [أما] إذا طلب ذلك من سببٍ من الأسباب فليس ذلك من شعورٍ فطريٍّ باطنيّ، وإنّما هو أمر صوَّره له تخيُّله لعللٍ أوجبتْ هذا التّخيُّل من غير شعورٍ باطنيٍّ بالحاجة، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطنُ الظاهر.

ونظير ذلك: أنَّ الإنسان كثيراً ما يحبّ شيئاً ويهتمّ به، حتى إذا وقع وجده ضارّاً بما هو أنفع منه وأهمّ وأحبّ، فترك الأول وأخذ بالثاني. وربّما هرب من شيءٍ حتّى إذا صادفه وجده أنفع وخيراً ممّا كان يتحفّظ منه، فأخذ الأوّل وترك الثّاني؛ فالصّبيّ المريض إذا عُرض عليه الدواء المرّ امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصّحّة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصّحةَ فيسأل الدّواء، وإنْ كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافَه، فللإنسان في حياته نظامٌ بحسب الفهم الفطري والشعور الباطنيّ، وله نظام آخر بحسب تخيُّله.

 والنظام الفطري، لا يقع فيه خطأ ولا في سَيره خبْط. وأمّا النّظام التخيّلي فكثيراً ما يقع فيه الخطأ والسّهو، فربّما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخياليّة شيئاً، وهو بهذا السّؤال بعينه يسأل شيئاً آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرّر معنى الأحاديث، وهو اللّائح من قول عليٍّ عليه السّلام: «إنَّ العَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَة..» الحديث.

أقول: قوله: «إنَّ العَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَة» يريد عليه السّلام به: أنّ الاستجابة تطابق الدّعوة؛ فما سأله السّائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقةَ ضميره، وحملَه ظهرُ قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشفَ عنه قولُه وأظهرَه لفظُه، فإنّ اللفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة. فهي [الرواية] أحسنُ جملة، وأجمعُ كلمةٍ لبيان الارتباط بين المسألة والإجابة.

وقد بيَّن عليه السّلام بها عدّةً من الموارد التي يتراءى فيها تخلُّف الاستجابة عن الدّعوة ظاهراً: كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسؤول عنه في الدّنيا بما هو خيرٌ منه في الدّنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شيءٍ آخَر أصلح منه بحال السائل، فإنّ المؤمن المهتمّ بأمر دينه، لو سأل ما فيه هلاكُ دينه - وهو لا يعلم بذلك - ويزعم أنّ فيه سعادته، وإنّما سعادته في آخرته، فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه، فيُستجاب لذلك فيها، لا في الدّنيا.

وفي (البحار) عن عليّ عليه السّلام أنّه سمع رجلاً يقول: «اللّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتْنَةِ، قال عليه السّلام: أَرَاكَ تَتَعَوَّذُ مِنْ مَالِكَ وَوَلَدِكَ، يقولُ اللهُ تَعَالى: ﴿..أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ..﴾ الأنفال:28، وَلَكِنْ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ».

أقول: وهذا بابٌ آخر في تشخيص معنى اللّفظ، وله نظائر في الرّوايات، وفيها: أنّ الحقّ في معنى كلّ لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء والكثير وغير ذلك.

 

لا استقلالَ للوسائط في التأثير

في (عدّة الدّاعي): «قال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله لأبي ذرّ: يَا أَبَا ذَرّ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِنّ؟ قلتُ: بَلَى يَا رَسُول الله، قالَ لِي صلّى الله عليه وآله: اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرفْكَ فِي الشِّدَةِ، وإِذَا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ بِاللهِ، فَقَدْ جَرَى القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَلَوْ أَنَّ الخَلْقَ كَلّهم جَهدُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِمَا لَمْ يَكْتبْهُ اللهُ لَكَ، مَا قَدَرُوا عَلَيْه».

أقول: قوله صلّى الله عليه وآله: «تَعَرَّفْ إِلى الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرفكَ فِي الشِّدَةِ» يعني: ادعُ الله في الرّخاء ولا تنسَه حتّى يستجيب دعاءك في الشّدّة ولا ينساك، وذلك أنّ مَن نسيَ ربَّه في الرّخاء فقد أذعنَ باستقلال الأسباب في الرّخاء، ثمّ إذا دعا ربّه في الشّدّة كان معنى عمله أنّه يُذعن بالرّبوبيّة في حال الشّدّة وعلى تقديرها. وليس تعالى على هذه الصّفة، بل هو ربٌّ في كلِّ حال، وعلى جميع التقادير؛ فهو لم يدعُ ربَّه.

* وقوله صلّى الله عليه وآله: «وإِذَا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ بِاللهِ»: إرشادٌ إلى التعلّق بالله في السّؤال والاستعانة بحسب الحقيقة؛ فإنّ هذه الأسباب العاديّة التي بين أيدينا إنّما سببيّتها محدودة على ما قدَّر اللهُ لها من الحدّ، لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير، بل ليس لها إلّا الطريقيّة والوساطة في الإيصال، والأمرُ بيد الله تعالى.

فإذاً، الواجب على العبد أن يتوجّه في حوائجه إلى جناب العزّة وباب الكبرياء، ولا يركن إلى سببٍ بعد سبب، وإنْ كان أبى اللهُ أن يُجريَ الأمور إلّا بأسبابها، وهذه دعوةٌ إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلّا بالله الذي أفاض عليها السّببيّة، لا أنّها هدايةٌ إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السّبب، فهو طمعٌ فيما لا مطمعَ فيه.

كيف، والدّاعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللّسان، ويستعين على ذلك بأركان وجوده، وكلّ ذلك أسباب؟

واعتبِر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنيّة؛ فيُعطي ما يعطي بيده، ويرى ما يرى ببصره، ويسمع ما يسمع بأذنه، فمَن يسأل ربّه بإلغاء الأسباب كان كمَن سأل الإنسان أن يناوله شيئاً من غير يد، أو ينظر إليه من غير عين، أو يستمع من غير أُذن، ومَن رَكنَ إلى سببٍ من دون الله سبحانه وتعالى كان كمَن تعلّق قلبه بيد الإنسان في إعطائه، أو بعينه في نظرها، أو بأُذنه في سمعها، وهو غافل معرِضٌ عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة، فهو غافل مغفل.

وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهيّة غير المتناهية، ولا سلباً للاختيار الواجبي، كما أنّ الانحصار الذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلبَ القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعاً بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل... فافهم ذلك.

* وقوله صلّى الله عليه وآله: «فَقَدْ جَرَى القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، تفريعٌ على قوله: «وإِذَا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ»، من قبيل تعقيب المعلول بالعلّة، فهو بيانُ عِلّة قوله: «وإِذَا سَأَلْتَ» وسببُه، والمعنى أنّ الحوادث مكتوبة مقدّرة من عند الله تعالى، لا تأثير لسببٍ من الأسباب فيها حقيقةً، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعِن بغيره تعالى، وأمّا هو تعالى: فسلطانُه دائم، ومُلْكه ثابت، ومشيئته نافذة، وكلّ يومٍ هو في شأن، ولذلك عقّب الجملة بقوله: «وَلَوْ أَنَّ الخَلْقَ كلّهم جَهدُوا..».

 

الدّعاء من جملة الأسباب

ومن أخبار الدّعاء ما ورد عنهم مستفيضاً: «أنّ الدُّعاء مِنَ القَدَرِ».

أقول: وفيه جوابُ ما استشكله اليهود وغيرهم على الدّعاء: أنَّ الحاجة المدعوّ لها إمّا أن تكون مقضيّة مقدّرة أو لا، وهي على الأوّل واجبة، وعلى الثّاني ممتنعة، وعلى أيّ حال لا معنى لتأثير الدّعاء.

والجواب: أنّ فرض تقدير وجود الشّيء لا يوجب استغناءه عن أسباب وجوده، والدّعاء من أسباب وجود الشّيء، فمع الدّعاء يتحقّق سببٌ من أسباب الوجود فيتحقّق المسبّب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: «إنَّ الدُّعَاءَ مِنَ القَدَرِ»، وفي هذا المعنى روايات أُخَر.

وفي (الدرّ المنثور) أيضاً عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَوْ عَرَفْتُم اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ لَزَالَتْ لِدُعَائِكُم الجِبَال».

أقول: وذلك أنّ الجهل بمقام الحقّ وسلطان الرّبوبيّة، والرّكون إلى الأسباب، يوجبُ الإذعان بحقيقة التّأثير للأسباب، وقصْر المعلولات على عِللها المعهودة وأسبابها العاديّة، حتّى أنّ الإنسان ربّما زال عن الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب، لكن يبقى الإذعان بتعيُّن الطُّرُق ووساطة الأسباب المتوسّطة. فإنّا نرى أنّ الحركة والسَّير يوجبان الاقتراب من المقصد، ثمّ إذا زال منّا الاعتقاد بحقيقة تأثير السَّير في الاقتراب، اعتقدنا بأنّ السير واسطة، والله سبحانه وتعالى هو المؤثّر هناك. لكن يبقى الاعتقاد بتعيُّن الوساطة، وأنْ لولا السّير لم يكن قُربٌ ولا اقتراب. وبالجملة، إنّ المسبِّبات لا تتخلّف عن أسبابها وإن لم يكن للأسباب إلّا الوساطة دون التّأثير، وهذا هو الذي لا يصدّقه العلم بمقام الله سبحانه، فإنّه لا يلائم السَّلطنة الإلهيّة التامّة، وهذا التوهّم هو الذي أوجب أن نعتقد استحالة تخلُّف المسبّبات عن أسبابها العاديّة كالثقل والانجذاب عن الجسم، والقرب عن الحركة، والشّبع عن الأكل، والريّ عن الشّرب، وهكذا.

وقد مرّ في البحث عن الإعجاز أنّ ناموس العلّيّة والمعلوليّة، وبعبارة أخرى توسّط الأسباب بين الله سبحانه وبين مسبّباتها حقٌّ لا مناصَ عنه، لكنّه لا يوجب قَصْر الحوادث على أسبابها العاديّة، بل البحث العقلي النظري، والكتاب والسّنّة تُثبت أصل التوسّط وتبطل الانحصار، نعم المحالات العقليّة لا مطمعَ فيها.

إذا عرفتَ هذا علمتَ: أنّ العلم بالله تعالى يوجب الإذعان بأنّ ما ليس بمُحالٍ ذاتيّ من كلّ ما تحيله العادة فإنّ الدعاء مستجابٌ فيه، كما أنّ العمدة من معجزات الأنبياء راجعةٌ إلى استجابة الدّعوة.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/06/2015

دوريات

نفحات