الملف

الملف

14/06/2015

صلحُ الإمام الحسن عليه السلام

صلحُ الإمام الحسن عليه السلام

شهادةُ الطّفّ حَسَنيّةٌ أوّلاً، وحُسَينيّةٌ ثانياً

§        آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين* قدّس سرّه

كان صلح الحسن عليه السلام مع معاوية، من أشدّ ما لقيَه أئمة أهل البيت عليهم السلام من هذه الأمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. لقيَ به الحسن عليه السلام مِحناً يضيق بها الوُسع، لا قوّة لأحد عليها إلا بالله عزّ وجلّ. لكنه رضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً بما يبتغيه من النصح لله تعالى، ولكتابه عزّ وجلّ، ولرسوله، ولخاصّة المسلمين وعامّتهم، وهذا الذي يبتغيه ويحرص عليه في كلّ ما يأخذ أو يدَع من قول أو فعل.

ولا وزن لمَن اتّهمه بأنه أخلدَ بصُلحه إلى الدَّعة، وآثَرَ العافية والراحة، ولا لمَن طوّحت بهم الحماسة من شيعته فتمنّوا عليه لو وقف في جهاد معاوية فوصل إلى الحياة من طريق الموت! وفاز بالنصر والفتح من الجهة التي انطلق منها صِنوه يوم الطفّ إلى نصره العزيز، وفتْحه المبين.

ومن الغريب بقاءُ الناس في عشواء غمّاء من هذا الصلح إلى يومهم هذا، لا يقوم أحد منهم في بيان وُجهة الحسن عليه السلام في صلحه، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيّناتها، عقلية ونقلية، وكم كنت أحاول ذلك، لكنّ الله عزّ وجلّ شاء بحكمته أن يختصّ بهذه المأثرة مَن هو أولى بها، وأحقّ بكلّ فضيلة، ذلك هو مؤلّف هذا السِّفر البِكر (صلح الحسن عليه السلام). ".."

ومَن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، من أحوال الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، علم أنهما لم ترتجِلهما المعركة ارتجالاً، وإنما كانا في جبهتَيهما خليفتَين، استخلفهما الميراث على خُلُقَين متناقضَين: فخُلق الحسن عليه السلام إنّما هو خُلق الكتاب والسنَّة، وانْ شئتَ فقل: خلُق محمّدٍ وعليٍّ صلوات الله عليهما.

 وأما خُلق معاوية، فإنّما هو خُلق (الأمويّة)، وان شئتَ فقل: خلُق أبي سفيان وهند، على نقيض ذلك الخُلق. والمتوسّعُ في تاريخ البيتَين وسيرة أبطالهما من رجال ونساء يدركُ ذلك بجميع حواسّه. لكن لمّا ظهر الاسلام، وفتح الله لعبده ورسوله فتحَه المبين، ونصره ذلك النصر العزيز، انقطعتْ نوازي الشرّ (الأموي)، وبطلت نزَعات أبي سفيان ومن إليه مقهورةً مبهورة، متواريةً بباطلها من وجه الحقّ الذي جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله عن ربه عزّ وجلّ، بفُرقانه الحكيم، وصراطه المستقيم، وسيوفه الصارمة لكلّ من قاومه. وحينئذٍ لم يجِد أبو سفيان وبنوه ومَن إليهم بدّاً من الاستسلام، حقناً لدمائهم المهدورة يومئذٍ لو لم يستسلموا، فدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقلوبهم تنغلُ بالعدواة له، وصدورهم تَجيش بالغلّ عليه، يتربّصون الدوائر بمحمد صلّى الله عليه وآله ومَن إليه، ويبغون الغوائلَ لهم.

لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان - مع علمه بحالهم - يتألّفهم بجزيل الأموال، وجميل الأقوال والأفعال، ويتلقّاهم بصَدرٍ رَحْبٍ، ومُحيّا منبسط، شأنه مع سائر المنافقين من أهل الحقد عليه، يبتغي استصلاحَهم بذلك. وهذا ما اضطرّهم إلى إخفاء العداوة له، يَطوون عليها كَشْحَهم خوفاً وطَمَعاً، فكاد الناس بعد ذلك ينسون (الأمويّة) حتّى في موطنها الضيّق: مكّة.

أما في ميادين الفتح بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلم تعرَف (الأمويّة) بشيء، سوى أنّها من أُسرة النبيّ ومن صحابته. ثمّ أُتيح بعد النبيّ لقوم ليسوا من عِترته، أن يتبّوؤا مقعده، وأُتيح لمعاوية في ظلّهم أن يكون من أكبر ولاة المسلمين، أميراً من أوسع أمرائهم صلاحيةً في القول والعمل. ومعاويةُ إذ ذاك يتّخذ بدهائه من الإسلام سبيلاً يزحف منه إلى المُلك العضوض، ليتّخذ به دينَ الله دَغَلاً، وعباد الله خَوَلاً، ومال الله دُوَلاً، كما أنذر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان ذلك من أعلام نبوّته.


تأريخ التمهيد للأمويّة

نشط معاوية في عهد الخليفتَين الثاني والثالث، بإمارته على الشام عشرين سنة، تمكّن بها في أجهزة الدولة، وصانعَ الناس فيها وأطمَعهم به، فكانت الخاصّة في الشام كلّها من أعوانه، وعَظُم خطرُه في الإسلام، وعُرف في سائر الأقطار بكونه من قريش - أُسرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأنه من أصحابه، حتّى كان في هذا أشهرَ من كثيرٍ من السابقين الأوّلين الذين رضيَ الله عنهم ورضوا عنه، كأبي ذر وعمّار والمقداد وأضرابهم.

هكذا نشأت (الأموية) مرّةً أخرى، تغالب الهاشميّةَ باسم الهاشميّة في علَنِها، وتكيدُ لها كيدَها في سرّها، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدعُ العامّة بدهائها، وتشتري الخاصّة بما تُغدقه عليهم من أموال الأمّة، وبما تُؤْثِرهم به من الوظائف التي ما جعلها الله للخَونة من أمثالهم، تستغلّ مظاهر الفتح وإحراز الرضا من الخلفاء.

حتّى إذا استتبّ أمر (الأمويّة) بدهاء معاوية، انسلّت إلى احكام الدين انسلالَ الشياطين، تدسّ فيها دسَّها، وتُفسد إفسادها، راجعةً بالحياة إلى جاهلية تبعثُ الاستهتارَ والزندَقَة، وفقَ نهجٍ جاهليّ، وخطّةٍ نفْعية، ترجوها (الأموية) لاستيفاء منافعها، وتًسخّرها لحفظ امتيازاتها. والناس - عامّة - لا يفطنون لشيء من هذا، فإنّ القاعدة المعمول بها في الإسلام - أعني قولهم: الإسلام يَجُبُّ ما قبله - ألقت على فظائع (الأموية) ستراً حجبَها، ولا سيّما بعد أنْ عفا عنها رسول الله وتألّفَها، وبعد أن قرّبَها الخلفاء منهم، واصطفوها بالولايات على المسلمين، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم. فسارت في الشام سيرتَها عشرين عاماً: ﴿.. لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ..﴾ (المائدة:79) ولا يَنهون. وقد كان الخليفة الثاني عظيمَ المراقبة لعمّاله، دقيقَ المحاسبة لهم ".." لكنّ معاوية كان أثيرَه وخلّصَه.. ما كفَّ يده عن شيء ولا ناقشَه الحساب في شيء، وربّما قال له: (لا آمرُك ولا أنهاك)، يفوّض له العملَ برأيه. وهذا ما أطغى معاوية، وأرهف عزمَه على تنفيذ خططه (الأموية). وقد وقف الحسن والحسين عليهما السلام من دهائه ومكره إزاء خطر فظيع، يهدّدالإسلام باسم الإسلام، ويطغى على نور الحقّ باسم الحقّ، فكانا في دفع هذا الخطر، أمام أمرَين لا ثالث لهما: إما المقاومة، وإما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن عليه السلام تؤدّي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلى الله عزّ وجلّ، وإلى صراطه المستقيم. إذ لو غامر الحسن عليه السلام يومئذٍ بنفسه وبالهاشميّين وأوليائهم، فواجه بهم القوّة التي لا قِبَلَ لهم بها مصمّماً على التضحية، تصميمَ أخيه يوم (الطفّ)، لانكشفت المعركة عن قتلِهم جميعاً، ولانتصرت (الأمويّة) بذلك نصراً تعجز عنه إمكانياتها، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأمنياتها. إذ يخلو بعدهم لها الميدان، تُمعن في تيهها كلّ إمعان، وبهذا يكون الحسن عليه السلام - وحاشاه - قد وقع فيما فرّ منه على أقبح الوجوه، ولا يكون لتضحيته أثر لدى الرأي العام إلا التنديد والتفنيد.

ومن هنا رأى الحسن عليه السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو إليه من المُلك، لكنْ أخذ عليه في عقد الصلح، أن لا يعدو الكتاب والسنّة في شيءٍ من سيرته وسيرة أعوانه ومقوّية سلطانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنبٍ أذنبَه مع الأموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن. إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عليه السلام عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيء منها، وأنه سيقوم بنقائضها.

هذا ما أعدّه عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه (الأموي) المموّه، ولصَهر الطِّلاء عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرزَ حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأموية) كما هم: جاهليّين، لم تخفق صدورُهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمُه شيئاً من أحقاد بدر وأُحد والأحزاب.

وبالجملة، فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفةٌ في سِلم لم يكن منه بدّ، أملاه ظرفُ الحسن عليه السلام، إذ التبسَ فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرة مسلّحة ضارية.

 

يومُ ساباط، ويوم الحُدَيبيَة

ما كان الحسن عليه السلام ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه. فهو كغيره من أئمة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه. امتُحن بهذه الخطّة فرضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً طاهراً، لم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدْلَهِمّات ثيابها. أخذ هذه الخطة من صلح (الحديبية) فيما أُثر من سياسة جدّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وله فيه أُسوَةٌ حَسَنة، إذ أنكرَ عليه بعضُ الخاصّة من أصحابه، كما أنكر على الحسن عليه السلام صلحَ (ساباط) بعضُ الخاصّة من أوليائه، فلم يهِن بذلك عزمُه، ولا ضاقَ به ذَرعُه. وقد ترك هذه الخطّة نموذجاً صاغَ به الأئمّة التسعة - بعد سيدَي شباب أهل الجنة - سياستَهم الحكيمة، في توجيهها الهادئ الرصين، كلّما اعصوصبَ الشرّ. فهي إذاً جزءٌ من سياستهم الهاشميّة الدائرة أبداً على نُصرة الحقّ، لا على الانتصار للذات فيما تأخذُ أو تدَع.

تهيّأَ للحسن عليه السلام بهذا الصلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثورُ عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أن يُلغِم نصر الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرَها جفاءاً، وريحاً هباءاً. لم يطُل الوقت حتّى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يومَ نشوته بنصره، إذ انضمّ جيش العراق إلى لوائه في النُّخَيلة. فقال - وقد قام خطيباً فيهم: (يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتُصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتُزكّوا، ولا لتَحجّوا، وإنما قاتلتكم لأَتَأَمّر عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلك وأنتم كارهون! ألا وإنّ كلّ شيءٍ أعطيتُه للحسن بن عليّ، جعلتُه تحتَ قدميَّ هاتَين)! فلمّا تمّت له البيعة خطبَ فذكر عليّاً عليه السلام فنالَ منه، ونالَ من الحسن عليه السلام، فقام الحسين عليه السلام ليَرُدَّ عليه، فقال له الحسن عليه السلام: (عَلَى رَسْلِكَ يَا أَخِي). ثمّ قام عليه السلام فقال: (أَيُّهَا الذّاكِرُ عَلِيَّاً! أَنَا الحَسَنُ وَأَبِي عَلِيٌّ، وَأَنْتَ مُعَاوِيَةُ وَأَبُوكَ صَخْرٌ، وَأُمّي فَاطِمَةُ وَأُمُّكَ هِنْد، وَجِدّي رَسُولُ اللهِ وَجَدُّكَ عُتْبَة، وَجَدّتِي خَدِيجَة وَجَدَّتُكَ فَتِيلَة، فَلَعَنَ اللهُ أَخْمَلَنَا ذِكْرَاً، وَأَلْأَمَنَا حَسَبَاً، وَشَرَّنَا قَدِيمَاً، وَأَقْدَمَنَا كُفْرَاً وَنِفَاقَاً)! فقالت طوائفُ من أهل المسجد: (آمين).


معاوية يتوّج مُنكراته بتنصيب ابنه الماجن

ثمّ تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يخالف الكتاب والسّنّة من كلّ مُنكَرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهَتْكَاً للأعراض، وسَلْبَاً للأموال، وسَجناً للأحرار، وتشريداً للمُصلحين، وتأييداً للمُفسِدين الذين جعلَهم وزراءَ دولته، كابن العاص، وابن شُعبة، وابن سعيد، وابن أرْطَأة، وابن جندب، وابن السّمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عُقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعيّ عُبيد، وألحقَه بالمُسافح أبيه أبي سفيان ليجعلَه بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يَسومُهم سوءَ العذاب، يذبّحُ أبناءَهم، ويَستحيي نساءَهم، ويفرّقهم عباديدَ تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يَأْلو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق. ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المَهتوك على رقاب المسلمين، يَعيثُ في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطفّ، ويوم الحَرّة، ويوم مكَة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق! هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتُلائم كلّ الملاءمة فاتحةَ أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغطُ شدائد، وتدور خطوب، وتزدحم مِحَن، ما أدري كيف اتّسعت لها مسافة ذلك الزمن، وكيف اتّسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي - في الحقّ - لو وُزّعت على دهرٍ لضاقَ بها، وناءَ بحملها، ولو وزّعت على عالَمٍ لكان جديراً أن يحول جحيماً لا يُطاق. ومهما يكن من أمر، فالمهمّ أنّ الحوادث جاءت تفسّر خطّة الحسن عليه السلام وتجلوها. وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أن يرفع اللّثام عن هؤلاء الطغاة، ليحولَ بينهم وبين ما يُبيّتون لرسالة جدّه من الكيد. وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء، والحمد لله ربّ العالَمين.


ثورة الطّفّ

وبهذا استتبّ لصِنوه سيّد الشهداء عليه السلام أن يثور ثورته التي أوضح اللهُ بها الكتاب، وجعله فيها عبرةً لأولي الألباب. وقد كانا عليهما السلام وجهَين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخرَ في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها. فالحسن عليه السلام لم يبخلْ بنفسه، ولم يكن الحسين عليه السلام أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادةً حَسَنيّة، قبل أن تكون حُسينيّة. وكان يوم ساباط أعرقَ بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أُولي الألباب ممّن تعمّق. لأنّ الحسن عليه السلام، أُعطي من البطولة دورَ الصابر على احتمال المكاره في صورةِ مُستَكينٍ قاعد. وكانت شهادة (الطفّ) حَسنيّة أولاً، وحسينيّة ثانياً، لأن الحسن عليه السلام أنضجَ نتائجها، ومهّد أسبابها.

كان نصرُ الحسن عليه السلام الدامي موقوفاً على جِلو الحقيقة التي جلاها - لأخيه الحسين - بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين عليه السلام نصره العزيز، وفتح الله له فتحه المبين. وكانا عليهما السلام كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أن يكون للحسن عليه السلام منها دورُ الصابر الحكيم، وللحسين عليه السلام دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدّورَين خطّة كاملة ذات غرَض واحد.


فضحُ الأمويّة على حقيقتها

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطفّ - يُمعنون في الأحداث فيرون في هؤلاء الأمويّين عصبة جاهليّة منكَرة، بحيث لو مُثّلت العصبيّات الجِلفة النّذِلة الظَّلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونَهم في الخطر على الإسلام وأهله. رأى الناس من هؤلاء الأمويّين، قردةً تَنزو على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، تكشِّر للأمّة عن أنياب غول، وتصافحها بأيدٍ تمتدّ بمخالب ذئب، في نفوس تدبّ بروح عقرب. رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة، لم تخفّف من شرها التربية الاسلامية، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمديّة. فمضغُ الأكباد يوم هند وحمزة، يرتقي به الحقد الأموي الأثيم، حتّى يكون تنكيلاً بربريّاً يوم الطفّ، لا يكتفي بقتل الحسين عليه السلام، حتّى يُوطئ الخيل صدَره وظهرَه. ثمّ لا يكتفي بذلك، حتى يُترك سليباً بالعراء، لوحوش الأرض وطير السماء، ويُحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه على أطراف الأسِنّة إلى الشام. ثمّ لا يكتفي بهذا كلّه، حتّى يُوقف حرائر الوحي من بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله على دَرَجِ السَّبي!!!

رأى الناس الحسن عليه السلام يُسالم، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة، حتّى دسّ معاوية إليه السّمّ فقتله بَغياً وعدواناً. ورأوا الحسين عليه السلام يثور في حين أُتيح للثورة الطريقُ إلى أفهامهم تتفجّر فيها باليَقظة والحرية، فلا تقِفُ الوحشية الأموية بشيء عن المظالم، بل تبلغ في وحشيّتها أبعدَ المدى.

وكان من الطبيعيّ أن يتحرّر الرأي العام على وهج هذه النار المحرقة منطلقاً إلى زوايا التاريخ وأسراره، يستنزلُ الأسباب من هنا وهناك بلَمعان ويقظَة، وسيرٍ دائبٍ يُدنيه إلى الحقيقة، حقيقة الانحراف عن آل محمّد صلّى الله عليه وآله، حتّى يكون أمامها وجهاً لوجه، يسمعُ همسَها هناك في الصدر الأوّل، وهي تسارّ وراءَ الحجب والأستار، وتدبّر الأمر في اصطناع هذا (الداهية الظَّلوم الأموي) اصطناعاً يُطفئ نور آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، أو يحولَ بينه وبين الأمّة.

نعم! أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين عليهما السلام، وحِكمة تدبيرهما كلّ خافيةٍ من أمر (الأموية)، وأمور مسدّدي سَهمِها على نحوٍ واضح. أدرك - فيما يتّصل بالأمويين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عداءٍ مستحكم، ضرورة أنه إذا كان المُلك هو ما تهدف إليه الأموية، فقد بلغه معاوية، وأتاح له الحسن عليه السلام، فما بالها تلاحقُه بالسّمّ وأنواع الظلم والهَضْم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصلَ شأفتَهم وتقتلع بذرتَهم؟!... وإذا كان المُلك وحدَه هو ما تهدف اليه الأموية، فقد [قُتل] الحسين عليه السلام، وتمّ ليزيد ما يريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنما تسرف أقسى ما يكون الإسراف والإجحاف في حركة من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهَد في تاريخ الجزّارين والبرابرة؟؟..

أمّا ما أنتجته هذه المحاكمة لأُولي الألباب، فذلك ما نترك تقديره وبيانه للعارفين بمنابع الخير، ومطالع النور في التاريخ الإسلامي، على أنّا فصّلناه بآياته وبيّناته في مقدّمة (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) فليُراجع، ولنَكتفِ الآن بالإشارة إلى ما قلناه في التوحيد بين صلح الحسن وثورة الحسين عليهما السلام، والتعاون بين هذَين المظهرَين، على كشف القناع عن الوجه الأمويّ المظلِم، والإعلان عن الحقيقة الأموية، فأقول عوداً على بدء: كانت شهادة الطفّ حَسنيّةً أولاً، وحُسينيّةً ثانياً. وكان يوم ساباط، أعرقَ بمعاني الشهادة والتضحية من يوم الطّفّ عند مَن تعمّقَ واعتدلَ وأنصف.

حُرّر في صور (جبل عامل).

في الخامس عشر من رجب، سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة.

عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي. 

* مقدّمته على كتاب (صلح الإمام الحسن عليه السلام) للشيخ راضي آل ياسين

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/06/2015

دوريات

نفحات