بسملة

بسملة

14/09/2015

وماذا بعد الحجّ..؟


وماذا بعد الحجّ..؟

بقلم: الشّيخ حسين كوراني

«وَلَيلَةَ القَدْرِ وَحَجَّ بَيتِكَ الحَرامِ،
 وَقَتْلاً فِي سَبيلِكَ فَوَفِّقْ لَنَا».
من دعاء الافتتاح

قبلَ الحجّ: طيلةَ ليالي شهر رمضان، يتلو المؤمنون نشيد «دعاء الافتتاح»، ويردّدون اللّازمة وبيت القصيد: «وَلَيْلَةَ القَدْرِ وَحَجَّ بَيْتِكَ الحَرامِ وَقَتْلاً فِي سَبِيلِكَ فَوَفِّقْ لَنا، وَصَالِحَ الدُّعاءِ وَالمَسْأَلَةِ فَاسْتَجِبْ لَنا».

في ليلة القدر تُكتب أسماء «وفد الحاجّ».

 يُطِلُّ شهرُ ذي الحجّة. يعمرُ الحَجيجُ المواقيت. يرتسم مشهدان:

* يخلعون «الدّنيا» التي اشتبكوا بها للضّرورة فأفرطوا، وحملوها على أعناقهم بدل أن تحملهم إلى الحياة الطّيبة «العُليا» في الدّارين.

* يردّد الجمع: «لَبَّيْكَ اللّهُمّ لَبَّيك»، تجديداً للبيعة وعقد البيع: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى..﴾.

وتبدأ رحلة الحجّ بمعناه الذي يشمل «العُمْرَة».

***

في الحجّ: أمّا الظّاهر فرداءان. بصعوبةٍ يستران الجسد. إشعاراً ببساطة العيش متماهياً مع مبدأ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...﴾ وإصحاراً بالثّورة على احتلال الغريزة حصون العقل، بُغيةَ التّحرّر من أَسْر المظاهر وعبادة الهوى ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...﴾؟!

تنطلق أفواج «الوفد» إلى مركز التّظاهرة والعَولَمة، متخفِّفةً من أثقال الفوارق والتّمايز، متحررّةً من جبال أوهام «الأنا»، مترنِّمةً بلسان الفطرة: «إِنَّ الحَمْدَ وَالنَّعْمَةَ لَكَ لَا شَرِيْكَ لَكَ لَبَّيْكَ».

يدخلُ الوفدُ من «الحِلّ» إلى «الحَرَم» تثبيتاً لمبدإ حرّيّة الاختيار ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾، وإثارةً لدفائن «عقد البيع» الذي ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾.

ينتظم الجمع في مسيرة التّوحيد حول رمزه: ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، ﴿ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾، و﴿مَثَابَةً﴾، و﴿أَمْنًا﴾.

الإطار والمناخ «نَظْمُ الأَمْر» في ظلّ حاكميّة «الهُدى الإلهيّ»، لا الصَّنْدَقة ولا التّعليب في قوالب تنظيمٍ حديديّ لا يقوم إلّا على تَشيئة ﴿بَنِي آَدَمَ﴾ واستعبادهم.

نَظْمُ الأمر - في الجوهر- ضوابطُ مَرِنَة، يتّسع فيها هامش «الاستحباب» رعايةً للخصوصيّة، مع وضوح الحدود التي تقفُ عندها الأهواءُ والميول.

بين مرونة الضّوابط وتثبيت الحدود مساحة «أداء الواجب» بالتّناسب مع قاعدة «الطُّرُقُ إِلَى اللهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الخَلَائِقِ».

الطّوافُ تثبيتُ «الميثاق»، والسّعيُ تدريبٌ على الوفاء بالعهد مهما بعُدت الشُّقّة، وتَكَأَّدَت الصِّعاب.

ختامُ العُمرة رمزيّة البَذل من شعر الرّأس أو الشّارب وما قلّ، تأسيساً لثقافة التّضحية بالنّفس لحراسة العدل والعقل.

***

بانتهاء العُمرة، تبدأ مرحلة ما بين البعثَين: البعثِ إلى العمرة، والبعث إلى الحجّ. إشارةً إلى البعثَين: في الدّنيا.. وفي الآخرة، وتظهير ما بينهما.

مجدَّداً يخلع الوافد الضَّيْف «الدّنيا»، ليرتدي «ثوبَي الإحرام» عنها وعن كلّ ما يشدّ إليها خارج مضمار السّبق إلى أعلى القِمَم والقِيَم.

تتّخذ المناسك هذه المرّة بُعداً مختلفاً، تَشييداً على ما سبق.

لئن كانت العُمرة «الزّيارة التي فيها عِمارة الوُدّ» - كما تعرّفها اللّغة - فإن الحجّ هو «القَصد». سلامةُ القصد هي نيّة «القُربة». إخلاص التّقرّب تصحيح النّيّة، ترشيدُ الإرادة والاختيار، وترسيخُ العَزْم، وبيتُ القصيد.

هذه المعارج علمٌ وعمل. «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه: لَا قَوْلَ إِلّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ إِلّا بِنِيَّةٍ، وَلَا عَمَلَ وَنِيَّة إِلّا بِإِصَابَةِ السُّنَّةِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلَافِ أُمَّتِي كَانَ لَهُ أَجْرُ مائَةِ شَهِيدٍ».

هذه «عرَفات».. اعترافٌ ومعرفة، مُتلازمان كالباب والبيت. مَن عرفَ بالفقر والمحدوديّة والعجز نفسَه، أمكنَه أن يعبدَ الله وإلّا فهو عبدُ هَواه.

إعترف لتبدأ رحلةَ المعرفة.

﴿.. كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ..﴾. من الوافدين من نَمَتْ بذرةُ التّوحيد في فطرته بين زحام الرّكام. منهم من سدَّ الحجرُ والمَدَرُ والتّرابُ الكثيب المَهيل كلَّ المساربِ والمآرب.

كلٌّ يُزيل الرّكام بحسبه. طوبى لمن كان - أو بلغ - حيث لا تعرف أرضُ فطرته الحُزونة. سهُل كالسَّهل، فخَبُت كالخبْت، مطمئنٌّ بذكر الله قلبُه. يمشي على الأرض هَوْناً. إذا خاطبه الجاهلون قال سلاماً.

اعترفَ فخلع أناه، فاللهُ هواه. «لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ». «عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَراكَ عَلَيْهَا رَقِيبَاً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبَاً».

***

في المشعر الحرام، حديث المشاعر المُحْرِمَة - بعرفات - عن لَوثة الغريزة والهَوى «كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا».

﴿.. فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾.

يَتماهى الذِّكْرُ مع «التّذخير» وإعداد سلاح «الرّمْي»!

الحجّ إعجازُ تَوأمةٍ ومزْجٍ محبَّبٍ بين العقل والقلب. بين العلم والعمل. بين الغَيب والشّهادة. بين المحراب وساحة الحرب. بين الحبّ وصَونِه من «الأغيار». بين التّقوى وإعمار الأرض المَمرّ الحصريّ. بين الزّهد وإقامة العدل.

في الطّواف تَعاهدُ «الميثاق».

في «عرفات» تَلاطُمُ أمواج الحبّ في ذُرى ﴿.. صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ..﴾.

يَلي عرفات «الموقف» وله اسمٌ ثلاثيُّ اللّفظ والدّلالة: «المَشعر الحرام»، «جَمْع»، «مُزْدَلِفَة».

في «المَشعر الحرام» صياغةُ المشاعر «السّلَم». «جمْع» النّظريّة والتّطبيق. تجلِّي «أنا» الجَمع. تشفُّ في بحرها «أنا» الفرد وتَدِقُّ، حتّى لا تكاد تُرى.

خلاصة هذا الشّوط: معرفة، واعتقاد، وأنينٌ، وحنينٌ، وتَوثُّب.

ما تقدّم تأهيلٌ للشوط التّالي: ازدلافُ العارف المحبّ المتوثّب من «مُزدلِفة» إلى سوح الكدح والجهاد، وتسديد الحواسّ، وتصويب «الرّمْي» في صراط البّذل من «شِقّ تَمْرَة» إلى نَحر «النّفس الأمّارة» في مدارج التّضحية بالنّفس المطمئنّة لترجع إلى ربّها ﴿.. رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾.

علامةُ سلامةِ السّعيِ وصدقِ نيّة التّقرّب - الأبرز وفي الغالب - «قَتْلَاً فِي سَبِيلِكَ». المآلُ والمنتهى ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾.

***

ماذا بعدَ الحجّ؟ إنْ كان الوافدُ إلى البيت الحرام قد أنجزَ - بالحجّ - الفصلَ بين اشتباكين، اشتباكٍ بالدّنيا، وادّعاء الاشتباك بشؤون الآخرة، فالسّؤال:

أمام غمرات الاشتباك بالدّنيا مجدّداً، هل تصمدُ الحصيلة الرّوحيّة التي عاد بها «ضيفُ الرّحمن»؟

الحَجُّ قصدٌ. الحاجّ مَن بلغ المقصد. زادُ القاصد عَزْمُ إرادة، وصِدقُ نيّة، وتحديدُ الهدف.

هدفُ الحاجّ قبل الحجّ وفيه وبعده، حقُّ التّوحيد. هو رهنُ حِفظ وصيّة سيّد النّبيّين. «كِتَاب اللهِ وَعِتْرَتِي».

﴿.. لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ..﴾.

للّذين هَداهم اللهُ فاستقاموا على الطّريقة والقصدِ علامتان: الصّبر، والصّلاة:

﴿..وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾.

﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.

﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.

واجبان مركزيّان يجبُ التّوفّر عليهما بعد الحجّ بعناية بالغة:

* التّدريبُ على الصّبر، للتّدرّج في مَراقي الإنسانيّة وكمالها. «الصَّبْرُ مِنَ الإِيْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، فَمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ لَا إِيْمَانَ لَهُ»!!

* أداءُ صلاة الصّبح عندَ الفجر، لِيُتاحَ أداءُ باقي الصّلوات أوّلَ وقتها، ولا يبقى عمودُ الدّين منقوصاً. صلاةُ الصّبح أوّل وقتها قاعدةُ عمودِ الدِّين. لا يكتملُ العمَد إلّا بالقاعدة.

لا سبيلَ إلى هذه القِمم إلا بالدّعاء. ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..﴾.

لا ضمانةَ لاستجابة الدّعاء إلا بالتّوسّل: ﴿.. وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ..﴾.

ليس بعد الحجّ إلّا اليقين بمفتاحيّة الصّبر والصّلاة، ومدماكُها الأوّل: صلاة الصّبح أوّلَ وقتِها عندَ الفَجر.

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

14/09/2015

دوريات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات