الملف

الملف

09/12/2015

الفرق بين المعجزة والكهانة

 

الفرق بين المعجزة والكهانة

_____ العلّامة السيّد حسن الحسيني اللواساني _____

 

اعلم أنّه لا بدّ في ثبوت النبوّة ومعرفة صدق المدّعي لها من حجّة واضحة، وبرهان قاطع «وحجّة النبيّ في دعواه» ظهورُ «معجزة» على يده «تُعجز من سواه» عن المعارضة بمثلها.

ويُشترط في تميّزها عن السحر والكهانة وأمثالهما من الأباطيل أُمور خمسة:

أحدها: أن لا يكون إبداعها بالبحث والتعلّم والفكر والتجارب كما في الآلات المخترعة في هذه الأعصار للحروب الدامية، أو لاستماع الأخبار من البلاد النائية، أو للسفر إلى الأقطار البعيدة في الجوّ والبرّ والبحر، ظهراً وبطناً؛ فإنّها ليست بمعجزة.

ثانيها: دعوى النبوّة من مبدعها (مدّعيها). وبذلك يحترز من الخوارق الّتي تظهر على أيدي السحرة والكهنة وأمثالهم. وأنّ من فضل الله تعالى ولطفه بعباده منعَ أُولئك الفسقة عن دعوى تلك المنزلة الرفيعة. كما أنّ رحمته سبحانه منعت عن ظهور الخوارق على يد المدّعي الكاذب.

ولو أنّ المبدع لها أشرف على تلك الدعوى، لامتنع عليه ظهورها. ولعلّ بعضهم علم ذلك فامتنع عن دعوى النبوّة.

ثالثها: مطابقتها للدعوى أو لما يُقترح عليه، فلو كانت مخالفة لذلك لم تكن بمعجزة، كما يُحكى مثل ذلك عن مسيلمة الكذّاب عندما سألوه مسْح يده على عين أرمد للشفاء، ولمّا أجابهم إلى ذلك عميت العين بمسحه من وقته وساعته. وسألوه أيضاً لمعارضة معاجز النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن يبصق في بئر قليل النبع حتّى يكثر نبعها ويفيض ماؤها، فلمّا أجابهم إلى ذلك وبصق فيها يبست من حينها، وغار ما كان فيها من الماء القليل.

رابعها: أن تكون [المعجزة] مقرونة بالمغالبة والتحدّي، فيستشهد بها المدّعي على نبوّته، وإلاّ فلا عبرة بغيرها من الخوارق على تقدير ظهورها على يده. ولقد أجاد السيّد [محمّد باقر الطباطبائي] رحمه الله في الإشارة إلى تلك الشروط كلّها في بيت واحد بقوله:

«فمن أتى بخارق يطابق» دعواه مع كون ما أتى به «تحدّياً فهو النبيّ الصادق». فإنّ لفظ «أتى» باعتبار أفراده ربّما يستفاد منه كون فاعله منفرداً في إبداعه، من غير اشتراك أحد معه بالبحث والتعليم، كما ربّما يستفاد منه أيضاً كون الإتيان به ارتجالياً من غير سبق تروّ منه ولا تجربة.

خامسها: أن لا يوجد في عصره من يعمل مثل عمله، أو يأتي بخارق مثل «ما» أتى به. و«لم يجد معارضاً فيبدي» من المعاجز «نظيره، ويبطل التحدّي» منه.

ولا يذهب عليك أنّ «ميز أهل الفنّ» من السحر والكهانة «أولى مائز» وأصدق شاهد على الفرق «بين فنون السحر والمعاجز» فإنّهم أسرع إدراكاً، وأدقّ نظراً في التمييز بينها. أما بلغك إيمان سحَرة فرعون بمعجزة الكليم عليه السلام، من حين ظهورها سريعاً بلا تروّ ولا شكّ ولا التماس دليل منه عليه السلام ولا برهان؟

وعليه، فالشروط المذكورة إنّما تكون أدلّة تميّز لغيرهم ممّن لا يعرف الفرق بين السحر والمعجزة «وهو» أي السحر كما عرفت «مع الدعوة» النبوية «لا يجتمع» بمنع تكوينيّ منه تعالى رحمةً منه على عبيده «فإنّ لطف الله منه يمنع» حيث إنّ مقتضى لطفه بهم المحافظة على نواميسه المقدّسة عن مماثلة الباطل لها.

فيجب عليه سبحانه المنع عن صدور الخوارق على يد المدّعي الكاذب؛ دفعاً لمحذور الإغراء بالجهل، ثمّ محذور نقض الغرض، لوضوح قبحهما ثمّ وضوح براءة ساحة قُدسه تعالى عن كلّ قبيح كما عرفت فيما تقدّم "..".

 

إثبات رسالة نبيّنا الأعظم محمّد الخاتم صلّى الله عليه وآله المعصومين

والكلام في ذلك في مقامين:

المقام الأوّل في وجوده وظهوره في عصره ودعواه النبوّة، وذلك لا يحتاج إلى بسط مَقال، أو إقامة برهان، بعد إطباق الملل، واتّفاق كلمة الكلّ على ذلك على اختلافهم في الأديان، وتشتّتهم في الأقطار.

وإن أنكر كثير منهم نبوّته كطوائف اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة وعبدة الأصنام وسائر فرق الكفّار من المشركين والمُلحدين، ولكن لم يختلف اثنان منهم في أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في العصر الكذائي وادّعى النبوّة لنفسه، وتبعه جماعة من قومه، وأنّ بلوغ ذلك فوق حدّ التواتر الموجب للعلم القطعي لمِن أوضح الواضحات.

المقام الثاني في إثبات نبوّته صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنقول:

لا شبهة عندنا أنّ الله تعالى «ربّ الورى» أرسل بالنبوّة «سيّد الورى» وأشرف أهل الأرض والسماء «إلى الورى» كافّة من الجنّ والإنس، وكلّ من يليق أن يبعث إليه رسول.

وإنّما بعثه إليهم «مبشّراً» للمطيع منهم بالنعيم «ومنذراً» للعاصي منهم بالجحيم. وهو «محمّد خير نبيّ مرسل» بإجماع فرق المسلمين عامّة.

وقد «أرسله» الله تعالى «مع الكتاب المنزل» من لدنه سبحانه، وهو الفرقان الّذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصّلت:42.

وكان ذلك «في فترة» وانقطاع من الرسل، بحيث «دارت رحى الجهالة» بين الخلائق «فيها» أي في تلك الفترة «فعمّت الورى» بأجمعهم «ضلالة» شديدة، وكفر عظيم. وذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ..﴾ المائدة:19.

وطول المدّة بين بعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين ارتفاع المسيح عليه السلام بما يقرب من 600 سنة، والناس «قد عكفوا فيها» أي أقاموا «على» عبادة «الأوثان»، مأخوذ من قوله تعالى: ﴿..يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ..﴾ الأعراف:138، «وأعرضوا» جلّهم بل كلّهم «عن طاعة الرحمن»، إلى أن بلغوا في الجهل والضلال مرتبة الوحوش والبهائم والأنعام، بل صاروا أضلّ منهم في الظلم والطغيان.

ومن الواضح أنّ هداية مثلهم إلى الحقّ والإيمان برفض العادات القبيحة، وترك ما انتشأوا عليه خَلَفاً عن سَلَفٍ، من ارتكاب الفواحش المنكرة، وترك ما اختمرت عليه طبائعهم من الأخلاق السيّئة الرديئة، وتبديلها بالمكارم الحسنة الجيّدة، أشقّ وأصعب من هداية مَن سبقهم من الأُمم السالفة أُولي الألباب، وأرباب الكتب والأديان.

«فقام فيهم» ذاك النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على وحدته ويُتمه وقلّة ذات يده من حطام الدنيا، «داعياً» لهم إلى الله تعالى «برفق» من البيان، من غير غلظة في الخطاب، ولا تخويف لهم بالعشيرة والقوّة، ولا تطميع لهم في الزخارف الدنيوية.

وأخذ «يهديهم إلى سبيل الحقّ» ولم يألُ جهداً في وعظهم وإرشادهم، وتعليمهم المعارف الدينية، والعلوم الحقّة الإلهية. وهو، صلّى الله عليه وآله وسلّم، أُمّي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلّم لدى معلّم غير ربّه الأعلى تبارك وتعالى.

وقد علمت الأُمم كلّهم ذلك لم ينكره أحد منهم، وعلموا أيضاً أنّ قومه لم يألوا جهداً في تكذيبه وسبّه وضربه وطرده، والسعي في قتله وهلاكه، وهم فراعنة العرب وأصحاب العدّة والعدد. فلم يُثنِه عن عزمه شيء من ذلك، ولم يثبّطه عن دعوته لهم أذاهم وقبائح أفعالهم، ولم يزل مُجدّاً في عمله غير خائف من سطواتهم، ولا هارباً ولا جزعاً عند مهاجماتهم عليه. ثمّ أتى على طبق دعواه بمعاجز شتّى كثيرة، كانشقاق القمر بإشارته، وسَيره في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وغير ذلك ممّا هو مذكور في كتب الأحاديث الصحيحة، وثبت بالتواتر التفصيلي أو الإجمالي بحيث لم يبقَ مجال للشكّ فيها، فضلاً عن إنكارها.

معجزة القرآن

ثمّ امتاز صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن سائر الأنبياء عليهم السلام، بأعظم المعاجز، وهو «برهانه» الواضح، و«قرآنه» الكريم الّذي لا يَبلى على مرور الدهور، وتبدلّ العصور، ولا يزداد على كرور الأزمنة إلى يوم النشور إلاّ ضياءً وصفاءً.

«وهل ترك» ذاك المعجز الخالد «للمبتغي» أي الطالب برهانه «مَثار شكّ» أو مظنّة شبهة؟

وذلك لأنّ العاقل البصير كلّما غار متأمّلاً في بحار هذا القرآن العظيم لم يزدد إلاّ بهتاً فيه وإعجاباً به. ولا غرو فإنّه الترياق الأكبر، والكبريت الأحمر، وفيه المعاجز العجيبة والخواصّ الغريبة، وهو يجلّ عن التشبيه بالطّود الأشمّ، أو بالبحر الخضمّ علوّاً ورفعة، أو سعةً وعظَمة، وأنّ ما حواه من المواعظ والزواجر مأخذ كلّ خطيب مصقع، ومصدر كلّ واعظ مفقع.

وكذا ما فيه من معالم الحلال والحرام، وسائر ما شرع من الأحكام منهل كلّ حاذق فقيه، ومغرف العالِم النبيه.

وإنّ من حياض بلاغته ذاق البلغاء البلاغة، وبمعرفة بعض ما فيه من الأساليب الفاخرة والمعاني العالية باهى الأُدباء، وتفاخروا بإدراك الفصاحة، وأنّه لهدى للإنس والجانّ وفيه بيّنات من الفرقان.

وهو نور يتوقّد مصباحه، وضياء يتلألأ صباحه، ودليل لا يخمد برهانه، وحقّ لا يخذل أعوانه وحبل وثيقة عروته، وجبل منيعة ذروته.

وهو للصدور شفاء، وللقلوب دواء.

وأنّه لَإمامٌ يقتدي بِسمَته المقتدون، وعلَمٌ يهتدي بهديه المهتدون، فيه رياض الحِكم وأنوارها، وينابيع العلوم وبحارها. ".."

وبالجملة إنّ هذا القرآن العظيم فيه آيات محكمات هنّ أُمّ الكتاب، وأُخر متشابهات، وفيه ناسخ ومنسوخ، ومجمل ومبيّن، وعامّ وخاصّ، ومطلق ومقيّد، وأحكام وفرائض، وسنن وقصص، ومواعظ وحكم، ومجازات واستعارات، وحقائق بيّنات، وأمثال وحكايات.

وهو أشرف من جميع الكتب السماوية الّتي أُنزلت على الأنبياء السابقين، وأميز من الصحف المرسلة للرسل المكرّمين، في فصاحة اللفظ، وبلاغة المعنى، واستيفاء الدقائق، وبيان الحقائق، وحُسن النظم، وجودة الأُسلوب، وكثرة الرموز، والإشارة إلى العلم المكنوز، وخفايا الأسرار الّتي لا يدركها إلّا الأطهار الّذين أدركوا الموازنة بين عالَمي الغيب والشهود.

وقد حوى من العلوم ما لا يُحيط بحقائقها علم البشر، ولا يدرك كنهها إلّا الراسخون في العلم، وهم الملهَمون منه تعالى بعلم ما في الكون من الخير والشرّ.

وذلك مضافاً إلى ما فيه من الاعتدال في آياته الّتي ليست بنظمٍ ولا نثرٍ ولا رجزٍ ولا شعرٍ ولا خطبٍ ولا سجعٍ، وما فيه أيضاً من الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة على وجود الصانع تعالى ووحدانيته، وأوصافه المقدّسة، والحشر والنشر، وسائر وقائع يوم القيامة.

وكذا ما فيه من الأدلّة على نبوّة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، كآيات التحدّي وما حواه من وقائع القرون السالفة؛ كقصّة أصحاب الكهف، وذي القرنين، وموسى عليه السلام والخضر عليه السلام، وأمثالها ممّا لم يكن يعرفها إلاّ الخواصّ من أحبار اليهود.

وما اشتمل عليه أيضاً من الأخبار بالحوادث المستقبلة، والأُمور المغيّبة، كغلبة الروم على الفرس، وعدم تمنّي اليهود للموت ونظائرهما، والإخبار عن ضمائر بعض المنافقين من الصحابة.

وكذا ما اشتمل عليه من أسرار العلوم وأنواع المعارف، وجوامع الكلِم، ولوامع الحكم الّتي قصُرت الأوهام عن الإحاطة بها، وكلّت الأفهام عن إدراك حقائقها. فمهما تغلغل الأديب البارع في رياض فنونها، وتعمّق في بحار نكاتها ودقائقها، انفتح له باب المعرفة بما لم يكن يعرفه قبل ذلك من المسالك الموصلة إلى مقفلاتها، والمدارك الكاشفة له عن جُمل مشكلاتها، وظهرت له معالمُ أدرك بها ما كان قد خفيَ عليه من رشحاتٍ سائلةٍ من عيون خزائنها، ولاحت له لوائح من معرفة الشدائد من صعابها، وعندئذ يستخرج بغوّاص عقله على قدر غوره وفهمه شيئاً يسيراً من جواهر بحورها، ويقتبس بالزناد القادح من فكره جزءاً قليلاً من ضوء أنوارها. وإنّ ذلك كلّه أُمورٌ لا يعرفها إلاّ الكُمّل من العلماء الراسخين في العلم والمعرفة، والمعظّم من أهل الفنّ والدراية. وتراهم بعد الدقّة الكاملة، والتفكّرات العميقة في أسراره ومغازيه، معترفين بالعجز عن البلوغ إلى أقصى المراد، مُذعنين بالقصور عن فهم حقائق ما أفادوا، لم يزالوا من الإعجاب به في ازدياد خاضعين لقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ ص:54.

وبالجملة، إنّ هذا الكتاب الكريم لَهُو من المعاجز المتجدّدة شيئاً فشيئاً، والغرائب المعجبة الحادثة يوماً فيوماً. وكم فيه من دواعي التلاوة والتكرار ومرغّبات لقراءته أو استماعه في الليل والنهار من سهولة مخارجه، وبهجة رونقه، وسلاسة نظْمه، وحُسن قبوله، وغير ذلك من خصائصه. وإنّك تراه في سورة قصيرة ينتقل القارئ فيه من وعدٍ إلى وعيدٍ، ومن القَصص إلى المثل، ومن الحِكَم إلى الجدل. وأمثال ذلك ممّا لم يوجَد شيء منه في الكُتب السماوية السابقة، فضلاً عن غيرها.


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

09/12/2015

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات