وصايا

وصايا

07/03/2016

الشهيد الثاني في وصيّته لإخوانه


الشهيد الثاني في وصيّته لإخوانه

المجاهد مَن جاهدَ هواه

 

هذا النص مختصَر من أحد التوجيهات المعنوية التي دوّنها الشهيد الثاني، الشيخ زين الدين الجُبعي العاملي (911 - 965 للهجرة) وقد وضعها تحت عنوان: «وصيّة نافعة».

في هذه الوصية يحثّ الشهيد الثاني بعض إخوانه ومريديه على ملازمة التقوى ومحاسبة النفس مبيّناً دقائق الأمور المتصلة بهذا المسلك التربويّ.

نشير إلى أن هذه الوصيّة وردت ضمن (مجموعة) السيّد بهاء الدين علي بن يونس الحسيني التفرشي، أحد تلامذة الشيخ البهائي، وطُبعت سنة 2001 ميلادية ضمن (رسائل الشهيد الثاني) من إصدار «مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية» في قم المقدّسة.

 

...لمّا كانت محاسبةُ الشريك عبارةً عن النظر في رأس المال، أو في الربح أو الخسران، ليتبيّن له الزيادة من النقصان، فكذلك رأسُ مالِ العبد في دينه الفرائضُ، وربحه النوافلُ والفضائلُ، وخسرانُه المعاصي، وموسم هذه التجارة جملة النهار، ومُعامِلُه نفسُه الأمّارة بالسوء؛ فَلْيُحاسبها على الفرائض أوّلاً:

* فإنْ أدّتها على وجهِها، شكرَ الله تعالى على ذلك ورغَّبها في مثلها.

* وإنْ فَوّتَتْها طالبَها بالقضاء.

* وإنْ أدّتها ناقصةً كلَّفها الجبرانَ بالنوافل.

* وإن ارتكبتْ معصيةً عاقبها وعذَّبَها؛ ليستوفي منها ما يتدارك به، كما يصنع التاجرُ بشريكه.

وكما أنّه يفتّش في حساب الدنيا عن الدرهم والقيراط حتّى لا يُغبَن في شيءٍ منها، فأوْلى أنْ يتّقي غُبْنَ النفس ومكْرها، فإنّها خدّاعةٌ مكَّارة! فَلْيُطالبها أوّلاً بتصحيح الجواب عن جميع ما يتكلَّمُ به طول نهاره، وليكلِّف نفسه في الخلوة ما يتولّاه غيرُه بها في صعيد القيامة على رؤوس الأشهاد ويفضحه بينهم...

التقوى... فعلُ الطاعات وتركُ المعاصي

واعلم.. أنّ التقوى شطران: اكتسابٌ، واجتناب.

فالأوّل: فعلُ الطاعات.

والثاني: تَرْكُ المعاصي. وهذا الشطر هو الأشدّ ورعايتُه أَولى؛ لأنّ الطاعة يقدر عليها كلّ أحد، وتركُ المعاصي لا يقدر عليه إلّا الصدّيقون؛ ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «المُهاجِرُ مَنْ هاجَرَ (هَجَرَ) السُّوءَ، وَالمُجاهِدُ مَنْ جاهَدَ هَواهُ».

وكان صلَّى الله عليه وآله وسلّم إذا رجع من الجهاد يقول: «رَجَعْنا مِنَ الجِهادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهادِ الأَكْبَرِ»؛ يعني جهاد النفس.

وأيضاً فإنّ شطر الاجتناب يزكو مع حصول ما يحصل معه من شطر الاكتساب وإنْ قلّ، ولا يزكو ما يحصل من شطر الاكتساب مع ما يفوت من شطر الاجتناب وإنْ كَثُر؛ ولذلك قال صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «يَكْفي مِنَ الدُّعاءِ مَعَ البِرِّ ما يَكْفي الطَّعامَ مِنَ المِلْحِ».

وقال صلَّى الله عليه وآله وسلّم في جواب من قال: إنّ شجرنا في الجنّة لكَثير: «نَعَمْ، وَلَكِنْ إِيّاكُمْ أَنْ تُرْسِلوا عَلَيْها نيراناً فَتُحْرِقوها».

وقال صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «الحَسَدُ يَأْكُلُ الحَسَناتِ كَما تَأْكُلُ النّارُ الحَطَبَ». إلى غير ذلك من الآثار الواردة بذلك.

فإنْ ظفرتَ بالشطرين جميعاً فقد حَصَلْتَ على التقوى حقّاً، وإنْ اقتصرتَ على الأوّل كنتَ مغروراً، ومَثَلُكَ في ذلك: كمثل من زرع زرعاً فنبت ونبت معه حَشيشٌ يُفْسِدُه، فأُمِر بتنقيته من أصله فأخذ يَجُزّ رأسه ويَتْركُ أصله، فلا يزال يَنْبُتُ ويقوى أصلُه حتّى يُفسِده. ".."

أو كمَن بنى داراً وأحكمها، ولكن في داخلها حشراتٌ ساكنةٌ من الحيّات والعقارب والجراد وغيرها، فأخذ في فرشها وسترها بالفُرُش الحسنةِ والستور الفاخرة، ولا تزال الحشرات تظهر من باطنها فتقطع الفرش، وتخرق الستور، وتصل إلى بدنه باللسع، ولو عقَلَ لكان همّه أوّلاً دفع هذه المؤذيات قبل الاشتغال بفرشها؛ ليحفظ ما يضعه فيها، ويسلم هو من أذاها ولسْعها. بل أيّ نسبة بين لَسْع الحيّات في دار الدنيا الذي ينقضي ألَمُه في مدّة يسيرة ولو بالموت الذي هو أقرب من لمح البصر، وبين لَسْع حيّات المعاصي التي يبقى ألَمُها في نار جهنّم؟! نعوذ بالله تعالى منه، ونسأله العفو والرحمة.

القول في قِسمَي الاكتساب والاجتناب

* ثمّ القول في قسم الاكتساب موكولٌ إلى كُتب العبادات، وإنْ افتقرنا في ذلك إلى وظائف قلبيّة، ودقائق علميّة وعمليّة لم يدوّنها كثيرٌ من الفقهاء، وإنّما يفتح بها على من أخذ التوفيق بزمام قلبه إلى الهداية إلى الصراط المستقيم.

* وأمّا شطر الاجتناب فمنه ما يتعلَّق بالجوارح، ومنه ما يتعلَّق بالقلب:

فأمّا الجوارح: هي التي تتعلَّق بها المعصية، وهي السبعة التي هي بمقدار أبواب جهنّم، فمن حَفِظَها (حُفِظَ) من تلك الأبواب إنْ شاء الله تعالى، وهي: العين، والأُذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرِّجل.

* فأمّا العين: .. فاحفظها أنْ تنظر بها إلى غير مَحْرَم، وإلى مسلمٍ بعين الاحتقار، أو تطَّلع بها إلى عيب مسلم، بل كلّ فضولٍ مستغنٍ عنه؛ فإنّ الله، جلّ جلاله، يسأل عن فضول النظر كما يسأل عن فضول الكلام.

* وأمّا الأُذن: فاحفظها أنْ تُصغي بها إلى بدعة أو فُحش أو غِيبَةٍ أو خوضٍ في الباطل أو ذِكر مساوي الناس...

* وأمّا اللّسان: فإنّه خُلق لذكر الله... وهو أغلب الأعضاء على سائر الخلق؛ لأنّه منطلقٌ بالطبع، ولا مؤونةَ عليه في الحركة، ومع ذلك فجنايتُه عظيمةٌ بالغِيبة، والكذب، وتزكية النفس، ومذمّة الخلق، والمماراة، وغير ذلك من آفاته. فاستظهر عليه بغاية قوّتك حتّى لا يُكِبّك في جهنّم. ففي الحديث: «‏إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَرَى أَنْ تَبْلُغَ حَيْثُ بَلَغَتْ، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».

* وأمّا البطن: فكلِّفه ترْكَ الشَّرَه، واحرص على أنْ تقتصر من الحلال على ما دون الشبَع؛ فإنّ الشبَع يُقْسِي القلبَ، ويُفْسِدُ الذهن، ويُبْطِل الحفظ، ويُثْقِلُ الأعضاءَ عن العبادة، ويُقَوّي الشُّبُهات، ويَنْصُر جنودَ الشيطان، والشبَعُ من الحلال مبدأُ كلِّ شرّ.

وهكذا تتفقّد باقي جوارحك؛ فطاعاتها ومعاصيها لا تخفى.

وأمّا ما يتعلَّق بالقلب: فهو كثير، وطُرق تطهيره من رذائله طويلة.. والورِع المتّقي في زماننا مَن راعى السلامة من المحرّمات الظاهرة المدوّنة في كُتب الفقه. (لكنّ الناس) أهملوا تفقّدَ قلوبهم ليَمْحوا عنها الصفات المذمومة.. من الحسد والكِبر والبغضاء والرياء وطلب الرئاسة وسوء الخُلق مع القُرناء وإرادة السوء للأقران والخلطاء، حتّى أنّ كثيراً لا يعدّون ذلك من المعاصي مع أنّها رأسها كما أشار إليه صلَّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: «أَدْنى الرِّياءِ الشِّرْكُ». وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»... وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «حُبُّ المالِ وَالشَّرَفِ يُنْبتانِ النِّفاقَ كَما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ»، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب. وقد قال صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّما يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».

فهذه جماعُ أمر التقوى التي أوصانا الله تعالى بها، على وجه الإجمال، وتفاصيلها تحتاج إلى مجال.

 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

07/03/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات