حوارات

حوارات

06/04/2016

قَرينتي بُندقيّتي، وبيتي جاهز مساحته متر مربّع


الشّهيد محمّد رضا شفيعي:

قَرينتي بُندقيّتي، وبيتي جاهز مساحته متر مربّع

لا تَجزعي – يا أمّي – من الوحدة، فالله معنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: أسرة التحرير ـــــــــــــــــــــــــــــــ


مقابلة أُجريت مع والدة الشّهيد محمد رضا شفيعي، بعد استعادة جثمانه الطّاهر من أسر النظام البعثي البائد في العراق، ننشرها مترجمة نقلاً عن الموقع الإخباري الإلكتروني «قم فردا».

والشّهيد شفيعي واحدٌ من الذين سلكوا درب الجهادَيْن الأصغر والأكبر، والتحق بركب المجاهدين باكراً في الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ وتذكّرنا سيرته بالمولى القاسم بن الحسن عليه السلام الذي قاتل قتال الرّجال والأبطال في كربلاء بالرغم من عطشه وصِغَر سنّه...

 

 * حبذا لو حدّثتِنا بدايةً عن ولادة الشّهيد محمّد رضا، وعن ميزاته الشخصية.

بسم الله الرحمن الرحيم. أنا والدة الشّهيد محمّد رضا شفيعي، من محلّة بامنار في مدينة قم. ولد محمّد رضا سنة 1966م. كان طفلاً حاذقاً فطناً وذكيّاً؛ يقحم نفسه في كلّ ما حوله ويرغب بتعلّم كلّ شيء، وحنوناً ويكترث لهموم الآخرين. كان ساعدي الأيمن، ولم يسمح ولو للحظة أن أعمل شيئاً بمفردي. لطالما أحبّ أن يساعد الآخرين.

عندما بلغ الحادية عشرة مات أبوه. فكنتُ إذا بكيت قال لي: إن بكيتِ فأبكي أنا أيضاً لبكائك، ولا يجمل بالرجل أن يبكي، ذهب أبي لكنني ما زلت هنا.

* ماذا تذكرين من أيّام طفولته؟

أيّام طفولته تعرّض لحادث أليم حيث قذف به التيار الكهربائي إلى الطابق السفلي من بيتنا. كنت بمفردي وقعيدة البيت لكسر في رِجلي، ولم يكن بمقدوري أبداً أن أقوم من مكاني. فرحت أردّد «يا حسين» و«يا زهراء». ناديت الجيران ولم يسمعوا صوتي، فإذا بأختي تدخل البيت مُصادفة. رجوتها باكية أن تستنقذ محمّد رضا. عندما جاؤوا به كان وجهه كالحاً ومتورّماً، لا أثر فيه لأي حركة أو نفَس، فحملوه إلى المستشفى.

كان في حيّنا بقّال (صاحب دكان) رحمه الله، اسمه السيّد عبّاس؛ كان رجلاً من أهل السرّ والمعرفة، التقى بأختي في الطّريق وهي تحمل ولدي على يدها، ولمّا عرف منها بما جرى، احتضن محمّد رضا، وأدخل إصبعه في فمه وتلا بضع سور من القرآن الكريم، فإذا بمحمّد رضا يفتح عينيه وينقلب حاله بالكامل. عندها قال السيّد عبّاس لأختي: لا حاجة به إلى الطّبيب، لقد شفاه الطّبيب الحقيقيّ.

* متى قرّر الذّهاب إلى الجبهة، وماذا كانت ردّة فعلك؟

كان في الرابعة عشرة من عمره عندما تقدّم بطلب الالتحاق بالجبهة. كان مستاءً ويقول: إنّهم يرفضونني لصغر سنّي، ويقولون: ليس قبل أن أبلغ الخامسة عشرة. فكنت أقول له اصبر سنة عندها إذا شاء الله يسمحون لك بالالتحاق. لكنّه لم تكن له طاقة على الصبر، وكان يقول سأبقى أتردّد إليهم حتّى تأخذهم الرأفة بي. قال لي: نذرتُ ألف صلوات للإمام صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وأصررت كثيراً على مسؤول الترحيل. كان في غاية السرور لا تسعه الدنيا عندما حان وقت التحاقه بالجبهة.

* هل لاحظتم تغييراً في سلوكه عندما كان يرجع من الجبهة؟

عند عودته من الجبهة كان في غاية اللطف، ولا يسمح بأن أبسط له فراشاً ليجلس عليه. كان يقول: أميّ لو ترين أين ينام المجاهدون ليلاً! كيف لي أن أنام على فراش؟ وكنت إذا طلبت ماء نهض من فوره وأحضره لي.

كان يشتري حاجيات البيت، ويصحبني لزيارة مقام السّيّدة المعصومة عليها السلام، ويقول: إيّاك أن تجزعي، فأنا أخدم الإسلام والله يعوّض عليك. فالله وليّ مَن لا وليّ له.

بقي في الجبهة من سنة 1980 إلى 1985، وكان كلّما يرجع يروي لي بعض ما جرى معه... بدا حزيناً على الدوام لأنّه لم يرزق الشهادة. لم يكن يشغله أيّام مأذونيته غير مواجهة أعداء الثورة والأشرار، فكان يخرج كلّ ليلة من البيت ويرجع قبيل صلاة الصبح.

عموماً كان شابّاً بريئاً وكتوماً. لا يتكلّم ولا يهمّ بعمل إلّا لضرورة. أنا أمّه ولم أعلم بالتحاقه بحرس الثورة إلّا بعد سنتين.

* هل اقترحت عليه فكرة الزواج؟

نعم، كنت أقول له: أنا أصبحت بمفردي، لا أطلب منك أن تترك الجبهة. ولكن دعني أفتّش لك عن فتاة مؤمنة ومناسبة تؤنسني وتكون شريكة حياتك. فكان يجيبني مبتسماً: الله وليّ مَن لا وليّ له. قرينتي بندقيّتي، وبيتي جاهز لا تتعدّى مساحته المتر المربّع، لا يحتاج إلى بنّاء ولا إلى حديد. لا تجزعي من الوحدة، فالله معنا.

* هل تذكرين حادثة أصابته بالجرح في الجبهة؟

كان محمّد رضا يتّصل بمنزل جيراننا، إذ لم نملك حينها هاتفاً في بيتنا. اتّصل بي ذات مرّة وكان يوم عيد، أحسست أنّ صوته قريب جدّاً. قال لي إنّه في قمّ، وطلب أن أمرّر الهاتف إلى شقيقته. عندما كلّمَتْه قال لها إنّه أصيب بجروح، ويرقد في مستشفى الكلبايكاني وطلب منها أن ترفق بي عندما تحضرني لعيادته.

عندما دخلت قسم المصابين في المستشفى، نبت أمامي شابٌّ على الكرسي المتحرّك. كنت مضطربة أستعجل رؤية ولدي، فقلت للشابّ: هل تعرف محمّد رضا شفيعي؟

قال لي: هل تعرفينه أنتِ إذا رأيته؟ قلت: كيف لا أعرفه وهو ولدي. فقال: إذاً كيف لم تتعرّفي إليّ يا أُمّي؟! انفجرت باكية واحتضنته، كان نحيفاً للغاية ووجهه هزيلاً من الضعف، يبدو أنّه فقد كميّة كبيرة من الدماء.

كان وجهه كالحاً. قلت له: ما الذي جرى يا ولدي؟ قال: لا شيء، شفرة صغيرة اخترقت رِجلي، ليس بالأمر الخطير، لكنّ الأطباء يثيرون الجلبة بلا سبب. علمت لاحقاً أنّ شظيّة كبيرة اخترقت قدمه من مقدّم الحذاء وخرجت من الجانب الآخر.

* حدّثينا عن آخر لقاء بينكما.

كان مطلع شهر ربيع الأوّل، اشترى ستّ علبٍ من الحلوى وقوارير عطور وسبحات وسجّادات وسجدات للصلاة. كان مهّيأً بالكامل. قلت له: يا ولدي، أنت بالكاد تجني ما يكفيك من المال، ثمّ تنفقه في شراء هذه الأغراض! ذات يوم ستحتاج إلى المال للزواج ولشراء بيت. لكنّه كان هادئاً ومبتسماً، وأجابني ببيتٍ من الشعر [ترجمته]:

أنتم الزموا مَتاعَكم فنحنُ كنّا لا متاعَ لنا، ورَحَلْنا

ثمّ قال لي إنّهم قرّروا إقامة احتفال بميلاد الرسول صلّى الله عليه وآله، في منطقة العمليّات التي يتواجد فيها، ولأجل ذلك اشترى هذه الأغراض. كان حاله غير مألوف. وأخيراً ودّعني وقال لي آخر كلماته: أمّي، أستودعك الله.

مرّت بضعة أيّام، وذات ليلة أبصرته في منامي. رأيت محمّد رضا يدلف إلى البيت مرتدياً ثوباً أخضر مليئاً بالكتابات. عندما دخل عبر الباب كان يحمل بيده وردة، ولكن عندما صار أمامي تحوّلت الوردة إلى حُزمة خضراء.

قال لي ثلاث مرّات: أمّي، جلبت لك هديّة. قلت: كيف يا ولدي؟ لماذا عدتَ سريعاً هذه المرّة؟ قال: أمّي، أنا على عجلة من أمري، جئت لأقول لك ألّا ترقبي رجوعي بعد اليوم!

عندما استيقظت صباحاً رحت أسال نفسي عمّا عساه يكون قد حدث؟ قلت في سرّي: لربّما كانت ليلة عمليّات واقتحام. هاتفت صهري وأخبرته بما رأيت، لكنّه لم يكترث كثيراً لمنامي. وفي اللّيلة التالية رأيت محمّد رضا من جديد وقال لي مثل المرّة الأولى: لا ترقبوا رجوعي بعد اليوم! عندما أخبرت صهري للمرّة الثانية قصد الحرس الثوريّ مُستفسراً عن الأمر، لكنّه لم يحظَ بنتيجة. ثمّ طلبوا منا أن نهيّئ صورة شمسيّة لمحمّد رضا وأخرى مستنسخة عن بطاقة هويّته ونرسلهما بالبريد إلى الصليب الاحمر، وهذا ما فعلناه.

* كيف علمتم بوقوعه في الأسر ومن ثمّ شهادته؟ هل كان معه أحد عندما استشهد؟

مرّت على هذه الحادثة ثمانية أشهر. وذات مساء قُرع باب البيت. عندما فتحت الباب وجدت أمامي بضعة أشخاص يرتدون ثياب الحرس ومعهم حافظة صور كبيرة. سألوني إذا كنت أتعرّف إلى أحد من أصحاب الصور. كانت أعينهم مغطّاة وأيديهم مقيّدة إلى الخلف، وبدا لي نتيجة ذلك أنّ بعضهم يستحيل التعرّف إليه. كدت أن أصاب باليأس حتى وقع نظري في الصفحة الأخيرة على صورة محمّد رضا، كان نائماً في هيئة غريبة وكانت شفتاه منفرجتَين. خاطبته قائلة: نفسي فداء لعطش مولاك الحسين يا ولدي، هل سقاك أحدهم ماء أم تراك استشهدت عطشانَ؟

والخلاصة أنّهم أخبروني أنّ محمّد رضا استشهد في معسكر مدينة الموصل بعد عشرة أيّام من أسره، ودفن جثمانه في مقبرةٍ ما بين مدينتي الكاظميّة وسامرّاء.

كان له صديق من مدينة مشهد اسمه محسن ميرزايى، أُصيبا وأُسِرا معاً وأُطلق سراحه هو في فترة لاحقة. أخبرني محسن فيما بعد أنّ الشظيّة أصابت بطن محمّد رضا، وأنّ كليهما كان مصاباً وطريحاً في النفق، فوقعا في الأسر.

تمّ نقلهم إلى معسكر الأسرى في مدينة الموصل، وكانا في حالة حرجة، لكن محمّد رضا كان يعاني الأوجاع نتيجة الجرح الغائر في بطنه. طلب منه البعثيّون في الأيّام الأولى أن يشتم الثورة والإمام الخميني، رضوان الله عليه، لكن محمّد رضا أغلظ القول وشتم صدّام أمام جميع الضبّاط والرتباء العراقيّين. عندها ضربوه في فمه فتكسّرت بعض أسنانه. أخبرني محسن أنّ الأطبّاء منعوا عنه الماء تماماً بسبب إصابته. في اليوم الأخير كان منهكاً من العطش، وكان يقول لي: محسن، لا ريب أنّي سوف أستشهد، وإن شاء الله سوف يكتب لنا النصر في هذه الحرب، وأنت تخرج من الأسر وتعود إلى عائلتك. عندها تذهب إلى بيتنا، وهذا عنوانه، وتخبرهم أنّك بنفسك عاينت شهادتي واطلب منهم ألا يرقبوا عودتي أبداً.

بعد أربع سنوات تمّ إطلاق سراح الأخ ميرزايى، فجاء إلى بيتنا وحكى لنا عن شهادة محمّد رضا.

في اليوم الأخير استبدّ به العطش. كان ثمّة طشت من الماء وُضِعَ على طاق الجدار. سحب محمّد رضا نفسه على الأرض ليشرب من الماء، وقبل أن يصل إليه ارتمى أرضاً وارتفع شهيداً، وشاءت العناية الإلهيّة أن تتزامن شهادته مع وصول وفد من «الصليب الأحمر» لتفقّد المعسكر. ولمّا رأوا هذه الحادثة أمامهم التقطوا صور الجثمان وأعطوه رقماً وأخرجوه للدفن.

* زرتم العتبات المقدّسة في العراق، وتمكّنتم من زيارة ضريح محمّد رضا، كيف حصل ذلك؟

قبل ثلاث سنوات [قبل سقوط النظام البعثي البائد] وُفّقت لزيارة العتبات المقدّسة في العراق. حملت معي صورة قبر محمّد رضا ورقمه، وخرجت من بيتي متوكِّلة على الله تعالى. عندما وصلت إلى هناك، رحتُ أتوسّل رجال الشرطة حتى يسمحوا لي بزيارة قبر محمّد رضا، لكنهم لم يقبلوا ومنعوني من ذلك خوفاً من أن يصل الخبر لرجال الاستخبارات.

كان معي ابن أخي، وهو يجيد شيئاً من العربيّة، كلّم أحد السّائقين ونقده مبلغ عشرين ألف تومان، فرضي بأن يأخذنا إلى المقبرة. أنزلنا هناك ومضى في سبيله.

كانت شواهد القبور من دون صور الشّهداء، لكنّني عثرت على القبر استناداً إلى العلائم التي معي (القاطع 18 - الرّقم 128). كانت لحظة لا تُنسى: لم أتمالك نفسي وألقيت بجسدي على قبره؛ قلت لمحمّد رضا إنّني رأيتك ذات ليلة في مقبرة شهداء مدينة قمّ. أريدك أن ترجع إليّ. توسّلته كثيراً. بعد ذلك، وأنا في كربلاء، أقسمت على سيّد الشهداء بحقّ ولده المولى عليّ الأكبر أن يرد عليّ ولدي.

* كم طال هذا الفراق، وكيف كانت عودة ولدكم الشّهيد إلى مدينة قم؟

مرّت على هذه الحادثة سنتان، وذات يوم أذيع في الأنباء أنّهم سيعيدون جثامين 570 شهيداً إلى الوطن. تساءلت في قرارة نفسي: هل يعقل أن يكون ولدي من بينهم؟ هاتفت ابن أخي وطلبت منه أن يستفسر عن الأمر، فقال لي: إذا كان محمّد رضا معهم فسوف يخبروننا بذلك.

ما إن وضعت سمّاعة الهاتف حتّى رنّ جرس باب البيت. سألت: مَن الطارق؟

قال: هذا منزل الشّهيد محمّد رضا شفيعي؟

قلت: نعم، لقد أحضرتُم لي ولدي!

قال: وهل أخبرك أحدهم بذلك فتنتظرين قدومه؟

قلت: رأيت قبل بضع ليال أباه في المنام وقد جاء للقائي، ومعه قفص أخضر بداخله طير كناري أخضر، وقال لي: أبشّرك بعودة «المسافر إلى كربلاء» بعد ستّة عشر عاماً.

قال لي ذلك الأخ من الحرس: حقاً إنّ أمّهات الشّهداء يسبقننا دائماً. والآن أنا أبشّرك أيضاً أنّهم أحضروا جثمان محمّد رضا شفيعي بعد ستّة عشر عاماً، لكنّ ابنك يختلف عن الآخرين.

قلت: ماذا تعني؟

قال: بعد ستة عشر عاماً ما زال جسد محمّد رضا سالماً وتاماً ولم يطرأ عليه أيّ تغيير. والآن هو يرقد في مكان ملحق بمدافن «جنّة المعصومة»، إذا شئت أن ترينه فعليك الحضور غداً صباحاً قبل مراسم التشييع.

* كيف أحسستِ عندما رأيت جثمان ولدك الشّهيد؟

عندما دخلت حيث أرقدوه أحسستُ بوهن في رجليّ، تذكّرته يوم كان جريحاً، ووددت لو أنّه يأتي مجدّداً ويستقبلني.

وما أن دخلت الحجرة التي هو فيها حتّى انقطع نفسي، تخيّل نفسك مكاني، كيف كنت تصنع؟ بعد ستّة عشر عاماً استخرجوا جثماناً من تحت أطنان من التراب.

وأخيراً رأيته، كان عطِراً ونيِّراً، شعره ومحاسن وجهه على حالهما، كانت عيناه – كالعادة – تتحدّثان إليّ. البعثيّون المعتدون وبعد أن رأوا جثمان محمّد رضا تركوه ثلاثة أشهر تحت حرارة الشمس الحارقة لأجل أن يتلف جسده، لكنّ وجهه بقي على حاله. بدنه – لا غير – تورّم نتيجة التعرّض للشمس. قالوا لي أيضاً إنّ البعثيّين رشّوا جسده بمسحوقٍ معيّن لكنّه لم يؤثّر فيه.

لاحقاً أخبروني أنّ أحد الجنود العراقيّين، وهو ينقل جثمان محمّد رضا، كان يبكي ويلعن صدّام لأجل أنّه قتل أناساً كهذا الشّهيد. حصل ذلك أثناء عمليّة استلام جثامين الشّهداء عند الحدود الإيرانيّة العراقيّة. بعد ذلك أدّيت ركعتي صلاة الشّكر، وهيّأت نفسي لمراسم التشييع.

* كيف استقبلت الجماهير جثامين الشّهداء، وكيف كانت مراسم التّشييع؟

كان «مصلّى القدس» مكتظّاً لا يتّسع لإبرة. جماعات كبيرة كانت تلتحق بالمصلّى ومعهم حلقات اللّطم. العيون كلّها تترقرق بالدموع. أحضروا جثامين الشهداء، وعندما انتشر بين الناس نبأ جثمان محمّد رضا ثارت ثائرتهم. أمواج بشريّة اندفعت تحمل التوابيت وهم يلطمون صدورهم ورؤوسهم. لم أصدّق أنّ ولدي العزيز سيُحمل بعد ستّة عشر عاماً على الأكفّ، وستشيّعه هذه الحشود إلى المدفن.

حبيبي حسين، ما أكرمك! كم كنتُ أجهل مبلغ عظمتك! عندما وصلت إلى القبر نزلت إليه واحتضنتُ ولدي وأرقدته فيه، على الرغم من الألم في رِجلي والوهن في مفاصلي. كان الوضع أشبهَ شيءٍ بالقيامة. جماعة تبكي وجماعة أخرى تلطم. دفنتُ ولدي محمّد رضا بيديّ هاتين.

كان أحد رفاقه القدماء من الجبهة حاضراً عند قبره، فقال: أنا أعرف لماذا بقي جسد محمّد رضا سالماً بعد ستّة عشر عاماً! فهو لم يترك يوماً غسل الجمعة، ولا زيارة عاشوراء، ولا صلاة الليل، كان دائم الوضوء، وكنا جميعاً نمسح دموعنا بالكوفيّة – بعد مجالس العزاء والمراثي في المتاريس - لكن محمّد رضا كان يبكي ويمسح بدنه بدموعه.

* هل ما زلت تستحضرين ولدك الشّهيد، وهل لديكم من ذكريات في هذا الخصوص؟

 


 

أراه دائماً وفي كل آنٍ إلى جواري. كثيراً ما يحضرني في النوم فأحدّثه، وهذا الأمر يستدعي ذكريات قديمة.

كان محمّد رضا قد التقط لنفسه صورة أيّام الحرب وكنّا نحتفظ بها. قالت ابنتي حبّذا لو قمنا بتكبير هذه الصورة فهي تختلف عن سائر صوره، كأنّما هو يخاطبنا فيها. تصفّحنا الصورة، ففطنّا إلى أنّها التُقطت في مدينة دزفول. هاتفت ابن أختي الذي يعمل في دزفول، فرضي بأن يفتّش عن محلّ التّصوير الذي التُقطت فيه الصورة، لكنّه لمّا عثر عليه رفض صاحبه أن يعطينا الفيلم الأساس الخاص بالصورة أو أن يستنسخ عنه صورة أخرى، متذرّعاً بأن الأمر مضى عليه ستة عشر عاماً. ولم يفلح ابن اختي في إقناعه بالرغم من محاولاته، إلى أن جاء المصوِّر ذات يوم وعيناه مليئتان بالدموع، وقال لابن أختي: لماذا لم تخبرني عن شهادة هذا الشّهيد؟ قال له: هذا شهيد كسائر الشهداء، لماذا تسأل؟

قال المصوّر: حضرني هذا الشّهيد في المنام البارحة ليلاً، وخاطبني بمهابة قائلاً: لماذا لا تعطي الفيلم لهؤلاء «القُميّين»، ألا تعرف أنّ والدتي بالانتظار؟ فانتبهت مذعوراً وأنا أرتجف، وقمتُ من فوري إلى الأستديو واستنسخت ستّ صور بأحجام كبيرة. يقول ابن أختي: لم يرضَ بأن يأخذ المال مهما حاولت معه، واحتفظ لنفسه بإحداها.

* الكلمة الأخيرة لكم، وما هي نصيحتكم لنا؟

أسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعة الشّهداء. ذكر الشّهداء يجب أن يبقى على الدوام في صلب أعمالنا. أنا دائماً أدعو في صلواتي للقائد، والأهمّ من ذلك أنّني أدعو لتعجيل فرج مولانا الإمام صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشّريف، حتّى تنتهي بظهوره جميع المصاعب والمصائب، وتتحرّر الأمم المظلومة من براثن المعتدين. أشكركم أنتم أيضاً وأتمنى أن تواصلوا طريق الشّهداء إلى الأبد.

 

 

 


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

07/04/2016

دوريات

نفحات