معنى الزُّهد وحقيقته

معنى الزُّهد وحقيقته

01/07/2011

د. محمود الإدريسي*

عدَّ العرفاءُ الزُّهدَ أحد المقامات السبعة في السفر إلى الحقّ، واتّفقوا على الجملة أنّه المقام الثالث في السلسلة المعراجيّة بعد التوبة والورع.

في هذا السياق، كتب الأكاديمي المغربي الدكتور محمود الإدريسي، ما يلي:

ورد في (لسان العرب) لإبن منظور أنّ الزُّهد لغةً ومَقصداً يعني مُمانعة الرغبة وعدم الحِرْص على الدُّنيا. والزَّهادة تكون في الأشياء كلّها ضدَّ الرَّغبة. زَهِدَ وزَهَدَ، وهي أعلى. يَزهد فيهما زُهداً وزَهَدَاً، والفتحُ من سيبويه. وزهادة فهو زاهِد من قَوْمٍ زُهّاد. والتَّزهيد في الشيء وعن الشيء خلاف الترغيب فيه. وزَهَّدَه في الأمر رغبةً عنه.
وقوله عزّ وجلّ ﴿..وكانوا فيه من الزاهدين﴾ يوسف:20، أي اشتروه على زَهَدٍ فيه. والزهيد يعني الحقير. وعطاءٌ زهيد يعني قليل. ويُقال أيضاً: خُذ زهد ما يكفيك، أي قدْرَ ما يكفيك.
ولسوف نجد أنّ اللّغة لم تفارق الدلالة والقصد، في ما ذهب إليه القرآن الكريم والنبيّ صلّى الله عليه وآله، والأئمّة الأطهار عليهم السلام، والأولياء من أهل العرفان.

***


عَدَّ العُرفاء الزُّهد أحد المقامات السبعة في السَّفر إلى الحقّ، واتّفقوا على الجملة أنّه المقام الثالث في السلسلة المعراجيّة بعد التوبة والوَرَع.
على أنّ التَّراتُب الذي وضعه المُحقِّقون للمقامات على النَّحو الذي عهدناه في (الرسالة القشيريّة)، لا يعني أنّ تحصيلها يَجري مَجرى التسلسُل الهندسي إنْ صحَّ التعبير. فالتحصيل هنا شأنُ السالِك في تجربته الذاتيّة في المعاينة، والمراقبة، والكَدْح، والتثبّت. فالذين دخلوا الحضرة الإلهيّة بنفْسٍ مطمئنّة وهِمّةٍ عالية، يكون الزُّهد في هذا شرط دخولهم. وهؤلاء هم أنفسهم العلماء بالله، لا يَحتجبون بظاهر الأشياء عن باطنها، ولا بباطنها عن ظاهرها، ولا باللّفظ عن المعنى، ولا بالمعنى عن اللّفظ، راسخو القدَمين في كِلا الحَضْرتَين.
وفي اعتقاد أهل الولاية من العرفاء أنّ كلَّ مقام هو وِعاء ما قبلَه، ولا يَتحقّق بدونه. وأنّ المقام الأوّل متّصلٌ وجوباً بالمقام الأخير، وأنّ المقامات جميعاً تكون واحدة في سلوك المُهاجِر إلى الحقّ تعالى، ليكون عارِفاً وإنساناً كاملاً.

الزُّهد إذاً هو صفةٌ عَلياء من صفات العارف، وهو حقيقة من حقائق ذاته السائحة في الألوهة، عروجاً نحو الحقّ والفَناء فيه. لذلك قيل إنّ الزُّهد هو بُغضُ كلِّ ما يَشغل عن الله، ويَحبس عن حضرة الله. والزُّهد في الشيء هو خروج محبّته من القلب وبرودتُه منه. ويكون عند العرفاء أوّلاً في المال، ويعني التملّك، وعلامة ذلك بحسب العرفاء: أن يَستوي عنده الذَّهب والتُّراب، والفضّة والحَجَر، والغِنى والفَقر، والمَنح والعطاء. ويكون ثانياً في الجاه والمراتب، وعلامتُه: أن يَستوي عنده العِزُّ والذُّل، والظُّهور والخُمول، والمدْح والذّم، والرِّفعة والسُّقوط.
ويكون ثالثاً في المقامات والكرامات والخصوصيّات، وعلامتُه: أن يستوي عنده الرَّجاء والخَوْف، والقوّة والضَّعف، والبَسْط والقَبْض، يسير بهذا كما يسير بذاك، أو يُعرف في هذا كما يُعرف في ذاك، ثمّ يكون الزُّهد في الكوْن بأسره بشهود المُكوِّن وأمره.
رُوي عن إمام المتّقين والزاهدين عليٍّ عليه السلام قولُه: «كونوا لِقَبول العمل أشدَّ منكم اهتماماً بالعمل. فإنّه لن يقلَّ عملٌ مع التَّقوى، وكيف يقلُّ عملٌ مُتَقَبَّل؟»
وعنه عليه الصلاة والسلام: «ليس الزُّهد في الدنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال، بل الزُّهد أن لا تكون بما في يَدِك أوثقُ منك بما عند الله».
وهذا معناه أنّ القلب ما إنْ يَتحقّق بالزُّهد حتّى يصير -الزُّهد- لصاحبه حالاً ومقاماً، فيَظهر على أحاسيسه، وحركاته، وسَكَناته اليقينُ والثقة بالله.

منازل المَقام

الزُّهد مَقامٌ مفتوح يَدخله العارفُ بالله بمراتبه المتعدِّدة. لذا، فإنّ حقيقته العُليا لا يَبلغها إلّا الصّدِّيقون الواصلون. فهؤلاء حين يَنظرون إلى عالَمهم، يَرَون إلى المقام كمرآةٍ مصقولة لا يَشوب صفاءَها شائبة، فتظهر في أعينهم حقيقة الزُّهد وأحوالُه ومراتبُه، وأكابِر العُرفاء يرَوْنه أيضاً كَنُورٍ تراوحت آثاره بين الشدّة والضَّعف، والخُفوت والإنبهار. إلّا أنّه في حقيقته الوجوديّة واحد. ربّما لهذا السبب ذَهب كبارُ الصوفيّة إلى تقسيم الزُّهد بحسب مكانة السالِك، واستعداده وقدرته على الترقّي والصُّعود.
من هؤلاء العرفاء مَن ذَهَب إلى أنّ الزُّهد هو على ثلاثة أقسام:
- زهد العامّ وهو تَرْكُ الحرام.
- زهد الخاصِّ وهو تَرْك الفُضولُ من الحلال.
- زهد الأخصِّ وهو تَرْك ما يشغلُه عن الحقّ تعالى.
ولعلّ ما ورد عن الأنصاري في كتابه (مقدّمة في أصول التصوّف والعرفان)، ما يؤسِّس لقاعدة سلوكيّة تحوي الأقسام المختلفة للمقام، وتُضيء على الطريق الذي يربط بين زُهد العامّ وزُهد الأخصّ. وهو ما يُبيّنه على النحو التالي:
• الزُّهد في ثلاثة أشياء: تذكُّر الموت، القناعة بالقُوت، ومحادثة أهل الحقّ.
• الزُّهد في الخَلْق، وله ثلاث علامات: رؤية ما يَسبق الأحكام، ورؤية استقامة القدر، ورؤية عَجْز الخَلق.
• الزُّهد في النَّفْس، وله ثلاث علامات: دَرْكُ حِيَل العفاريت والشياطين، دَرْك ضَعف النَّفس، ودَرْك ظُلمة الإستدراج (أي العجب) في طلب الترقّي (شهود النفس للجاه والمال).
لقد قيل إنّ أفضل الزُّهدِ الزُّهدُ في الحرام. أمّا الحلال فهو مُباح من الله، لكنّ الإحتراز منه يكون بالإختيار، إلى أن يَصل إلى أنّ «الزُّهد واجب في الحرام، وحلال في الفضيلة».
هذه القاعدة سيَمَضي العُرفاء إلى بَسْطها على نحو التقسيم الرُّتبي، ليُبيَّنوا أنّ زُهد المُحسنين، وتحتهم الصالحون والمؤمنون والمسلمون، إنّما هو في الدُّنيا ولذّاتها. وزُهد الصدّيقين هو في سائر المخلوقات، فلا يَشهدون إلّا للحقّ تعالى ولأسمائه وصفاته. وأمّا زُهد المُقرَّبين، فهو في البَقاء مع الأسماء والصفات، فإنّهُم في حقيقة الذّات.


من دعاء زمن الغَيبة

أللّهمَّ فَأَحْيِ بِوَلِيِّكَ القُرْآنَ، وَأَرِنا نُورَهُ سَرْمَداً لا لَيْلَ فِيهِ، وَأَحْيِ بِهِ القُلُوبَ المَيْتَةَ وَاشْفِ بِهِ الصُّدُورَ الوَغِرَةَ، وَاجْمَعْ بِهِ الأَهْواءَ المُخْتَلِفَةَ عَلى الحَقِّ، وَأَقِمْ بِهِ الحُدُودَ المُعَطَّلَةَ وَالأَحْكامَ المُهْمَلَةَ، حَتّى لا يَبْقى حَقٌّ إِلاّ ظَهَرَ وَلا عَدْلٌ إِلاّ زَهَرَ، وَاجْعَلْنا يا رَبِّ مِنْ أَعْوانِهِ وَمُقَوِّيَةِ سُلْطانِهِ، وَالمُؤْتَمِرِينَ لأمْرِهِ وَالرَّاِضينَ بِفِعْلِهِ، وَالمُسَلِّمِينَ لأحْكامِهِ وَمِمَّنْ لا حاجَةَ بِهِ إِلى التَّقِيَّةِ مِنْ خَلْقِكَ، وَأَنْتَ يا رَبِّ الَّذِي تَكْشِفُ الضُّرَّ وَتُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذا دَعاكَ وَتُنْجِي مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ، فَاكْشِفِ الضُّرَّ عَنْ وَلِيِّكَ وَاجْعَلْهُ خَلِيفَةً فِي أَرْضِكَ كَما ضَمِنْتَ لَهُ.
أللّهمَّ لا تَجْعَلْنِي مِنْ خُصَماءِ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَلا تَجْعَلْنِي مِنْ أعْداءِ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَلا تَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الحَنَقِ وَالغَيْظِ عَلى آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ذلِكَ فَأَعِذْنِي، وَأَسْتَجِيرُ بِكَ فَأَجِرْنِي، أللّهمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْعَلْنِي بِهِمْ فائِزاً عِنْدَكَ فِي الدُّنْيا وَالآخرةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ آمِينَ رَبَّ العالَمِينَ.



_____________
*أكاديمي من المغرب

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

03/07/2011

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

03/07/2011

  كتب عربية

كتب عربية

03/07/2011

نفحات