حوارات

حوارات

01/08/2016

محاورة حول التوحيد والتشبيه والتوسُّل بالأولياء الصالحين

 

محاورة حول التوحيد والتشبيه والتوسُّل بالأولياء الصالحين

الشِّرك بتَشبيهه تعالى، لا بابتغاء الوسيلة إليه

ــــــــــــــــــــ إعداد: فاضل محمّد* ــــــــــــــــــــ

في ما يلي، محاورة افتراضية بين وهّابي ومسلم شيعي، تنطوي على أهمية تاريخية وراهنة لجهة الموضوعات العقائدية التي تطرّقت إليها. وقد أعدّها ونظم سياقها الباحث الإسلامي فاضل محمّد، وركّز فيها على السجال المديد الذي شغل العالم الإسلامي قديماً وحديثاً حول مجموعة من العناوين الأساسية مثل: الشفاعة، والتوسّل بالأولياء والصالحين، والنذر لهم، وزيارة قبورهم والبناء عليها وتزيينها.

نشير في هذا الصدد إلى أنّ العناوين المذكورة أعلاه، هي جزء من هذه المحاورة العقائدية التي كانت ولمّا تزل مدار جدالٍ لم ينتهِ بين الوهّابية وسائر المسلمين السنّة والشيعة.

يمهّد الباحث فاضل محمّد لهذا «الحوار» بالحديث عن لقاءٍ حصل بين رجلَين في مكانٍ عامّ؛ فلمّا تبيّن لأحداهما – وهو الوهّابي – أنّ الآخر مسلم شيعي، طلب إليه أن يناظره في عقائده، فكان له ما أراد. وسنشير في المتن إلى أسئلة الوهّابي أو إجاباته بعلامة (-)، وإلى إجابات المسلم بعلامة (*).

 

- قال (الوهّابي): سأحدّثك، أولاً، عن مفردات مذهبنا. إنّ المنحى العقائدي لدينا هو المسلك المعروف عند الشيخ ابن تيميّة. فمثلاً إنّنا لا نؤوّل الآيات القرآنية، بل نحملها على ظاهرها، فنثبت ما أثبته الله تعالى لذاته من يَدَين وعينَين وجهة الفوق والاستواء، كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿..يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ الفتح:10، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ النجم:7، وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ طه:5.

* فقلت (المسلم الشيعي): إنّ أخذ الآيات والروايات على دلالتها الحرفية من دون تأويلٍ أمر يرفضه العقل السليم قبل كلّ شيء، وترفضه سيرة العرب الذين كانوا يستخدمون الألفاظ في معانيها المجازية أكثر ممّا يستعملونها في الحقيقة. فقد ثبت في المباحث العقائدية أنّ الله تعالى ليس بجسم وإلّا للزمَ احتياج بعض الأجزاء إلى بعضها الآخر، وللزم كونه حادثاً؛ لأنّ الأجسام كلّها حادثة... إلخ.

وكلّ ذلك باطل. فالمراد من (يد الله) المعنى المجازي، أي قدرة الله، و(الاستواء) يعني الاستيلاء والسيطرة، و(الرؤية) تحمَل على الرؤية القلبية رؤية البصيرة، وهكذا بقيّة المجازات.

- دعنا نتحاور حول التوحيد، فهو جوهر الدين، إنّ التوحيد عندنا على قسمَين:

أ - توحيد الربوبية: أي إنّ الربّ هو الله تعالى وحده، فنوحّده في ربوبيّته.

ب - توحيد العبادة: بأن تكون العبادة كلّها لله تعالى.

* هذا الكلام يقوله كلّ المسلمين، ولا ميزة لكم فيه.

- نعم، ولكنّكم تعبدون الله تعالى عبر الوسائط، وهذا نوع شرك، فلم يتحقّق منكم التوحيد الخالص.

* ماذا تقصد بالوسائط؟

- كالأموات من الأولياء والصالحين، فإنّكم تتوسّلون بهم وهذا شِركٌ في العبادة، بل كفرٌ صريح.

* أرجو أن توضّح لي معنى الشرك والكفر عندكم، وبعدها سأجيبك عن موضوع الوسائط.

- الشرك عندنا على قسمين: أكبر وأصغر، الأكبر هو الشرك في العبادة، مثل الشفاعة والتوسّل بالأولياء. والأصغر، مثل: الحلف بغير الله والرياء.

والكفر عندنا على قسمين أيضاً: كفر مطلق، بأن يكفر الإنسان بجميع ما أتى به الرسول صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وكفر مقيَّد، بأن يكفر ببعض ما أتى به النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

* والمسلمون في نظركم؛ كفّار أم مشركون؟

- إنّهم على الشرك ما زالوا، لأنّهم لا يعبدون الله تعالى إلاّ عبر الوسائط والوسائل ويحلفون بغير الله تعالى.

* ليس هناك كفر مطلق وكفر مقيَّد كما تدّعي، فالكفر يقابل الإيمان، والكفر: عبارة عن عدم الإيمان ممّن شأنه أن يكون مؤمناً. والإيمان اصطلاحاً: التصديق والاعتقاد بكلّ ما جاء به النبيّ ولو إجمالاً. وعلى هذا، فالكفر معناه تكذيب ما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولا يوجد من المسلمين اليوم من يكذِّب رسول الله صلّى الله عليه وآله.

أمّا الشِّرك فهو أخصّ من الكفر، وهو أنواع:

أ - شرك في الذات الإلهية: بأن يعتقد الإنسان بوجود إلهَين أو أكثر.

ب - شرك في الصفات الإلهية: بأن يعتقد الإنسان بأنّ هناك مَن له نفس صفات الله.

ج - شرك في العبادة الإلهية: بأن يعبد مع الله إلهاً آخر أو يعبد غيره.

د - شرك بالاستعانة: يعتمد الإنسان على غير الله تعالى بنحوٍ مستقلّ، ويعتقد أنّه يؤثّر من دون الله تعالى.

فهذه الأقسام كلّها باطلة وهي من الشرك المحرّم. وأمّا الاستعانة بالله عبر الأسباب (كالأموات من الأولياء والصالحين أو الأوصياء) فهو ليس شِركاً، ومن موارده في قصّة يوسف عليه السلام، قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ..﴾ يوسف:42، وذلك عندما استعان برفيقه الذي كان معه في السجن كما حكى الله تعالى ذلك.

فهل يكون النبيّ يوسف عليه السلام، مشركاً لأنّه استعان بغير الله؟

يا أخي! إنّ الله تعالى خلق الكون عبر الأسباب والعِلل، وجعل كلّ شيءٍ ضمن هذا القانون العام، حتّى نصْر الأنبياء كان ضمن هذه المعادلة، وليس كلّ مَن استعان بسببٍ من الأسباب يوصَم بالشرك.

وأمّا توسّلنا بالأولياء فلأنّ لهم مقاماً شامخاً كريماً عند الله، ولهم الشفاعة أيضاً.

الشفاعة

- دعنا نتوقّف عند الشفاعة بما أنّك قد ذكرتها. كيف تستطيع أن توجّه موضوع الشفاعة، مع أنّها عقيدة باطلة؟ كيف يكتب الله تعالى على الإنسان أنّه من أهل النار ثمّ يقوم الشفيع بإخراجه منها، فهذا خلاف علم الله تعالى؟

* ولماذا تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ ألَمْ يقرع سمعك قول الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ طه:109، وقوله تعالى: ﴿..مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ..﴾ البقرة:255، وقوله تعالى: ﴿..وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ الأنبياء:28، والحديث المتّفق عند المسلمين: «لِكلِّ نبيٍّ دعوةٌ قد دعا بها فاسْتُجيب، فَجَعلتُ دَعوتِي شَفاعَتي لِأُمّتي يَومَ القِيامة».

فالشفاعة إذنٌ ورخصةٌ من الله تعالى يُعطيها لمَن رضيَ له قولاً ولمَن أذِنَ له، فبعد هذا الإذن الإلهي أصبحت الشفاعة من خصائص النبيّ أو الإمام ومن شؤونه، فنسأله في ذلك. فالشفيع ليس له أيّ تأثيرٍ لولا إذْن الله له، والشفيع لا يطلب من الله إبطال قانون العدل الإلهيّ، ولا أنّ شفاعته تخالف علم الله تعالى، بل يعمل الشفيع على أن:

أ - يتمسّك بصفات في المولى سبحانه عزّ وجلّ تُوجب العفو.

ب - أو يعرض صفات في العبد تستدعي العفو.

ج - أو يعرض صفاته؛ من قبيل قُربه من الله تعالى وكرامته عليه.

وهكذا تتمّ الشفاعة. فنحن نسأل النبيّ الشفاعة بعد التسليم بأنّها منحةٌ من الله تعالى. ثم إنّ محمّد بن عبد الوهّاب قد ذكر في (الهدية السنيّة) في الرسالة الثانية: «ونُثبت الشفاعة لنبيّنا محمّد يوم القيامة، ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد».

- ولكن كيف يغيّر النبيّ قضاء الله تعالى في المذنبين؟

* الشفاعة مثل التوبة، فإنّ التوبة تُغيِّر موضوع المذنب ليشمله العفو الإلهي، وكذلك الشفاعة، وهكذا الاستغفار.

- ولكن العفو والتجاوز من الله نفسه لا من غيره.

* الشفاعة أيضاً من الله تعالى. ألمْ تسمع الآيات؟

- نعم صحيح! وهذا كلام جميل، ولكن بقيت مفردة لم نتناولها في موضوع الأولياء.

* وما هي؟

- ألا تعتقد أنّ الاستغاثة بالأولياء في الدنيا مع أنّهم أموات أمر يرفضه العقل ولا يستسيغه؟ مضافاً إلى أنّ ذلك دعاءٌ لغير الله، وهو محرّم؛ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ الأعراف:197، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ..﴾ الأعراف:194، وواضح مدى شجب القرآن لهذه الظاهرة. فلماذا تخاطبون المعدومين إذن؟

* أولاً: الموت ليس عدماً كما تراه، بل هو نقلة من هذا العالم المادّي الطبيعي إلى عالمٍ آخَر، وهو عبارة عن انفصال الروح عن الجسد، لا موت الروح: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ..﴾ آل عمران:169.

ثانياً: لقد جَسَّد النبيّ صلّى الله عليه وآله، هذه العقيدة بقوله وفعله حيث قال: «زُوروا القُبور فإنَّها تُذكِّركُم بالآخِرة»، أخرجه النسائي في (السُّنن)، وابن ماجة في (السُّنن)، والغزالي في (إحياء العلوم).

وبفعله صلّى الله عليه وآله، عندما زار قبور شهداء أُحد وزار قبر أمّه السيّدة آمنة عليها السلام وبكى عندها، كما في (سيرة) ابن هشام، فإذا كان الموت عدماً، فلماذا يأمر النبيّ بزيارة القبور؟ ولماذا يمارس ذلك بنفسه؟

وثالثاً: إنّ الله تعالى هو الذي أجاز لنا ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة..﴾ المائدة:35.

والوسيلة هنا نوعان:

التوّسل إلى الله بالعمل الصالح، ولا إشكال فيه.

التوسّل إلى الله بالذوات، أي بالأشخاص.

والثاني ينقسم إلى نوعين:

قبل الموت: كما في قوله تعالى: ﴿..وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ النساء:64، وهذا أيضاً واضح.

بعد الموت، وهو جائز؛ لما عرفتَ من أنّ الموت ليس عدَماً وأنّ المسلمين كافّة يمارسون هذه العقيدة. وكما قالوا: إنّ أكبر دليل على إمكان الشيء وقوعُه، وقد عرفنا بالتجربة والوجدان أنّ الوليّ الميّت يؤثِّر ويجلب النفع ويدفع الضرّ بإذن الله تعالى. فإذا كان كذلك دعانا العقلُ إلى التوسّل به.

وروي أنّه «لمّا حجَّ المنصور العباسي وزار قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، سأل الإمام مالك، وقال: يا أبا عبد الله، أستقبلُ القبلةَ وأدعو، أم أستقبل رسولَ الله؟

فقال مالك: لِمَ تصرفُ وجهَك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله، بل استقبله»...

وقد عرفتَ سابقاً أنّ عقيدتنا في تأثير الأولياء كونها تأتي بعد الإذن والرُّخصة من الله تعالى، كما تؤثِّر الملائكة تماماً، فما المانع فيه؟ فكلّ إشكال تُورده هنا يرد على تصرّفات الملائكة أيضاً.

وأما الآية التي ذكرتها: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ..﴾ الأعراف:197، فقد نزلت وهي تشجب عمل المشركين الذين يعتقدون أنّ أصنامهم الحجرية، أو أنّ زعماءهم الوثنيّين يؤثّرون تأثيراً استقلالياً.

زيارة القبور والبناء عليها

- نعم، قد أتّفق معك في ذلك، ولكن هل تعتقد أنّ الوليّ الميّت بحاجة إلى النذور؟ ألا تعتقد أنّ النحر والقرابين للأولياء مشابه للقرابين التي كان يُقدِّمها المشركون لأصنامهم؟ أليسَ ذلك شركاً صريحاً منكم، مع أنّ الله تعالى يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ الكوثر:2، فالنحر لله وحده.

* حقيقة النذر أنّه لله تعالى وحده لا شريك له، ونحن عندما نَنحر أو ننذر للأولياء عليهم السلام، فإنّما النذر في الحقيقة لله تعالى، ولكن نهدي ثوابه لهم، صلوات الله عليهم، لا أكثر.

وأمّا ما استدلّ به البعض من قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، على أنّ الآية تتكلّم عن كون النَّحر لله تعالى، فغلط؛ إذ قد ورد في لغة العرب عن كلمة (النحر) معنى الاستقبال. تقول العرب: منازلنا تتناحر أي تتقابل، وجاءت هذه الكلمة في الآية بمعنى رفع اليدين إلى النَّحر كما روي عن الأئمّة عليهم السلام.

وأما اختيار بعض الأمكنة للنذر فطلباً لشرف المكان لكي يتضاعف ثواب العبادة، كما يُختار بعض الأزمنة الشريفة لأجل ذلك.

هذا وإن كان معنى (النَّحر) المراد منه في الآية نحر الحيوان، فهذا أيضاً لا بأس به، فقد عرفت أنّنا نَنحر لله تعالى ولكن نرفع ثواب هذا النّحر للولي، ونجعله باسمه تقرّباً إلى الله تعالى.

- ولكن قبل أن تتعدّد الفروع أعود معك إلى أصل زيارة القبور فإنّها قبيحة عقلاً؛ لأنّها تشبه عكوف المشركين على أصنامهم؛ ولذلك نهى صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، حتّى عن زيارته ومنع من شدّ الرحال إليه.

* قلت لك سابقاً إنّ الميّت ليس معدوماً بل هو كائنٌ حيّ بثوب آخر. ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، قد زار قبر أمّه وقبر عمّه حمزة، وزارت فاطمة الزهراء عليها السلام قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله كلّ يوم، وزار أمير المؤمنين عليه السلام قبر النبيّ وقبر فاطمة عليها السلام.

ويذكر السمهودي في (وفاء الوفاء) أنّ عُمر لمّا قدم من فتوح الشام كان أوّل ما بدأ بالمسجد والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقدوم بلال من الشام إلى المدينة لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، بل هذا ما دأب عليه المسلمون، بل العقل يدعو إلى تعظيم مَن عظّمهُ الله تعالى، والزيارة نوع تعظيم.

وأمّا قولك إنّها عكوفٌ كالمشركين، فأقول لك: إذا كان العكوف هو الذي جعل الزيارة شركاً، فالمسلمون كلّهم مشركون، لأنّهم يعكفون حول بيت الله تعالى.

فإذا قلت: إنّ الفرق بالقصد والنيّة، فإنّ المسلمين يقصدون الله وهم عاكفون حول البيت الحرام.

قلنا: أيضاً زيارتنا للقبور فيها قصد ونيّة لله تعالى، وهي بذلك تفترق عن المشركين.

وقد أخرج البيهقي والغزالي أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله، قال: «مَن زارني وَجَبَت لهُ شَفاعتي»، وقال: «مَنْ حَجَّ ولمْ يَزُرْنِي فَقد جَفانِي»، وقال: «زُوروا القُبورَ فإنَّها تُذكّركُم المَوت».

- أخبرني... لماذا تبنون على القبور مع أنّ هذا العمل فيه مخالفة شرعية صريحة لقوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: «أن لا أدع قبراً مُشرِفاً إلا سوّيته».

* أولاً: سند الحديث ضعيف بل راويه (أبو الهياج) الذي قال في حقّه أحمد بن حنبل: إنّه أخطأ في خمسمائة حديث. وفي سنده سفيان الثوري المدلّس، وفي سنده أبو وائل وهو مبغض لعليٍّ عليه السلام...إلخ.

ثانياً: أمّا متن الحديث، فإنّ لفظة (التسوية) تعني الاعتدال بين الارتفاع العظيم وبين الهدم الماحي للأثَر، والدليل أنّ الشريعة الإسلامية جاءت باستحباب رفع القبر شبراً أو أربع أصابع عن الأرض. فالشريعة أقرّت البناء المرتفع عن الأرض بهذا المقدار، فالحديث الذي استدللتَ به لا ربط له بعدم جواز البناء أبداً.

ثالثاً: نقول: لسنا (الشيعة) المنفردين بالبناء على القبور، فهذا قبر النبيّ إبراهيم عليه السلام، في الأردن له قباب وأضرحة، وقبر موسى عليه السلام، في الأردن [هذان القبران منسوبان إليهما عليهما السلام] بين القدس وعمّان له بناية كبيرة، وقبر أبي حنيفة ببغداد، وقبر أبي هريرة في مصر، وقبر عبد القادر في بغداد، فضلاً عن قبور الملوك والعظماء، ولم يعترض على هذه الأبنية من المسلمين أحد، فالأصل الجواز.

رابعاً: بناء قبور الأنبياء والأولياء والعظماء دليل اهتمام الأمّة بأولئك العظام، وإرشاد الناس إليهم وربطهم بهم من خلال هذه الأضرحة، فالاهتمام بالقبور يمثِّل حالة حضارية ومدنية، وتخليداً لذكرى الصالحين وتدويناً لتاريخ الأمّة.

- ولكنّكم لا تكتفون بالبناء بل تسرفون الأموال على تزيين هذه القبور بمختلف الزينة، وهذا محرّم قطعاً لأنّه إسراف واضح، مع عدم حاجة الوليّ إليه ولا ينتفع به.

* إذا كان اعتراضك على الزينة الذهبية والإضاءة الكهربائية وبقيّة الأشياء التي تُزيّن قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، فماذا تقول عن حلَل الكعبة التي تعادل قيمتها الملايين؟ فإذا كان اعتراضك على زينة الأضرحة أنّ الميّت لا يستفيد منها فكذا الحال في حلل الكعبة التي تُبدّل كلّ عام، وهكذا في الهدايا الثمينة التي كانت تُهدى إلى بيت الله الحرام من أيام الجاهلية وإلى اليوم، فقد وجد رسول الله صلّى الله عليه وآله، سبعين ألف أوقيّة من الذهب، فقيل له: لو استعنتَ بها على حروبك، فلم يفعل وأبقاها على حالها، وكذا الخليفة الأول، فهذه الزينة نوع من إبراز التعظيم ورفع شعيرة من الشعائر.

وكلّ إشكال تورده على زينة قبور الأولياء فهو بنفسه يرد على زينة بيت الله الحرام مع عدم حاجة الله إليها، ثمّ إنّنا لم ندّعِ أنّ الميّت يستفيد منها كما تزعم، وإنّما هي مجموع هدايا وهبات أو تسهيل الأمر للزائرين بالنسبة إلى الإضاءة وما شابه.

_______________________________________

* من كتابه (حوار عقائدي حول التوسُّل بالأولياء والصالحين)

 

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

نفحات