بصائر

بصائر

01/08/2016

الفقر شعارُ الصالحين


الأمرُ أعجلُ من هذا!

الفقر شعارُ الصالحين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفقيه ابن فهد الحلّيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من كتاب (عدّة الداعي ونجاح الساعي) للفقيه الشيخ أحمد بن فهد الحلّي قدّس سرّه المتوفّى سنة 841 للهجرة، هذا المقال حول فوائد الفقر ومساوئ الغِنى ووجوب التخفّف والتحرّز من فضول الدنيا، تأسّياً بالأنبياء والأوصياء في الإعراض عنها وفي دوام استحضار الآخرة.

إيّاك أن تأخذَ بقولِ مَن يقول: «أنا أتنعّم في الدنيا بما أباحه الله تعالى، وأقوم بالواجبات، وإخراج الحقوق؛ فأتنعّم بما أباحه الله من طيّب المآكل‏ اللذيذة، والملابس السنيّة، والمراكب الفاخرة، والدُّور العامرة، والقصور الباهرة، ولا يمنعني ذلك من الاستباق إلى الجنّة مع السابقين»! بل ينبغي أن تعلم أنّ هذه مقالةُ أهل حُمْقٍ وغُرور، وذلك من وجوه:

الأوّل: إنَّ المتوغّل‏ في فضول الدنيا لا ينفكّ عن الحرص المُهْلِك المُوقِع في الشُّبهات، ومَن تورّط في الشُّبهات هلكَ لا محالة.

الثاني: إنْ سَلِمَ من الحرص - وأنّى له بالسلامة عنه - لم يسلَم من الفظاظة وقساوة القلب والتكبّر. كيف لا وهو تعالى يقول: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ (العلق:6-7).

وقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآله‏: «إِيَّاكُمْ وفُضُولَ الْمَطْعَمِ، فَإِنَّهُ يَسِمُ الْقَلْبَ بِالْقَسْوَةِ».

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال:‏ «فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، غُدْوَةً، رَغِيفاً مِنْ شَعِيرٍ، وعَشِيَّةً، رَغِيفاً مِنْ شَعِيرٍ، ولَا تَرْزُقْنِي فَوْقَ ذَلِكَ فَأَطْغَى».‏

وكما أنّ الخائض في الماء يَجِدُ بَلَلاً لا محالة، كذلك صاحبُ الدنيا يَجِدُ على قلبه رَيناً وقسوةً لا محالة.

الثالث: أن يَخرج من قلبه حلاوةُ العبادة والدعاء، وقد نبّه عليه عيسى عليه السلام فيما عرفت. الرابع: شدّة الحسرة عند مفارقة الدنيا، والفقير على العكس من ذلك. عن الصادق عليه السلام: «مَنْ كَثُرَ اشْتِبَاكُهُ بِالدُّنْيَا كَانَ أَشَدَّ حَسْرَةً عِنْدَ فِرَاقِهَا».

الخامس: كون الفقراء هم السابقون إلى الجنّة، والأغنياءُ في ساحة المحشر للحساب. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا؛ إِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ‏».

وتحسّر سلمان الفارسيّ رضوان الله عليه عند موته، فقيل له: على ما تأسُّفك يا أبا عبد الله؟

قال: ليس تأسُّفي على الدنيا، ولكنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله عَهِدَ إلينا وقال: (لِتَكُنْ بُلْغَةُ أَحَدِكُم كَزادِ الرّاكِب)، وأخافُ أن نكون قد جاوزنا أمره وحولي هذه الأساود. وأشار إلى ما في بيته؛ وإذا هو دَسْتٌ‏ (وسادة) وسيفٌ، وجَفنة (قصعة).

وقال أبو ذرّ رضوان الله عليه: «يَا رَسُولَ اللهِ، الْخَائِفُونَ الْخَاشِعُونَ الْمُتَوَاضِعُونَ الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيراً يَسْبِقُونَ النَّاسَ إِلَى الْجَنَّةِ؟

فقال صلّى الله عليه وآله: لَا، ولَكِنْ فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْتُونَ فَيَتَخَطَّوْنَ رِقَابَ النَّاسِ، فَيَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: كَمَا أَنْتُمْ حَتَّى تُحَاسَبُوا. فَيَقُولُونَ: بِمَ نُحَاسَبُ؟ فَوَاللهِ مَا مَلِكْنَا فَنَجُورَ ونَعْدِلَ، ولَا أُفِيضَ عَلَيْنَا فَنَقْبِضَ ونَبْسُطَ، ولَكِنْ عَبَدْنَا رَبَّنَا حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ‏».

وروى الكلينيّ عن الصادق عليه السلام، قال: «إِنَّ الْفُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ لَيَتَقَلَّبُونَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً». ثمّ قال عليه السلام: «سَأَضْرِبُ لَكُمْ مَثَلًا؛ إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ سَفِينَتَيْنِ مُرَّ بِهِمَا عَلَى بَاخِسٍ (الذي يقتطع الضريبة) فَنَظَرَ فِي إِحْدَاهُمَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئاً، فَقَالَ أَسْرِبُوهَا (أي سيّروها)، ونَظَرَ فِي الْأُخْرَى فَإِذَا هِيَ مُوقَرَةٌ (أي مثقلة بالأحمال) فَقَالَ احْبِسُوهَا».

السادس: مصادفة إكرام الله الفقير يوم القيامة وتعطّفه عليه.

السابع: إنّ الفقر حُليَةُ الأولياء وشعارُ الصالحين. ففيما أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: «إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ: مَرْحَباً بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ، وإِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ».

ثم انظر في قَصص الأنبياء عليهم السلام وخَصاصتهم وما كانوا فيه من ضِيق العيش:‏

* فهذا موسى كليمُ الله عليه السلام، كان يُرى خضرةُ البَقل من صِفاقِ‏ بطنه من هُزاله.

* وعيسى روح الله وكلمتُه فإنّه كان يقول: «..إِدَامِيَ الْجُوعُ وشِعَارِيَ الْخَوْفُ ولِبَاسِيَ الصُّوفُ.. أَبِيتُ ولَيْسَ لِي شَيْ‏ءٌ، وأُصْبِحُ ولَيْسَ لِي شَيْ‏ءٌ، ولَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَغْنَى مِنِّي‏». وقال للحواريّين: «ارْضَوْا بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ دِينِكُمْ كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بِدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ، وتَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ، وأَرْضُوا اللهَ فِي سَخَطِهِم..».

 * وأما نوحٌ عليه السلام مع كونه شيخ المرسلين وعمّر في الدنيا مديداً، فقد مضى عنها‏ ولم يبنِ فيها بيتاً، وكان إذا أصبح يقول: «لا أُمْسِي»، وإذا أمسى يقول: «لا أُصْبِحُ».‏

* وكذلك نبيّنا محمّدٌ صلّى الله عليه وآله، يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام: «.. خَرَجَ مِنَ الدُّنيا وَلَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا حَجَرَاً عَلَى حَجَرٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزَ البُرِّ [أي القمح] قَطُّ، وَلَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ قَطُّ». ورأى صلّى الله عليه وآله رجلاً من أصحابه يبني بيتاً بجِصٍّ وآجُرّ، فقال له: «الأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ هَذَا»!

* وأما إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام فقد كان لباسُه الصّوف وأكلُه الشعير.

* ويحيى بن زكريا عليه السلام كان لباسُه اللّيف، وأكْله ورقُ الشجر.

* وسليمان عليه السلام، فقد كان - مع ما هو فيه من المُلك - يلبسُ الشَّعر، وإذا جنَّه اللّيلُ شدَّ يدَيه إلى عُنقه، فلا يزال قائماً حتّى يُصبح باكياً، وكان قوتُه من سفائف الخَوص‏ يعملها بيده. (أي يصنع السلال من ورق النخيل ويعتاش من بيعها، وروي مثله في أبيه داوود عليهما السلام).

* وأمّا عليٌّ سيّد الوصيّين، وتاجُ العارفين، ووصيّ رسول ربّ العالمين عليه السلام، فحالُه في الزهد والتقشُّف أظهر من أن يُحكى‏. قال سويد بن غفلة: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بعدما بُويع بالخلافة، وهو جالسٌ على حصيرٍ صغيرٍ ليس في البيت غيرُه. فقلت: يا أمير المؤمنين، بيدك بيتُ المال، ولست أرى في بيتك شيئاً مّما يحتاج إليه البيت. فقال عليه السلام:

«يَا ابْنَ غَفَلَةَ، إِنَّ اللَّبِيبَ لا يَتَأَثَّثُ فِي دَارِ النُّقْلَةِ، ولَنَا دَارٌ قَدْ نَقَلْنَا إِلَيْهَا خَيْرَ مَتَاعِنَا، وإِنَّا عَنْ قَلِيلٍ إِلَيْهَا صَائِرُونَ».

فليَنظُر العاقلُ بعينٍ صافية وفكرةٍ سليمة، ويتحقّق (أي يتأكّد) أنّه لو يكون في الدنيا - والإكثار منها خير - لم يَفُت هؤلاء الذين هم خاصّةُ الخلق وحُجَجُ الله على سائر الناس، بل تقرّبوا إلى الله بالبُعد عنها؛ حتّى قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَا يُعْبَدُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا». وقال أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً الدنيا: «قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا».

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

نفحات