التعرُّف قبل الحوار

التعرُّف قبل الحوار

03/07/2011

الإيمان والمعرفة من مُقتضياته


محمود حيدر*

«من لوازم الحوار المؤسَّس على العقلانيّة الدينيّة، اقتران الإيمان بالمعرفة. فلا يستوي مِثلُ هذا التّحاور، ما لم تتلازم هاتان القيمتان لتغدوا معاً أساس كُلّ لقاء».
تتناول هذه المقاربة، ضرورة التعرُّف على الآخر –قبل لقائه أو محاورته- وفي مستلزمات هذا التعرُّف.

إذا كان لثقافة الحوار من مكانة بيّنة في حقوق التّداول المعاصر، فمردُّها إلى الإحتدامات التي تشهدها المجالات الحضاريّة والدينيّة والثّقافيّة في مطلع القرن الجاري.
ذلك يعني أنّ البيئة التي تعصفُ بها الأزمات، هي من وجه معيَّن بيئة سلبيّة، دفعها الإختصام بين ساكنيها إلى جعل التّحاور سبيلاً إلى المصالحة ولمَّ الشّمل.
الشيء نفسُهُ يسري أيضاً على منطق التّحاور في بيئات حضاريّة ودينيّة، وبين دول ومجتمعات لها تحيّزاتها المعرفيّة والإيديولوجيّة، وشبكة المصالح التي تؤلَّف بين أبنائها.
في مقام حوار الأديان الذي يشهدُ حساسيّةً خاصّة اليوم، تبدو الصورة الإشكالية ذات بُعد معرفي من الدرجة الأولى. فلو دخلنا في تأصيل هذا البُعد، لوجدنا أنّ من لوازم الحوار المؤسَّس على العقلانيّة الدينيّة، اقتران الإيمان بالمعرفة. فلا يستوي مِثلُ هذا التّحاور، ما لم تتلازم هاتان القيمتان لتغدوا معاً أساس كُلّ لقاء.
حين يكون مقتضى التعرُّف، التلازم الذي لا ينفكّ بين الإيمان والمعرفة، تكون حرّية المتعرِّف أوّل حاصل لمثل هذا التلازم، بها يفارِق خشيته وتريُّبه من أنّ اللقاء مع ثقافة المتعرَّف قد يُلحق الأذى بثقافته الدينية وإيمانه. فالحرّية  التي يجري تحصيلها بفضل هذا التلازم، تجعل كلّاً من فريقَي التعرُّف أن يكون على ثقة من أنّ دخوله إلى الدائرة التي يجري فيها استكشاف ما هو مجهول بالنسبة إليه، إنّما هو عملية ضرورية لتحصين معرفته وإيمانه من شوائب الجهل. وبهذا السياق، يصبح دخول فضاء التعرُّف واجباً يفتح على سَفَر إدراكي يعود بحصاده الوفير لمصلحة الذات المتعرّفة نفسها.
ذلك يعني أنّ التعرُّف المؤيَّد بالحرّية المدرِكة والواعية، هو عمليّة مركّبة: من جهة تلبّي الحاجة إلى التواصل واللّقاء الذي تفترضه ضرورات الحياة ضمن جغرافيا حضاريّة ودينيّة مشتركة، ومن جهة ثانية تُنجَز الحاجة إلى فهم ما كان غير مفهوم من المعارف الإيمانية والدينية والحضارية للفريق الآخر.
حين تصير الحرية شرطاً مقوِّماً للإيمان والمعرفة، نصل الى ذلك المثلّث الذي لا يستوي التعرُّف إلى نصاب العدل إلّا باجتماع أركانه معاً: الإيمان، والمعرفة، والحرّية. عندئذٍ يتوفّر للمُلتقِين الحقلُ الذي ينأى بهم من شوائب الحذر والخشية، وتخلو لهم مساحة من  الرحمانية لتبادل المعارف وإنجاز القضايا المشتركة.
إلى ذلك، فإنّ من لوازم التعرّف الذي يسبق أيَّ حوار، أن يتوفّر ما نُسميه بـ «سعة النظر». وهذه القيمة الأخلاقيّة المعرفيّة هي ركيزة أساسيّة من مرتكزات التعرُّف. وقوامُها أن يحوز طرفا العلاقة على وعي مسبق بضرورتها. وفي تصوّرنا أنّه مثل هذا الوعي  لن يتحقّق إلّا بشرط اللقاء بين جدولين متآخيين:
أ‌- جدول الفضيلة: ومنشأه الفطرة الخيَّرة الكامنة في ذات الإنسان. منها يستمدّ الفضائل، وبها يحسُنُ السيرُ ويتجمَّلُ السلوك. فكلّما نمّاها ووسَّعها فاضت عليه بالتخلُّق والغيريّة.
ب- جدول المعرفة: وهو مركّب من خطّين متلازمين تلازماً ذاتيّاً: معرفة الذات ومعرفة الغير. وكلٌّ من هذين الخطّين يتأتّى من النظر في العلوم والمعارف على سبيل التعلُّم والإكتساب، كما يتأتّى من الخبرة والمعاينة والتواصل.
متى حاز المُتعرَّف الجمع بين جدولي الفضيلة والمعرفة، تحقّق له الطَورُ الأوّل من سعة النظر، فقد أنجز بذلك حقل إدراك زاخرٍ بقابليّات النموّ، والإستعداد، والتوسّع والشّمول.
الكلام على هذه المطارحات يكتسبُ أهمّيته الإستثنائية اليوم في سياق النقاش حول حوار الأديان. ولعلّ ما يمنح أطروحة التعرّف أولويّتها الخاصة، أنّها تكشف عن واحد من أهمّ وأبرز عوامل القطيعة بين الأديان الكبرى، أي ما كان  التحاور فيه يجري على قاعدة الجهل المتبادل. وهو ما قصدناه بواجبيّة الإلتزام بقاعدة التعرّف لتجاوز الجهل، ومعرفة الذّات، وحقيقة الآخر قبل الشروع بأيّ حوار.
ذلك أيضاً ما وجدناه في تصدير هذه المقالة، باعتبار الأولويّة للتعرُّف الذي يسبق كلَّ تحاور خلاّق.

* رئيس «مركز دلتا» للأبحاث المعمّقة.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

03/07/2011

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

03/07/2011

  كتب عربية

كتب عربية

03/07/2011

نفحات