فكر ونظر

فكر ونظر

31/08/2016

طُرق «حديث الغدير»، ودلالته


ثبوتُ «الإمامة» بالقطع واليقين

طُرق «حديث الغدير»، ودلالته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المحقّق الشيخ يوسف البحرانيّ قدّس سرّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

هذا النصّ للفقيه المحقّق والمحدّث الشيخ يوسف البحراني قدّس سرّه (ت: 1186 للهجرة)، يتناول تواتر «حديث الغدير» من طُرق علماء المسلمين السنة، ومن ثمّ يستعرض آراءهم في دلالته، مناقشاً تأويلاتهم بعد قَطْعهم بصدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

نشير إلى أن المحقّق البحراني هو صاحب الموسوعة الفقهيّة (الحدائق الناضرة)، وهذا المقال مختصر من أحد فصول كتابه (الشّهاب الثّاقب في بيان معنى النّاصب).

«شعائر»

 

اعلم أنّ حديث الغدير الدالّ على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، صلوات الله عليه، قد تواتر من طريق العامّة، وقد دوّنوا الكتب المجلّدة في بيان صحّته وضبط رواته، وصنّفوا المجلّدات المتعدّدة في إيضاح طُرقه وتمييز ضعاف رواته من ثقاته.

قال سيّدنا الزاهد العابد الثقة الأمين المجاهد، رضيّ الدين عليّ بن طاوس عليه الرحمة، في كتاب (الإقبال)، في تعداد من صنّف في ذلك من علماء العامّة ما لفظه:

«فمن ذلك ما صنّفه أبو سعيد مسعود بن ناصر السجستانيّ، المخالف لأهل البيت في عقيدته، المتّفق عند أهل المعرفة على صحّة ما يرويه لأهل البيت لأمانته، صنّف كتاباً سمّاه (كتاب الدراية في حديث الولاية)، وهو سبعة عشر جزءاً، فروى فيه حديث نصّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بتلك المناقب والمراتب على مولانا عليّ بن أبي طالب، عليه السلام، من مائة وعشرين نفساً من الصحابة.

ومن ذلك ما رواه محمّد بن جرير الطبريّ صاحب كتاب (التاريخ)، صنّفه وسمّاه (كتاب الردّ على الحرقوصيّة)، روى فيه حديث يوم الغدير وما نصّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، على عليٍّ، عليه السلام، بالولاية والمقام الكبير، روى ذلك عن خمس وسبعين طريقاً.

ومن ذلك ما رواه أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكانيّ، في كتابٍ سمّاه (كتاب دعاء الهداة إلى أداء حقّ الولاة).

ومن ذلك الذي لم يكن مثله في زمانه، أبو العبّاس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ، الذي زكّاه وشهد بعلمه الخطيب مصنّف (تاريخ بغداد)، فإنّه صنّف كتاباً سمّاه (حديث الولاية)... وقد روى فيه نصّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، على مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بالولاية من مائة وخمس طرق...».

أقول: ورواه ابن المغازليّ الشافعيّ في كتاب (المناقب) من اثني عشر طريقاً، ثمّ قال بعد روايته: «هذا حديث صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وقد روى حديث غدير خمّ عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، نحو مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة، تفرّد عليٌّ عليه السلام بهذه الفضيلة، لم يشركه فيها أحد».

وفي (الصواعق المحرقة) لابن حجر: «إنّه حديث صحيح لا مِرية فيه، وطرقه كثيرة جدّاً، وكثير من أسانيدها صحاحٌ أو حِسان، وإنّه لا التفات إلى من قدح في صحّته، ولا لمن ردّه بأنّ عليّاً كان باليمن لثبوت رجوعه منها، وإدراكه الحجّ مع النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم».

وقال شيخنا أبو الحسن سليمان بن عبد الله البحراني، طيّب الله مضجعه، في كتاب (الأربعين)، الذي صنّفه في الإمامة من طرق القوم: «وقد حضرني في هذا الوقت من طرق هذا الخبر الوارد من جهتهم نحو من مائة طريق أو يزيد على ذلك».

وقال القاضي نور الله الشوشتريّ، رحمه الله تعالى، في كتاب (إحقاق الحقّ)، ما صورته: «وذكر الشيخ ابن كثير الشاميّ الشافعيّ عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطبريّ الشافعيّ، أنّي رأيت كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلّدين ضخمين، وكتاباً جمع فيه طُرق (حديث الطير)، ونقل عن أبي المعالي الجوينيّ أنّه كان يتعجّب، ويقول: شاهدت مجلّداً ببغداد في يد صحّاف فيه روايات هذا الخبر، مكتوب عليه المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق (مَنْ كُنْتُ مَوْلاه فَعَلِيٌّ مَوْلاه) ويتلوه المجلّدة التاسعة والعشرون، وأثبت ابن الجوزيّ الشافعيّ في رسالته الموسومة بـ(أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب)، تواتر هذا الحديث من طرق كثيرة، ونَسب مُنكرُه إلى الجهل والعصبيّة».

 

 

دلالة الحديث

إذا تمهّد ذلك، فاعلم أنّه قد اضطرب كلامهم في التقصّي عن الجواب، عمّا دلّ عليه هذا الحديث المستطاب.

* فذهب بعضُ مَن قادته يد الشقاوة الأبديّة إلى إنكاره بالكلّية، كما صرّح به الغويّ العنيد علي القوشجيّ في (شرح التجريد)، حيث قال: «إنّه غير صحيح ولم تنقله الثقات»!

ولله درّ شيخنا في (أربعينه) المشار إليه آنفاً، حيث قال بعد نقل ذلك عنه: «وقول القوشجيّ ممّا يشهد عليه بمحوضة جهالته، وينادي بصرافة غوايته وسذاجة ضلالته، وما ظننت أنّ أحداً من العوامّ يقدم على هذا الكلام عمّن يدّعي الانتظام في سلك الأعلام، والانخراط في عقد أُولي الأفهام، ويتصدّى لمقام النقض والإبرام».

* وذهب بعضٌ آخر إلى حمله على قصّة أُخرى، كما أجاب به ابن الأثير في (نهايته) بل غوايته، مِن حَمْل «المولى» في الخبر على المعتق، وحكى عن بعضهم أنّ سبب ذلك أنّ أُسامة قال لعليٍّ: «لستَ مولاي إنّما مولاي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: مَنْ كُنْتُ مَوْلاه فَعَلِيٌّ مَوْلاه».

فانظر إلى هذا التأويل البارد الواهي، الدالّ على نصبه وضلاله المتناهي؛ إذ لا يخفى على مَن له أدنى مسكة من العقول، أو رويّة في معقول أو منقول، أنّ من المقطوع بفساده أنّه صلّى الله عليه وآله، ينزل في وقت الظهيرة على غير ماءٍ ولا كَلَأ، ويصعد على منبرٍ من الرّحال، ويوقف هناك جملة مَن معه من النساء والرجال، ويرفع عليّاً عليه السلام بضبعه ويخطب تلك الخطبة الطويلة، كما رووا جميع ذلك في مسانيدهم وأصحّتهم لأجل بيان هذا المعنى البعيد الشارد، الذي تكلّفه هذا الضالّ المعاند...

* وذهب بعضٌ إلى تأويله بحمل المولى على الناصر. وفيه ما سبق من التنافر الظاهر، كيف وذلك أمر عامّ في جميع المؤمنين، كما قال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ..﴾ التوبة:71، على أنّهم قد رووا أنّه في تلك الحال نزل قوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً﴾ المائدة:3، فقال صلّى الله عليه وآله: «الحَمْدُ لله على إتْمامِ النِّعْمَةِ، وإِكمالِ الدِّينِ، ورِضا رَبِّ العَالَمين بِرِسالَتِي والمُوالاةِ لِعَلِيٍّ».

ورووا أيضاً تهنئة عمر بن الخطّاب للأمير عليه السلام، حتّى قال: «بخٍ بخٍ لكَ يا أبا الحَسَن، أصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلى كُلِّ مُؤْمِنٍ ومُؤمِنَة».

وأيّ وجه لترتّب هذه الأشياء على تلك المعاني التي ذكروها؟! بل ترتّبها إنّما يأتي على ذلك المعنى الصحيح الصريح، وهو أنّ المولى بمعنى الأَولى بالتصرّف، كما هو المراد من صدر الخبر، وهو قوله صلّى الله عليه وآله: «أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُم مِن أَنْفُسِكُمْ؟» أي: أوْلى بالتصرّف فيكم منكم في أنفسكم، فلمّا أجابوا بقولهم: «بلى يا رسول الله» قال: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاه فَعَلِيٌّ مَوْلاه»، أي: مَن كنتُ أوْلى بالتصرّف فيه، فعليٌّ أولى بالتصرّف فيه.

* وذهب بعضٌ إلى الحكم بصحّته وصراحته في المطلوب، ولكن حمل المخالفة فيه على الاجتهاد في الدين، والسعي في تحصيل المصلحة للمسلمين...

* وذهب بعضٌ بعد الاعتراف أيضاً بصحّته وصراحته إلى خطئهم في المخالفة، وأنّ ذلك من قبيل المعاصي الصادرة من الأنبياء، وقد نقل ذلك بعض أصحابنا عن الشيخ الجزريّ الشافعيّ، ونقل عنه أنّه قال بعد اعتذاره عنهم: «فلا يوجِب قدحاً فيهم ولا في خلافتهم».

أقول: والظاهر أنّهم إنّما جوّزوا المعاصي على الأنبياء عليهم السلام، لقصد سدّ هذه الثلمة، وتنوير هذه الظلمة، فانظر رحمك الله تعالى بعين الإنصاف إلى هذه الأجوبة والاعتذارات...

قال مولانا محمّد باقر المجلسيّ رحمه الله، في كتاب (بحار الأنوار)، بعدما نقلَ جملةً وافية من الأخبار، وأبحاثاً شافية واضحة المنار: «لا يخفى على من شمّ رائحة الإنصاف أنّ تلك الوجوه التي نقلناها عن القوم مع تتميماتٍ ألحقناها بها، ونكاتٍ تفرّدنا بإيرادها، لو كان كلّ منها ممّا يُمكن لمباهت ومعاند أن يناقش فيها، فبعد اجتماعها وتعاضد بعضها ببعض، لا يبقى لأحد مجال الريب فيها.

والعجب من هؤلاء المخالفين مع ادّعائهم غاية الفضل والكمال، كيف طاوعتهم أنفسهم أن يبدوا في مقابلة تلك الدلائل والبراهين احتمالاتٍ يحكم كلّ عقل باستحالتها؟!

ولو كان مجرّد التمسّك بذيل الجهالات، والالتجاء بمحض الاحتمالات، ممّا يكفي لدفع الاستدلالات، لم يبق شيء من الدلائل إلّا ولمباهت فيه مجال، ولا شيء من البراهين إلّا ولجاهل فيه مقال، فكيف يثبتون الصانع ويقيمون البراهين فيه على الملحدين؟ وكيف يتكلّمون في إثبات النبوّة وغيرها من مقاصد الدين؟ أعاذنا الله وإيّاهم من العصبيّة والعناد، ووفّقنا جميعاً لما يهدي إلى الرشاد».

وقال الوزير السعيد علي بن عيسى الأربليّ قدّس سرّه، في كتاب (كشف الغمّة): «ومن أغرب الأشياء وأعجبها أنّهم يقولون: إنّه صلّى الله عليه وآله قال في مرضه: (مُروا أَبا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ)، وهو نصّ خفيّ في توليته وتقليده الإمامة، وهو على تقدير صحّته لا يدلّ على ذلك، ومتى سمعوا حديثاً في أمر عليٍّ عليه السلام، نقلوه عن وجهه، وصرفوه عن مدلوله، فأخذوا في تأويله بأبعد محتملاته، منكبّين عن المفهوم من صريحه، وطعنوا في راويه وضعّفوه، وإن كان من أعيان رجالهم وذوي الأمانة في غير ذلك».

وقال الشريف القاضي نور الله الشوشتريّ، بَرَّدَ الله مضجعه، في كتاب (مصائب النواصب)، بعد ذكر كلام في المقام: «وإذا وجدوا شيئاً ورد في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم، قد استدلّ به الشيعة على فضيلتهم وأحقّيّتهم، مع أنّهم رووه أيضاً قبل ذلك، يردّونه حينئذٍ بضعف الراوي، وتارة بالتعميم، وتارة بالتأويل، كأنّهم مفوّضون في أمر الدين».

وقال قدّس سرّه، في كتاب (إحقاق الحقّ) في الكلام في غصب فدك: «ومِن أفحش تعصّبات صاحب المواقف في هذا المقام، أنّه بعدما منع عصمة فاطمة عليها السلام، بحمل قوله صلّى الله عليه وآله (فاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنّي) على المجاز، قال: (وأيضاً عصمة النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قد تقدّم ما فيه). فلينظر العاقل المؤمن إلى هذا الرجل المتعصّب أنّه يقدح في عصمة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وابنته، لئلّا يلزم قدحٌ في [فلان]، فأيّ عصبيّة وظلم يزيد على هذا؟!..».

وبالجملة فإنّهم لمّا عرفوا صحّة الحديث من طُرقهم واشتهاره، ولم يمكنهم لذلك إخفاؤه وإنكاره، عمدوا إليه ليطفئوا بتلك التأويلات أنواره، فليت شعري لو أنّهم اتّفقوا سلفاً وخلفاً على إنكاره بالكلّية... لكان ذلك أليَق بشأنهم، وأولى بنقصانهم، ولكن أبى الله سبحانه إلّا إظهار الحقّ على ألسنتهم...

إذا عرفت ما تلوناه عليك، وتدبّرت ما سطّرناه لديك، ظهر لك أنّ ثبوت الإمامة من أهمِّ ضرورات الدين المحمّدي، وليس المراد من الضروريّ هنا هو المعنى المراد عند أهل المعقول، وهو المستغني عن الدليل، المتبادر من بديهة العقول، بل المراد به ما تواتر دليله واتّضح سبيله، وصار بالنسبة إلى ذلك الدليل المبين معلوماً على القطع باليقين.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

31/08/2016

دوريات

نفحات