الملف

الملف

29/09/2016

إعادة التأسيس النبويّ في مواجهة الانحراف الأمويّ


خطبة الإمام الحسين عليه السلام في الحجّ، في زمن معاوية

إعادة التأسيس النبويّ في مواجهة الانحراف الأمويّ

 

اقرأ في الملف

استهلال

 

الجوّ السياسيّ قبل خطبة الإمام الحسين عليه السلام

تنسيق: «شعائر»

خطبة الإمام الحسين عليه السلام في «مِنى»

 

يا ليتنا كنّا معكَ...

الشيخ حسين كوراني

رَيحانةُ النبيّ في كربلاء

المستشار عبد الحليم الجندي

 

استهلال

رُوي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام، قال:

ضمّني والدي عليه السلام إلى صدره يوم قُتل، والدماءُ تغلي، وهو يقول:

يا بُنَيَّ! احْفَظْ عَنّي دُعاءً عَلَّمَتْنيهِ فاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلامُ، وَعَلَّمَها رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله، وَعَلَّمَهُ جَبْرَئيلُ؛ فِي الْحاجَةِ وَالْمُهِمِّ وَالْغَمِّ وَالنّازِلَةِ إِذا نَزَلَتْ، وَالأَمْرِ الْعَظيمِ الْفادِحِ.

قال: ادْعُ بِحَقِّ (يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ)، وَبِحَقِّ (طه)، (وَالْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ)، يا مَنْ يَقْدِرُ عَلى حَوائِجِ الْسائِلينَ، يا مَنْ يَعْلَمُ ما فِي الضَّميرِ، يا مُنَفِّسَ عَنِ الْمَكْرُوبينَ، يا مُفَرِّجَ عَنِ الْمَغْمُومينَ، يا راحِمَ الشَّيْخِ الْكَبيرِ، يا رازِقَ الطِّفْلِ الصَّغيرِ، يا مَنْ لا يَحْتاجُ إِلَى التَّفْسيرِ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّدِ، وَافْعَلْ بي كَذا وَكَذا.

 

 

 

الجوّ السياسيّ العام قبل خطبة الإمام الحسين عليه السلام

ضراوةُ التحريف الأموي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ تنسيق: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* حين يستعيد المسلمون اليوم خطبة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، التي ألقاها أمام جمعٍ غفير من خيرة الأصحاب قبل عامٍ من موت معاوية بن أبي سفيان، فلا مناصَ من أن يتوقّفوا مليّاً على عمق دلالاتها، ومبانيها، وعظَمة مقاصدها.

فلقد جاءت الخطبة عند منعطف لحظة تاريخية بدا معها الإسلام أمام مفترقٍ خطير، إمّا العودة إلى الوحي الإلهي ومكارم الأخلاق المحمّدية، وإمّا الانسياق في المسار الانحرافي الذي أسّست له السلطة الأموية.

كان كلّ شيء في تلك اللحظة من تاريخ الإسلام يومئ إلى الخطر المحدق بالأمّة؛ من تحريف الشريعة الإلهية وتوظيفها في خدمة الاستبداد الأموي ومصالحه الدنيوية، إلى الانقلاب الشامل على قيم العدل والرحمة التي أرسى أسُسها النبيّ الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم.

أراد الإمام الحسين عليه السلام، أن يذكّر المسلمين بالحقيقة الدامغة في المكان الأطهر من أرض الله. وما ذاك إلّا لأنّ الجهر بكلمة الحقّ في عاصمة الوحي مكّة المكرّمة، له مغزاه وعظمته وأثره العميق في وجدان المسلمين.

في تلك السنة، أي قبل موت معاوية بسنة، حجّ الحسين عليه السلام، ومعه صاحباه عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر، فجمع الحسين عليه السلام، بني هاشم وجمعاً من الأنصار والمؤمنين، فاجتمع إليه أكثر من سبعمائة رجل من التابعين، ونحوٌ من مائتي رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقام فيهم خطيباً ليبيّن لهم حقيقة الوحي، ويذكّرهم بوصايا جدّه الأعظم صلّى الله وآله، ويفصّل على أسماعهم أباطيل الخطّ الأموي واستبداده وطغيانه وانحرافه عن جادّة الوحي وصراطه المستقيم.

وفي ما يلي نصّ الخطبة الشريفة، يسبقها نصٌّ يُقدّم صورة وافية عن الجوّ السياسيّ العام؛ حيث يوثّق تفاصيل دخول معاوية إلى الكوفة، ويعكس النقمة عليه وعلى البيت الأمويّ عموماً في أوساط كبار الصحابة والتابعين.

نشير إلى أنّ هذه الخطبة الشريفة، والنصّ الذي يسبقها وردا في الجزء الثالث والثلاثين من (بحار الأنوار) للعلامة المجلسي، نقلاً عن كتاب سُليم بن قيس الكوفي.

«شعائر»

الجوّ السياسيّ العامّ

 

... قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجّاً فِي خِلَافَتِهِ الْمَدِينَةَ بَعْدَمَا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وصَالَحَ الْحَسَنُ - وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بَعْدَ مَا مَاتَ الْحَسَنُ عَلَيهِ السّلامُ - واسْتَقْبَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ فَنَظَرَ فَإِذَا الَّذِي اسْتَقْبَلَهُ مِنْ قُرَيْشٍ أَكْثَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ لَيْسَتْ لَهُمْ دَوَابُّ.

فَالْتَفَتَ مُعَاوِيَةُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا لَكُمْ لَا تَسْتَقْبِلُونِّي مَعَ إِخْوَانِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ؟

فَقَالَ قَيْسٌ - وكَانَ سَيِّدَ الْأَنْصَارِ وابْنَ سَيِّدِهِمْ: أَقْعَدَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا دَوَابُّ.

قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَأَيْنَ النَّوَاضِحُ؟

فَقَالَ قَيْسٌ: أَفْنَيْنَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ ويَوْمَ أُحُدٍ ومَا بَعْدَهُمَا فِي مَشَاهِدِ رَسُولِ اللهِ حِينَ ضَرَبْنَاكَ وأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى ظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وأَنْتُمْ كَارِهُونَ.

قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللّهُمّ غَفْراً.

قَالَ قَيْسٌ: أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ قَالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً.

ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ! تُعَيِّرُنَا بِنَوَاضِحِنَا؟! واللهِ لَقَدْ لَقِينَاكُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ بَدْرٍ وأَنْتُمْ جَاهِدُونَ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللهِ وأَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ الشَّيْطَانِ هِيَ الْعُلْيَا، ثُمَّ دَخَلْتَ أَنْتَ وأَبُوكَ كَرْهاً فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ضَرَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ تَمُنُّ عَلَيْنَا بِنُصْرَتِكُمْ إِيَّانَا، فللّهِ ولِقُرَيْشٍ بِذَلِكَ الْمَنُّ والطَّوْلُ. أَلَسْتُمْ تَمُنُّونَ عَلَيْنَا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ بِنُصْرَتِكُمْ رَسُولَ اللهِ وهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وهُوَ ابْنُ عَمِّنَا ومِنَّا؟ فَلَنَا الْمَنُّ والطَّوْلُ أَنْ جَعَلَكُمُ اللهُ أَنْصَارَنَا وأَتْبَاعَنَا فَهَدَاكُمْ بِنَا.

فَقَالَ قَيْسٌ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ؛ فَبَعَثَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وإِلَى الْجِنِّ والْإِنْسِ والْأَحْمَرِ والْأَسْوَدِ والْأَبْيَضِ، اخْتَارَهُ لِنُبُوَّتِهِ واخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَهُ وآمَنَ بِهِ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. وأَبُو طَالِبٍ يَذُبُّ عَنْهُ ويَمْنَعُهُ ويَحُولُ بَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وبَيْنَ أَنْ يَرْدَعُوهُ ويُؤْذُوهُ. وأَمَرَ أَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ؛ فَلَمْ يَزَلْ مَمْنُوعاً مِنَ الضَّيْمِ والْأَذَى حَتَّى مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ.

وأَمَرَ [أبو طالب] ابْنَهُ بِمُوَازَرَتِهِ؛ فَوَازَرَهُ ونَصَرَهُ وجَعَلَ نَفْسَهُ دُونَهُ فِي كُلِّ شَدِيدَةٍ وكُلِّ ضِيقٍ وكُلِّ خَوْفٍ. واخْتَصَّ اللهُ بِذَلِكَ عَلِيّاً عَلَيهِ السّلامُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ، وأَكْرَمَهُ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْعَرَبِ والْعَجَمِ. فَجَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ جَمِيعَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فِيهِمْ أَبُو طَالِبٍ وأَبُو لَهَبٍ وهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ وخَادِمُهُ عَلِيٌّ عَلَيهِ السّلامُ، ورَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ‏ فِي حِجْرِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أَنْ يَكُونَ أَخِي ووَزِيرِي ووَصِيِّي وخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي ووَلِيَّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ بَعْدِي؟

فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثاً. فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السّلامُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

فَوَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ وتَفَلَ فِي فِيهِ، وقَالَ: اللّهُمّ امْلَأْ جَوْفَهُ عِلْماً وفَهْماً وحُكْماً.

ثُمَّ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَا طَالِبٍ، اسْمَعِ الْآنَ لِابْنِكَ وأَطِعْ، فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى.

وآخَى صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ بَيْنَ عَلِيٍّ وبَيْنَ نَفْسِهِ..

فَلَمْ يَدَعْ قَيْسٌ شَيْئاً مِنْ مَنَاقِبِهِ إِلَّا ذَكَرَهَا واحْتَجَّ بِهَا وقَالَ: مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ بِجَنَاحَيْنِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ. ومِنْهُمْ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ. ومِنْهُمْ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَإِذَا وَضَعْتَ مِنْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ وأَهْلَ بَيْتِهِ وعِتْرَتَهُ الطَّيِّبِينَ فَنَحْنُ واللهِ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وأَحَبُّ إِلَى اللهِ ورَسُولِهِ وإِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْكُمْ.

لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ فَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى أَبِي ثُمَّ قَالُوا: نُبَايِعُ سَعْداً. فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ فَخَاصَمُونَا بِحَقِّهِ وقَرَابَتِهِ، فَمَا يَعْدُو قُرَيْشٌ أَنْ يَكُونُوا ظَلَمُوا الْأَنْصَارَ أَوْ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ، ولَعَمْرِي مَا لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ولَا لِقُرَيْشٍ ولَا لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ والْعَجَمِ فِي الْخِلَافَةِ حَقٌّ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ ووُلْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.

فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وقَالَ: يَا ابْنَ سَعْدٍ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا وعَمَّنْ رَوَيْتَهُ وعَمَّنْ سَمِعْتَهُ؛ أَبُوكَ أَخْبَرَكَ بِذَلِكَ وعَنْهُ أَخَذْتَهُ؟

فَقَالَ قَيْسٌ: سَمِعْتُهُ وأَخَذْتُهُ مِمَّنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي وأَعْظَمُ عَلَيَّ حَقّاً مِنْ أَبِي.

قَالَ: مَنْ؟

قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ، عَالِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وصِدِّيقُهَا الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: (.. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)... فَلَمْ يَدَعْ قَيْسٌ آيَةً نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عَلَيهِ السّلامُ إِلَّا ذَكَرَهَا.    (الرعد:43)

قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّ صِدِّيقَهَا أَبُو بَكْرٍ، وفَارُوقَهَا عُمَرُ، والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ.

قَالَ قَيْسٌ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وأَوْلَى بِهَا الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ...). والَّذِي نَصَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ بِغَدِيرِ خُمٍّ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيٌّ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. وقَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي. (هود:17)

وكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَادَى مُنَادِيَهُ وكَتَبَ بِذَلِكَ نُسْخَةً إِلَى عُمَّالِهِ: أَلَا بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثاً فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ وأَهْلِ بَيْتِهِ وقَامَتِ (الْخُطَباءُ) فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْمَنَابِرِ بِلَعْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ والْبَرَاءَةِ مِنْهُ، والْوَقِيعَةِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ واللَّعْنَةِ لَهُمْ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ عَلَيهِمُ السّلامُ.

احتجاج ابن عبّاس على معاوية

ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ مَرَّ بِحَلْقَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَيْهِ غَيْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! مَا مَنَعَكَ مِنَ الْقِيَامِ كَمَا قَامَ أَصْحَابُكَ إِلَّا لِمَوْجِدَةٍ عَلَيَّ بِقِتَالِي إِيَّاكُمْ يَوْمَ صِفِّينَ؟ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّ ابْنَ عَمِّي عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُوماً!

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ قُتِلَ أَيْضاً مَظْلُومَاً. قال: (أَفَتُسَلِّمُ) الْأَمْرَ إِلَى وُلْدِهِ؟ وهَذَا ابْنُهُ.

قَالَ: إِنَّ عُمَرَ قَتَلَهُ مُشْرِكٌ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ؟

قَالَ: قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ.

قَالَ: فَذَلِكَ أَدْحَضُ لِحُجَّتِكَ وأَحَلُّ لِدَمِهِ. إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَتَلُوهُ وخَذَلُوهُ فَلَيْسَ إِلَّا بِحَقٍّ.

قَالَ: فَإِنَّا قَدْ كَتَبْنَا فِي الْآفَاقِ نَنْهَى عَنْ ذِكْرِ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ وأَهْلِ بَيْتِهِ، فَكُفَّ لِسَانَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وارْبَعْ عَلَى نَفْسِكَ.

قَالَ: فَتَنْهَانَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَتَنْهَانَا عَنْ تَأْوِيلِهِ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَنَقْرَؤُهُ، ولَا نَسْأَلُ عَنْ مَا عَنَى اللهُ بِهِ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَأَيُّمَا أَوْجَبُ عَلَيْنَا؛ قِرَاءَتُهُ أَوِ الْعَمَلُ بِهِ؟

قَالَ: الْعَمَلُ بِهِ.

قَالَ: فَكَيْفَ نَعْمَلُ بِهِ حَتَّى نَعْلَمَ مَا عَنَى اللهُ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا.

قَالَ: يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا تَتَأَوَّلُهُ أَنْتَ وأَهْلُ بَيْتِكَ!!

قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي، فَأَسْأَلُ عَنْهُ آلَ أَبِي سُفْيَانَ وآلَ أَبِي مُعَيْطٍ والْيَهُودَ والنَّصَارَى والْمَجُوسَ؟

قَالَ: فَقَدْ عَدَلْتَنِي بِهَؤُلَاءِ؟

قَالَ: لَعَمْرِي مَا أَعْدِلُكَ بِهِمْ إِلَّا إِذَا نَهَيْتَ الْأُمَّةَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ بِالْقُرْآنِ وبِمَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ أَوْ نَاسِخٍ أَوْ مَنْسُوخٍ أَوْ عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ أَوْ مُحْكَمٍ أَوْ مُتَشَابِهٍ. وإِنْ لَمْ تَسْأَلِ الْأُمَّةُ عَنْ ذَلِكَ هَلَكُوا واخْتَلَفُوا وتَاهُوا.

قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَاقْرَؤوا الْقُرْآنَ ولَا تَرْوُوا شَيْئاً مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ فِيكُمْ ومِمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ، وارْوُوا مَا سِوَى ذَلِكَ!

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾.    (التوبة:33)

قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، اكْفِنِي نَفْسَكَ وكُفَّ عَنِّي لِسَانَكَ. وإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَكُنْ سِرّاً فَلَا تُسْمِعْهُ أَحَداً عَلَانِيَةً.

ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ - وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

تنكيل معاوية بالموالين

ثُمَّ اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِالْأَمْصَارِ كُلِّهَا عَلَى شِيعَةِ عَلِيٍّ وأَهْلِ بَيْتِهِ. وكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلِيَّةً أَهْلُ الْكُوفَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنَ الشِّيعَةِ، واسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا زِيَاداً؛ ضَمَّهَا إِلَيْهِ مَعَ الْبَصْرَةِ وجَمَعَ لَهُ الْعِرَاقَيْنِ، وكَانَ يَتتبّعُ الشِّيعَةَ وهُوَ بِهِمْ عَالِمٌ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ؛ قَدْ عَرَفَهُمْ وسَمِعَ كَلَامَهُمْ أَوَّلَ شَيْ‏ءٍ، فَقَتَلَهُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ وتَحْتَ كُلِّ حَجَرٍ ومَدَرٍ، وأَخَافَهُمْ وقَطَعَ الْأَيْدِيَ والْأَرْجُلَ مِنْهُمْ وصَلَبَهُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وطَرَدَهُمْ وشَرَّدَهُمْ حَتَّى انْتَزَحُوا عَنِ الْعِرَاقِ، فَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا مَقْتُولٌ أَوْ مَصْلُوبٌ أَوْ طَرِيدٌ أَوْ هَارِبٌ.

اختلاق المناقب، والكذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله

وكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُمَّالِهِ ووُلَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ والْأَمْصَارِ أَنْ لَا يُجِيزُوا لِأَحَدٍ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ ولَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولَا مِنْ أَهْلِ وَلَايَتِهِ الَّذِينَ يَرْوُونَ فَضْلَهُ ويَتَحَدَّثُونَ بِمَنَاقِبِهِ شَهَادَةً. وكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: انْظُرُوا مَنْ قِبَلَكُمْ مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ ومُحِبِّيهِ وأَهْلِ بَيْتِهِ وأَهْلِ وَلَايَتِهِ الَّذِينَ يَرْوُونَ فَضْلَهُ ويَتَحَدَّثُونَ بِمَنَاقِبِهِ فَأدْنُوا مَجَالِسَهُمْ وأَكْرِمُوهُمْ وقَرِّبُوهُمْ وشَرِّفُوهُمْ، واكْتُبُوا إِلَيَّ بِمَا يَرْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ بِاسْمِهِ واسْمِ أَبِيهِ ومِمَّنْ هُوَ.

 فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى أَكْثَرُوا فِي عُثْمَانَ الْحَدِيثَ، وبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِالصِّلَاتِ والْكِسيّ وأَكْثَرَ لَهُمُ الْقَطَائِعَ مِنَ الْعَرَبِ والْمَوَالِي، فَكَثُرُوا فِي كُلِّ مِصْرٍ وتَنَافَسُوا فِي الْمَنَازِلِ والضِّيَاعِ واتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَأْتِي عَامِلَ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ ولَا قَرْيَةٍ فَيَرْوِي فِي عُثْمَانَ مَنْقَبَةً أَوْ يَذْكُرُ لَهُ فَضِيلَةً إِلَّا كُتِبَ اسْمُهُ وقُرِّبَ وشُفِّعَ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ.

ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ كَثُرَ فِي عُثْمَانَ وفَشَا فِي كُلِّ مِصْرٍ ومِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَادْعُوهُمْ إِلَى الرِّوَايَةِ فِي أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، فَإِنَّ فَضْلَهُمَا وسَوَابِقَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ وأَقَرُّ لِعَيْنِي وأَدْحَضُ لِحُجَّةِ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ وأَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ وفَضْلِهِ. فَقَرَأَ كُلُّ قَاضٍ وأَمِيرٍ مِنْ وُلَاتِهِ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ، وأَخَذَ النَّاسُ فِي الرِّوَايَاتِ فِيهِمْ وفِي مَنَاقِبِهِمْ.

ثُمَّ كَتَبَ نُسْخَةً جَمَعَ فِيهَا جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِيهِمْ مِنَ الْمَنَاقِبِ والْفَضَائِلِ وأَنْفَذَهَا إِلَى عُمَّالِهِ وأَمَرَهُمْ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى الْمَنَابِرِ فِي كُلِّ كُورَةٍ وفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِذُوا إِلَى مُعَلِّمِي الْكَتَاتِيبِ أَنْ يُعَلِّمُوهَا صِبْيَانَهُمْ حَتَّى يَرْوُوهَا ويَتَعَلَّمُوهَا كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ حَتَّى عَلَّمُوهَا بَنَاتِهِمْ ونِسَاءَهُمْ وخَدَمَهُمْ وحَشَمَهُمْ، فَلَبِثُوا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ.

قتلُ الشيعة على التُّهمة والظنّ

ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ‏ نُسْخَةً وَاحِدَةً إِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ:

انْظُرُوا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ يُحِبُّ عَلِيّاً وأَهْلَ بَيْتِهِ فَامْحُوهُ مِنَ الدِّيوَانِ ولَا تُجِيزُوا لَهُ شَهَادَةً.

ثُمَّ كَتَبَ كِتَاباً آخَرَ: مَنِ اتَّهَمْتُمُوهُ ولَمْ تُقَمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَاقْتُلُوهُ.

فَقَتَلُوهُمْ عَلَى التُّهَمِ والظَّنِّ والشُّبَهِ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ. حَتَّى لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَسْقُطُ بِالْكَلِمَةِ فَيُضْرَبُ عُنُقُهُ. ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ فِي بَلَدٍ أَكْبَرَ ولَا أَشَدَّ مِنْهُ بِالْعِرَاقِ - ولَا سِيَّمَا بِالْكُوفَةِ - حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ - ومِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ وغَيْرِهَا - لَيَأْتِيهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ فَيَدْخُلُ بَيْتَهُ ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِ سِرَّهُ فَيَخَافُ مِنْ خَادِمِهِ ومَمْلُوكِهِ؛ فَلَا يُحَدِّثُهُ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ لَيَكْتُمَنَّ عَلَيْهِ.

وجُعِلَ الْأَمْرُ لَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً، وكَثُرَ عِنْدَهُمْ عَدُوُّهُمْ، وأَظْهَرُوا أَحَادِيثَهُمُ الْكَاذِبَةَ فِي أَصْحَابِهِمْ مِنَ الزُّورِ والْبُهْتَانِ فَنَشَأَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ولَمْ يَتَعَلَّمُوا إِلَّا مِنْهُمْ، ومَضَى عَلَى ذَلِكَ قُضَاتُهُمْ ووُلَاتُهُمْ وفُقَهَاؤُهُمْ.

وكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ بَلَاءً وفِتْنَةً الْقُرَّاءُ الْمُرَاؤونَ الْمُتَصَنِّعُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لَهُمُ الْحُزْنَ والْخُشُوعَ والنُّسُكَ، ويَكْذِبُونَ ويُعَلِّمُونَ الْأَحَادِيثَ لِيَحْظَوْا بِذَلِكَ عِنْدَ وُلَاتِهِمْ ويَدْنُوْا بِذَلِكَ مَجَالِسَهُمْ، ويُصِيبُوا بِذَلِكَ الْأَمْوَالَ والْقَطَائِعَ والْمَنَازِلَ؛ حَتَّى صَارَتْ أَحَادِيثُهُمْ تِلْكَ ورِوَايَاتُهُمْ فِي أَيْدِي مَنْ يَحْسَبُ أَنَّهَا حَقٌّ وأَنَّهَا صِدْقٌ؛ فَرَوَوْهَا وقَبِلُوهَا وتَعَلَّمُوهَا وعَلَّمُوهَا وأَحَبُّوا عَلَيْهَا وأَبْغَضُوا. وصَارَتْ بِأَيْدِي النَّاسِ الْمُتَدَيِّنِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِلُّونَ الْكَذِبَ ويُبْغِضُونَ عَلَيْهِ أَهْلَهُ فَقَبِلُوهَا وهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا حَقٌّ، ولَوْ عَلِمُوا أَنَّهَا بَاطِلٌ لَمْ يَرْوُوهَا ولَمْ يَتَدَيَّنُوا بِهَا، فَصَارَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَاطِلًا والْبَاطِلُ حَقّاً والصِّدْقُ كَذِباً والْكَذِبُ صِدْقاً. وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ: لَتَشْمَلَنَّكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الْوَلِيدُ ويَنْشَأُ فِيهَا الْكَبِيرُ، تَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا ويَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْ‏ءٌ قَالُوا: أَتَى النَّاسُ مُنْكَراً؛ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ!

فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيهِ السّلامُ لَمْ يَزَلِ الْفِتْنَةُ والْبَلَاءُ يَعْظُمَانِ ويَشْتَدَّانِ، فَلَمْ يَبْقَ وَلِيٌّ للهِ إِلَّا خَائِفاً عَلَى دَمِهِ... أَنَّهُ مَقْتُولٌ وإِلَّا طَرِيداً. ولَمْ يَبْقَ عَدُوٌّ للهِ إِلَّا مُظْهِراً حُجَّتَهُ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِبِدْعَتِهِ وضَلَالَتِهِ.

 

 

 

 

خطبة الإمام الحسين عليه السلام في «مِنى»*

التأسيس في زمن معاوية، لمواجهة «الشجرة الملعونة»

 

.. لمَّا كَانَ قَبْلَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بِسَنَةٍ، حَجَّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ. فَجَمَعَ الْحُسَيْنُ عَلَيهِ السّلامُ بَنِي هَاشِمٍ؛ رِجَالَهُمْ ونِسَاءَهُمْ ومَوَالِيَهُمْ ومَنْ حَجَّ مِنْهُمْ، ومِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ الْحُسَيْنُ وأَهْلُ‏ بَيْتِهِ. ثُمَّ أَرْسَلَ رُسُلًا: لَا تَدَعُوا أَحَداً مِمَّنْ حَجَّ الْعَامَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ الْمَعْرُوفِينَ بِالصَّلَاحِ والنُّسُكِ إِلَّا اجْمَعُوهُمْ لِي.

فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ بِمِنًى أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ وهُمْ فِي سُرَادِقِهِ؛ عَامَّتُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ ونَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ. فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيباً، فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:

 

 أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ قَدْ فَعَلَ بِنَا وبِشِيعَتِنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وعَلِمْتُمْ وشَهِدْتُمْ. وإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ؛ فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونِي. وإِنْ كَذَبْتُ فَكَذِّبُونِي.

وأَسْأَلُكُمْ بِحَقِّ اللهِ عَلَيْكُمْ وحَقِّ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ وقَرَابَتِي مِنْ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ وآلِهِ السَّلَامُ لَمَّا سَتَرْتُمْ مَقَامِي هَذَا ووَصَفْتُمْ مَقَالَتِي ودَعَوْتُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَمْصَارِكُمْ مِنْ قَبَائِلِكُمْ مَنْ أَمِنْتُمْ مِنَ النَّاسِ.

وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ... اسْمَعُوا مَقَالَتِي واكْتُبُوا قَوْلِي ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَمْصَارِكُمْ وقَبَائِلِكُمْ؛ فَمَنْ أَمِنْتُمْ مِنَ النَّاسِ ووَثِقْتُمْ بِهِ فَادْعُوهُمْ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَقِّنَا، فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَدْرُسَ هَذَا الْأَمْرُ ويَذْهَبَ الْحَقُّ ويُغْلَبَ، واللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.

ومَا تَرَكَ شَيْئاً مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا تَلَاهُ وفَسَّرَهُ، ولَا شَيْئاً مِمَّا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ فِي أَبِيهِ وأَخِيهِ وأُمِّهِ وفِي نَفْسِهِ وأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا رَوَاهُ. وكُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُهُ: اللّهُمَّ نَعَمْ، وقَدْ سَمِعْنَاهُ وشَهِدْنَاهُ. ويَقُولُ التَّابِعُ: اللّهُمّ قَدْ حَدَّثَنِي بِهِ مَنْ أُصَدِّقُهُ وأَئْتَمِنُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ.

فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ إِلَّا حَدَّثْتُمْ بِهِ مَنْ تَثِقُونَ بِهِ وبِدِينِهِ.

قَالَ سُلَيْمٌ: فَكَانَ فِيمَا نَاشَدَهُمُ الْحُسَيْنُ عَلَيهِ السّلامُ وذَكَّرَهُمْ أَنْ قَالَ:

أَنْشُدُكُمُ اللهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ كَانَ أَخَا رَسُولِ اللهِ حِينَ آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَآخَى بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ وقَالَ: أَنْتَ أَخِي وأَنَا أَخُوكَ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ اشْتَرَى مَوْضِعَ‏ مَسْجِدِهِ ومَنَازِلِهِ فَابْتَنَاهُ ثُمَّ ابْتَنَى فِيهِ عَشَرَةَ مَنَازِلَ؛ تِسْعَةً لَهُ وجَعَلَ عَاشِرَهَا فِي وَسَطِهَا لِأَبِي، ثُمَّ سَدَّ كُلَّ بَابٍ شَارِعٍ إِلَى الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِهِ، فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ، فَقَالَ: (مَا أَنَا سَدَدْتُ أَبْوَابَكُمْ وفَتَحْتُ بَابَهُ، ولَكِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِسَدِّ أَبْوَابِكُمْ وفَتْحِ بَابِهِ). ثُمَّ نَهَى النَّاسَ أَنْ يَنَامُوا فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَهُ، وكَانَ... مَنْزِلُهُ فِي مَنْزِلِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ...؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَرَصَ عَلَى كُوَّةٍ، قَدْرَ عَيْنِهِ، يَدَعُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ مَسْجِداً طَاهِراً لَا يَسْكُنُهُ غَيْرِي وغَيْرُ أَخِي وابْنَيْهِ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ نَصَبَهُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، فَنَادَى لَهُ بِالْوَلَايَةِ وقَالَ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ قَالَ لَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى وأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ حِينَ دَعَا النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِهِ وبِصَاحِبَتِهِ وابْنَيْهِ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ: لَأَدْفَعُهَا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ، ويُحِبُّ اللهَ ورَسُولَهُ، كَرَّارٍ غَيْرِ فَرَّارٍ يَفْتَحُهَا اللهُ عَلَى يَدَيْهِ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ بَعَثَهُ بِبَرَاءَةَ وقَالَ: لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنِّي؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ شَدِيدَةٌ قَطُّ إِلَّا قَدَّمَهُ لَهَا، ثِقَةً بِهِ؟...

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ قَضَى بَيْنَهُ وبَيْنَ جَعْفَرٍ وزَيْدٍ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ أَنْتَ مِنِّي وأَنَا مِنْكَ، وأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ كُلَّ يَوْمٍ خَلْوَةٌ وكُلَّ لَيْلَةٍ دَخْلَةٌ؛ إِذَا سَأَلَهُ أَعْطَاهُ وإِذَا سَكَتَ ابْتَدَأَهُ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ فَضَّلَهُ عَلَى جَعْفَرٍ وحَمْزَةَ حِينَ قَالَ لِفَاطِمَةَ: زَوَّجْتُكِ خَيْرَ أَهْلِ بَيْتِي؛ أَقْدَمَهُمْ سِلْماً وأَعْظَمَهُمْ حِلْماً وأَكْبَرَهُمْ عِلْماً؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وأَخِي عَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَرَبِ وفَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ ابْنَايَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ أَمَرَهُ بِغُسْلِهِ وأَخْبَرَهُ أَنَّ جَبْرَئِيلَ عَلَيهِ السّلامُ يُعِينُهُ؟

 قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ؛ كِتَابَ اللهِ وأَهْلَ بَيْتِي فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا؟

قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ.

فَلَمْ يَدَعْ شَيْئاً أَنْزَلَهُ اللهُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ خَاصَّةً، وفِي أَهْلِ بَيْتِهِ؛ مِنَ الْقُرْآنِ ولَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ إِلَّا نَاشَدَهُمْ فِيهِ، فَيَقُولُ الصَّحَابَةُ: اللّهُمّ نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا. ويَقُولُ التَّابِعُ: اللّهُمّ نَعَمْ قَدْ حَدَّثَنِيهِ مَنْ أَثِقُ بِهِ؛ فُلَانٌ وفُلَانٌ.

ثُمَّ قَدْ نَاشَدَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي ويُبْغِضُ عَلِيّاً فَقَدْ كَذَبَ، لَيْسَ يُحِبُّنِي ويُبْغِضُ عَلِيّاً.

فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وكَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ: لِأَنَّهُ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ، مَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي ومَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي ومَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللهَ.

فَقَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا. وتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ.

  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* العلامة المجلسي، بحار الأنوار: ج 33، ص 181- 185

 

 

 

 

 

يا ليتنا كنّا معكَ...

في دلالة العبارة ومكانتها في النهضة الحسينية

ــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كوراني ــــــــــــــــــــــــــــ

 

* في هذه المقالة يستحضر العلّامة الشيخ حسين كوراني العبارة المأثورة التي يردّدها المسلمون من أتباع أهل البيت عليهم السلام، في المجالس الحسينية، حيث يشرح معانيها ودلالاتها والأسرار التي تنطوي عليها، وبالتالي ضرورة العمل بها قولاً وفعلاً، ليتحقّق الفوز الأعظم بالقرب من الدوحة النبويّة، ونيل رضى الحقّ تعالى.

نشير إلى أنّ هذا النص مختار من الجزء الأول من كتاب (في محراب كربلاء).

«شعائر»

 

«يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»..

شعارٌ نردّده باستمرار.. وقد أُمرنا بذلك كما في الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: «يَا ابْنَ شَبِيبٍ، إِنْ سَرَّكَ أَنْ‏ يَكُونَ‏ لَكَ‏ مِنَ‏ الثَّوَابِ‏ مِثْلُ مَا لِمَنِ اسْتُشْهِدَ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليهما السلام؛ فَقُلْ مَتَى ذَكَرْتَهُ:‏ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً..».

ولكن هل وقفنا مليّاً وحاولنا الدخول إلى دلالات هذا الشعار والمضامين؟

باختصار، هل سألتُ نفسي أو سألتَ أيّها العزيز نفسك: أحقّاً لو كنتُ في زمن الإمام الحسين عليه السلام كنتُ وقفتُ معه؟

ولو أنّي وقفتُ معه وسمعتُه يقول: «فانْطَلِقوا جَميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم مِنِّي ذمامٌ، وَهذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلاً، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُل مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِن أَهلِ بَيْتِي وتَفرَّقوا... فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّما يَطْلُبُونِي»..

لو أنّنا سمعنا منه ذلك، هل كنّا آثرنا البقاء معه ونحن حينذاك على مفترق طريقين.. بين الحياة والقتل.. بين بهجة الدنيا وبهجة الآخرة.. بين زخارف ملموسة محسوسة بهذه الحواسّ تُبهر الألباب كما يقال، وبين مواعيد الله الصادقة وما أَعدّ للمتقين.. هل كنّا حقاً سنقوى على اتّخاذ القرار الحاسم الذي ترتعد منه الفرائص، وحتّى فرائص القائد العسكري المقدام كالحرّ بن يزيد الرياحي.. الذي أخذَته رعدة كالأفكل لأنّه كان يخيّر نفسه بين الجنة والنار؟

قبل أن نقول: «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»، ينبغي لي ولك، أيّها العزيز، أن نفكّر بهذه الحقيقة الكبيرة إلّا على الخاشعين.. يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ.. إنْ كانت صادقة نابعة من الروح والضمير والوجدان.. منبعثة من شغاف القلب.. فإنّها تستبطن أنّنا عرفنا الدنيا على حقيقتها ظِلاً زائلاً وسراباً ﴿..بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً..﴾ النور:39، وأنّنا عرفنا أنّ أعلى مراتب الحياة الحقيقية الحياة الطيّبة.. هي تلك التي نقرع بابها من بين مشتبك القنا وصليل السيوف، بل أزيز الرصاص ودويّ القذائف وتشجّي الجسد أشلاء مبعثرة على طريق الحسين، وأصحاب الحسين، الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُم دُوْنَ الحُسَينِ عَلَيهِ السّلامُ..

مراتب الفوز في القرآن الكريم

«يَا لَيْتَنَا» تمنٍّ يكشف عن مضمونه معنى الفوز العظيم، وهو يعني أنّنا عندما نردّد هذا الشعار نعتبر القتل فوزاً، فهل نحن كذلك؟!

ثمّ إنّنا لا نكتفي بطلب الفوز فقط، وإنّما نتمنّى الفوز العظيم.. والفوز العظيم في ما يبدو في ضوء آيات كتاب الله أعلى درجات الفوز؛ فقد بيّن عزّ وجلّ أنّ للفوز مراتب متعدّدة:

الأولى: مرتبة الفائزين: ﴿..فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ آل عمران:185.

﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ الحشر:20.

الثانية: مرتبة الفوز الكبير: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ البروج:11.

الثالثة: مرتبة الفوز المبين: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ الأنعام:15-16.

الرابعة: مرتبة الفوز العظيم: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة:111.

ومرتبة الفوز العظيم مرتبة أولياء الله: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ يونس:62-64.

وهكذا يتّضح أنّ هذه العبارة التي نُكثر ترديدها، تحمل بين طيّاتها أغلى وأعلى درجات الإيمان والعمل الصالح..

وليس الهدف من بيان ذلك أن نمتنع عن التلهُّف بها.. بل الهدف أن نردّدها ونحن نعرف حدودها، وتخضع لله جوارحنا معترفةً بالقصور، طالبةً منه عزّ وجلّ التوفيق لنصبح من أهل: «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»..

أمّا ترديد هذا الشعار غافلين عن مضمونه فربّما يجعلنا - لا سمح الله - من أولئك الذين بيّن الله تعالى حبّهم للدنيا وحرصهم عليها، في حين أنّهم يتكلّمون بكلام الشهداء والمجاهدين..

قال عزّ من قائل: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ النساء:72-73.

ويبدو أن هاتين الآيتين تعالجان حالة نعيشها نحن الذين لم نُوفَّق بعد لحسم خيارنا.. فنحن من جهة ندرك عظمة الشهداء، ومن جهة أخرى نجد أنّنا مشدودون إلى الدنيا، وفي حالة مراوحة من الطبيعي أن يمرّ فيها الكثيرون، ثمّ يُوفّق مَن يستحقّ التوفيق الإلهي، فيجتازها ويتخفّف من أثقال الدنيا محلّقاً في آفاق الرضوان والفوز العظيم.. اللّهمّ ارزقنا..

وجوبُ التحرّر من أَسْر الدنيا

حقاً.. هل أنا وأنت من أهل «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً».. إذا كنا كذلك، فما الذي يمنعنا عن خوض غمرات الجهاد؟ وهل وراء عبّادان قرية؟ هل بعد الظلم الذي يملأ الدنيا اليوم ظلمٌ أشدّ منه؟ هل بعد السهام التي تُدمي قلب مولانا صاحب العصر والزمان سهامٌ أشدّ فتكاً؟

سمع جدُّه أمير المؤمنين بذِمّيّة تُسلب خلخالها فقال: «فَلَو أَنَّ مُؤْمِنَاً مَاتَ مِنْ دُوْنِ هَذَا أَسَفَاً مَا كَانَ عِنْدِي مَلُوْمَاً»..

ويرى الإمام المنتظر، أرواحنا فداه، أمّة جدّه المصطفى تُسلب كرامتها، فلِم لا نشاطره الحزن ونمضي في ساحات الجهاد سراعاً نلقى الله تعالى ونلقى الأحبّة؛ محمّداً وحزبه؟!

آهِ من حبّ الدنيا ما أشدّ فتْكَه بالنفوس.. وأيّ دنيا هذه التي نحبّها، وكافرٌ من خلف البحار نَجِسٌ يتدخّل في أدقّ تفاصيل شؤوننا العقيديّة، فضلاً عن الشؤون السياسية الداخلية.. يحدّد المسموح به والممنوع في السلاح والاقتصاد والسياسة والثقافة، ويُفتي في الإسلام المعتدل والمتشدّد، ويفرض على أنظمتنا أن تسوق أمّة المصطفى الحبيب ذليلةً إلى بيت الطاعة «الإسرائيلي».. ومع ذلك يتبجّح بحماية الإنسان وحقوق الإنسان.. يحمل عقليّة العصر الحجري، ويفرض علينا بإرهابه أن نردّد أنّه السيّد المتحضّر، رائد النظام الدولي الجديد.. ورغم أنّه العدوّ، فإنّ الأعدى منه هذه النّفس التي تصبر على مَضَض إذلاله، وتبحث عن مبرّرات القعود والتعقّل الجبان المجنون..

هنيئاً لشهيد عملية (مقرّ المارينز)، وكلّ شهداء العمليات النوعيّة فوزهم العظيم.. وهنيئاً لكم يا أبطال المقاومة الإسلامية المرابطين في خندق الشهادة، الماضين كحدّ السيف في الدرب الكربلائي، المردّدين بفوّار دمكم الزاكي: «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»...

 


 

 

رَيحانةُ النبيّ في كربلاء

شهادة الحسين آيةٌ من آيات الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ المستشار عبد الحليم الجندي ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* في كتابه حول الإمام الصادق عليه السلام؛ وهو الكتاب الذي شاع أمرُه في البلاد الإسلامية في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، ينظر المؤرّخ الكبير عبد الحليم الجندي برؤية الباحث المدقّق ورويّته في السيرة الحسينيّة المباركة.

وإذا كان لنا أن نقيّم هذه الرؤية في أُفُق الكتابات التاريخية الكثيرة حول سبط الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في المرحلة الأموية، لوجدنا في مدوّنة الجندي ما يَفي وقائع التاريخ قسطاً مهمّاً من حقائقها.

في هذا النصّ المختار من كتاب الجندي سالف الذكر، إضاءة على جانب جدير بالقراءة من السيرة الحسينية الشريفة.

«شعائر»

 

انتهى عصر معاوية بعد خلافة طالت تسعة عشر عاماً وثلاثة أشهر وخمسة أيام، ليبدأ عصر يزيد (60 – 64 للهجرة) فكان أفسدَ حُكم. وقع فيه أفظعُ ظلم، وأعمقُ جرحٍ في قلوب أهل الإسلام. أنهاه الله بإنهاء عمره وانقطاع عقِبه وعقب أبيه من سجلّ الدولة التي سعيا لها كلّ ذلك المسعى!

وسيخلفه ابنه معاوية بن يزيد. فيعلن أنّه وأهله لا يستحقّون الخلافة. ويعتزل بعد نحو أشهر ثلاثة. فكان اعتزاله من تلقاء نفسه. وعباراته - وهو يعتزل - شهادةٌ بالفعل وبالقول، من بني أميّة أنفُسهم، بأنّهم جائرون.

أنهى يزيد سنوات حكمه بتجريد جيش على المدينة يسفك دمها، وينتهك حرمها، في وقعة الحرّة سنة 63 للهجرة، ليقتل فيها ثمانين من صحابة الرسول. فلم يبقَ بعدهم على ظهر الأرض بدريٌّ واحد! وقتل من قريش والأنصار ثمانمائة! ومن الموالي والتابعين وسائر الناس عشرة آلاف، ثم لفظ آخر أنفاسه وجيشه يحاصر الكعبة بعد أن أحرقها!

وأيّ نهايةٍ لبشرٍ أفظع من هذه النهاية! بل أيّ نهاية لدولة أبلغ في الدلالة على غضب السماء عليها!

فما كان حرق الكعبة ولا قتل الصحابة وتذبيح الآلاف إلّا تتابعاً للأحداث التي بدأ بها السنوات الأربع، وختاماً طبيعياً للبداية المُفظعة لحكمه، وجزاء له ولدولته، ينزله بها وبنفسه.

حقبة الإجرام اليزيدي

لقد استفتح حكمه بجريمة كربلاء في يوم عاشوراء! في العاشر من المحرّم سنة 61. فوقع فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت مثله أو قريباً منه، من استشهاد أبي الشهداء: الحسين بن عليّ، الذي دعا له النبيّ: «اللّهُمّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ»، والذي عظّمه... الناسُ جميعاً على مدار العصور. وهو القدوة في عطائه وعبادته وتواضعه وشجاعته في كلّ موقف: في «الجَمل»، و«صفّين»، و«النهروان» إلى جوار أمير المؤمنين عليّ...

كان بقيّة الرسول صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. وكانت آمال الأمّة فيه آمالها في بقيّة الرسول.

وكان أبعد الناس عن أن يستخلف على المسلمين يزيد... يزيد الصقور، يزيد الخمور، كما لقّبه معاصروه. فلم يكن أحد ليأمل شيئاً من عهد يزيد، إلّا دنيا يُصيبها أو أموالاً يجمعها. ولذلك رفض الحسين أن يبايعه.

ودعا أهلُ الكوفة الحسين إليهم، فبعث قبله مسلماً ابن عمّه عقيل.

وخرج في أثره. فقتَل عبيد الله بن زياد والي الكوفة مسلماً. وتخاذل أهل الكوفة عن نصرة الحسين، فمضى حتّى بلغ (كربلاء) على مبعدة خمسة وعشرين ميلاً من الكوفة، وفي ركبه ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته، وستّون من شيعته.

هنالك لقيهم جيش عبيد الله بن زياد، على رأسه عمر بن سعد والي عبيد الله على الريّ... ورفض ابن زياد إلّا أن ينزل الحسين على حكمه، أي أن يستسلم ليصير أسيراً لابن زياد ويزيد!

وسدَّت الجيوش أمامه كلّ مخرج، وانقضّت عليه سهام الآلاف وسيوفهم، وهو يحارب كالأسد. وتسيل جراحات جسمه وهو في السابعة والخمسين، واستشهد رجال أهل البيت جمعياً، والرجال الستّون الذين يتألّف منهم ركبه، إلّا ابنه زين العابدين (عليّ بن الحسين) – وكان عليلاً - وسبى المجرمون النساء.

آيةُ الاستشهاد

إنّ في إنسانية البشر قابليةً للفساد كهيئة قابلية المواد للهبوط إلى الأرض بقانون الجاذبية. والإسلام لذلك يرفع الناس إلى أعلى، إذ يدفع الأنفس إلى ما هو أقوم، بالعبادة اليومية على مدار الليل والنهار، وتطهير النفس على مدار العمر.

ومن الفساد ما يستغلظ فيحوج إصلاحه إلى آيةٍ من السماء مثل كسوف الشمس وخسوف القمر. وفي استشهاد أبي الشهداء آيةٌ من الآيات.

كانت كربلاء قارعةً رجّت الأرض رجّاً يعيد الإسلام غضّاً في الأنفس، بما كان فيها من التصميم والإجماع على الاستشهاد في سبيله.

لقد انقضى بين يوم وفاة النبيّ وبين كربلاء خمسون عاماً، كانت ضرورية لتدهور إحساس بعض الرجال في أجيال، تدهوراً كافياً ليقتلوا ابن نبيّهم! وهم يصلّون عليه! وعلى آله الذين يقتلونهم!

وحسب هؤلاء المجرمين حكماً عليهم أن يقول لهم – كذباً - كبيرهم «يزيد بن معاوية» وعيناه تدمعان: «قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين»..

وإنّما أطلق الرَّوعُ دموعه، وأنطق الفزعُ لسانه، بمقالة رياء.

فلقد كرّر جنده يوم «الحرّة» ما فعلوه، منذ عامين، في كربلاء. كما صنعوه مرةً ثالثة، إذ قذفوا الكعبة بالمنجنيق من أعلى جبل أبي قبيس.

فالجريمة الأولى تدفع إلى الثانية، فالثالثة، وغيرها. والجرائم يصنعها المجرمون، وتصنع المجرمين.

ويبقى هذا الرياء من يزيد، صيحةَ استهزاءٍ بقومٍ باعوا أنفسهم للشياطين، لقاء متاعٍ قليل، لا يلبث أن يزول.

قالوا: كان الحسين يستطيع بالمداورة أو المناورة أن يكسب الزمن، أو يستطيع بالاستسلام أن يكسب الحياة، لكنّه الذي قال فيه وفي أمّه وأبيه وجده، الشاعر إقبال:

هي بنتُ مَن! هي زوجُ مَن! هي أمُّ مَن!

مَن ذا يُداني في الفخار أباها؟

ومن قبله رفض أبوه رأي المغيرة بن شعبة أن يكسب الزمن بترك معاوية على الشام حتّى يبايع. فلم يقبل على أن يناور أو يكسبَ الزمن.

وناورَ المُغيرة فصار عاملاً لمعاوية!

الحقّ أنّ الحسين قدّم للمسلمين الذين تعاقبوا في آثاره على مدار الزمان، حجّةً بالغة من أهل بيت الرسول، إذ ينفردون في التاريخ بهذه الخصيصة التي لم يُماثلهم أو يُقاربهم فيها أهل بيت آخر في تاريخ الإنسانية: الاستشهاد في سبيل هداية البشر لِما هو أقوم. وهي بعضُ خصائص الرسُل.

منح الاستشهاد اسماً لكربلاء. وخلّد الأسماء التي تساقط أصحابها كالكواكب المنتثرة من السماء فوق الصحراء، لا لتنكدر، ولكن لتقدّم للبشر درس الدفاع عن الحقّ؛ من فئة قليلة، واثقة في الحقّ سبحانه، لا تهمّها أرواحها، وإنّما يهمّها العمل الصالح في ذاته. ولا تنظر إلى الساعة التي هي فيها، وإنّما تمدّ أبصارها إلى مستقبل الإنسانية كلّه...

ولقد صدَق الحسينُ المسلمين في كلّ موقفٍ وقفه. وكان عند وصيّة أبيه له ولأخيه الحسن... «أُوْصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ، وَأَنْ لَا تَبْغَيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا»، فلم يبتغِ الدّنيا واشترى بها الآخرة.. فأمسى يقول: «إِنِّي لَا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، وَالْحَيَاةَ مَعَ الظّالِمِينَ إِلَّا بَرَمَاً».

وشملت السماء ابن النبيّ في كربلاء بمزيدٍ من التأييد، بمعانٍ جليلة من جلال الإسلام، نختار منها هنا واقعةً منه، وواقعة من عدوّه:

في الأولى: أخَذَ أَخْذَ أبيه فسقى جيش العدوّ من العين التي نزل عندها، ولم يحرم الماء قاتليه.

وفي الأخرى: ترك قائدان من القوّاد جيش ابن زياد، في وطيس المعركة، إلى الجماعة العزلاء حول الحسين، ليستشهدوا في الدفاع عن سيّد الشهداء، بين رجاله الذين ماتوا عن آخرهم، وهم عليمون أنّهم يخوضون معركةً خاسرة بكلّ المقاييس التي يتقايس بها المتحاربون، مظفَّرة بمقاييس المؤمنين.

ولو عاش هؤلاء الشهداء العظماء، سنوات أو أشهراً أخرى، لماتوا كما يموت الآخرون. لكنّهم ماتوا شهداء «كربلاء»، ليحيوا في ضمير الزمان كلّه أمثالاً للحقّ، وعناوين على عظمة الإسلام.

دروس كربلائية

كانت كربلاء رسالة من ابن النبيّ للمسلمين؛ هي الأولى من نوعها بما تحتويه من دروس لا تُحصى، فحسبنا أن نشير إلى البعض منها. وفي الدرس الواحد جماع دروس:

* وأوّل الدروس: يتعلّق بالحقّ ذاته. وفي الحقّ أعظمُ الدروس؛ أن لا يقرّ أحدٌ الباطلَ، وأن يقدّم في سبيل ذلك نفسه، وأن يكون قدوةً. وألّا يهاب المَكثورون كثرة الظَّلمة. فالأمم تبقى بالمقاومة ولا تُصيبها الهزيمة إنْ فقدت معركة، ما دامت فيها إرادةُ النصر، يسعى إيمانُها بين يديها لتبلغ غرَضَها كلّه، إنْ لم يكن من فورها، فمرحلةً بعد مرحلة.....

* والدرس الثاني: يتعلّق بجزاء السماء وبمصاير الطغاة وطرائقهم: إنّهم يحسبون الدنيا تدومُ ولا تدور، ولا يُدركون أنّ «الدّهر بالإنسان دَوّاريّ»، كما يقول الشاعر العربي. وتركبهم شياطين الشهوة فيخالون أنّهم يُمسكون كرة الأرض في قبضتهم. يصطنعون أسباب الوثوب على أعدائهم من حينٍ لآخَر، ويتحيّنون الفرص المواتية، ويختلقون الأعذار الزَّيوف، ليقطعوا دابر العدو. وكلّما جدّ جيلٌ جدّت لهم الأعذار ولم تُغنِهم النُّذُر.. فالذي حاوله فريقُ معاوية مع الإمام عليٍّ عليه السلام في صفّين ولم يظفر به - من إفناء شيعة عليٍّ عليه السلام أو من الإطاحة بأخصامه بالسمّ من الوجود - قد أتاحته ليزيد فرصة في كربلاء.

وللطغيان طبيعةٌ ومنهج. ومن طبيعته أن يُعمي ويُصمّ. فلا ينظر [صاحبُه] ولا يسمع إلّا ذاته وأصواته. وأمّا المنهج فهو الغِيلة. مرّةً واحدةً إن أمكنه، وإلّا فوثبة وثبة. ولكلّ واحدةٍ ما بعدها.

والذي قارفه يزيد ليس مجرّد سقطة، وإنما كانت أمّ السّقطات. فمن بعد كربلاء كانت وقعة الحرّة، ثمّ كان حريق الكعبة.. في سنوات ثلاثة متعاقبة. فحقّ عليها جزاء السماء فأوردته حتفه.. والسماء تُملي للظالم، حتى إذا أخذته لم تُفلته.

* والدرس الثالث: يتعلّق بأهل البيت أنفسهم.

1) فهم العترة الطاهرة. يدخلون الجنّة مع جدّهم، بعملهم، فلا يعملون إلّا العمل الأصلح. والذي صنعوه في كربلاء هو الذي كان يصنعه جدّاهم. والذي صنعه أصحابهم معهم هو الذي كان يصنعه الصحابة - وأعظِم به وبهم صنيعاً وصنّاعاً. فما هو إلا صفحاتٌ جديدة يضيفونها إلى السيرة العطرة.

2 ) وهم يبلغون الذروة في ما يعملون: إذا حاربوا ماتوا شهداء، ولم يعطوا الدنيّة أو يستسلموا. لأنّ للمسلمين فيهم، كما كان لهم في جدّهم، الأسوة الحسنة. وفي بيتهم سمقت المبادئ الكبرى. فمنهم

يطلب البلاء الممتاز. ومِن هذا كان صغارهم كالكبار منهم، أبطالاً يستشهدون ولا يتراجعون.

لقد أذِن الحسين عليه السلام لصحبه في أن يعودوا تحت جنح الليل ويدَعوه وحده يواجه مصيره، فلم يقبل ذلك واحدٌ منهم. ولم يرجف المرجفون من خصومهم، حتّى اليوم، بأنّ واحداً منهم قد تردّد....

* والدرس الرابع: يدور حول وحدة العمل الصالح. وفيه يجتمع الحقّ والحقيقة في المبدأ والمنتهى وما بينهما. فإذا كانت الحقيقة أنّ أبناء الرسول رجال سِلم وعِلم وقيادة، فهم لا يُداوِرون وراء هذه الحقيقة، فيقعدون عن الجهاد - جنوداً - للحقّ، أو يكتفون دونه بالعلم إذا دعا الداعي إلى الجهاد، أو يُوصون بالسِّلم حيث الحرب واجبةٌ لإعلاء كلمة الله، بل يستمسكون بالحقّ ويضعون الحقيقة كلّها في خدمته.

والحقّ والحقيقة والعمل الصالح كلٌّ لا ينقسم. والأهداف العظيمة لا يبلغها الناس إلّا بأعمال عظيمة ووسائل سليمة.

* والدرس الخامس: درسٌ في الواجب وأدائه في كلّ الظروف. وإنْ وَهِم المطالَبُ به أنّه غيرُ مُجْدٍ عليه أو على غيره - فهو لم يصبح واجباً إلّا لأنّ التكليف به يحقّق المصلحة العامّة أو الخاصّة، إنْ حالّةً وإنْ مؤجّلة، منظورةً أو غير منظورة. وهو قد أصبح واجباً لأنّه فضيلة. وإذا لم يكن مجدياً في لحظة، أو لرجل، ففي القيام به خيرٌ للناس، وللدنيا، في الظرف ذاته أو في ظروف أُخَر. والظروف غير المؤاتية لا تجعل الفضائل غير مؤاتية. فالفضائل مؤاتية أبداً، مطلوبة دائماً.

وإذا كانت القدرة شرط التكليف والرُّخَص متروكاً تقديرُها للرجال، فبالمعاناة أو التضحية ينسلخ الأقوياء من مسلاخ الضَّعَفة. ويخلع الناس على العظماء وصفَ العظمة....

* والدرس السادس: يتعلّق بوظيفة التاريخ. فهو يصحّح العِوَج ويصوّب الانحراف، بالاستقامة على الجادّة، خضوعاً للعدل؛ وهو قانون السماء.

إنّ زين العابدين عليه السلام الذي بقيَ في خيمة أبيه يوم كربلاء، سيحيا ثلاثة وثلاثين عاماً حتّى عام 94 للهجرة، لتتسلسل في عقبه ذريّة ترفع أعلام الإسلام عاليةً في ضمائر البشر. في حين أنّ الطاغية الذي يُرسل النار والدمار على البيت العتيق بالحجاز وعلى أهل البيت، في صحراء العراق، سيزول مُلكه - هو - وينقطع دابره - هو - بعد ثلاث سنين بتنازلٍ من ابنه عن ذلك المُلك؛ لينقطع اسم معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، من سجلّ الحوادث، وتخلد آثارُ أهل البيت ما تعاقب الجديدان، آية من السماء على أنّ دولة القَتَلة لم تَعِش. وأنّ دولة القَتلى ستعيش أبداً. وأنّ دولة الظُّلم لا تبقى بمقاييس الزمن إلا ساعةً أو هُنَيهة، أمّا دولة العدل فتبقى إلى قيام الساعة. وأنّه تعالى صادق الوعد: ﴿..كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة:249.

وما أكثر ما كانت الغلبة ببقاء أسباب الانتصار، يتحقّق بها النصر في مكانٍ آخر أو زمانٍ آخر، بقومٍ يحبّهم الله فينصرهم مهما كان عددهم، ويحبّونه فيجودون بأرواحهم.

* والدرس السابع: درسٌ في مبلغ ما تنجح الاستقامة ويُفلح الإخلاص: فإذا كان أقرب الخطوط إلى الهدف هو الخطّ المستقيم وإن كان ترسّمه أشدّ رهقاً، فإنّ استشهاد أبي الشهداء كان الأساسَ السليم لقيام الصّرح العظيم، الذي جمع بين عمله وبين اسمه فصيّرهما مبدأً. يحدث أثرُه في عمارة الدنيا وإصلاح الجماعة؛ في شكل قيام دولة، أو غَلبة مذهب، أو وجود قدوة، أو ازدهار أمل، في بعثٍ منتظَر.

وبهذا دارت الأفكار الدينية والمذاهب الفقهية للشيعة... في آفاق الحسين العالية. وبلغت أوجها في الفقه العمليّ القدير على التطوّر وفق حاجات البشر، في العبادات والمعاملات والأخلاق والنهج العلميّ. واستمسك المسلمون عموماً والشيعة خصوصاً، بالحسين وآله وأبنائه، واقتدوا ببطولاتهم، ومقولاتهم، فاستخرجوا منها أصولاً زخّارة. وبنوا عليها فروعاً في الدين والاقتصاد والسياسة والاجتماع، لتُقيم نظُماً سياسية وعلمية وفكرية واقتصادية متكاملة، هي كالنّهر العظيم يجري إلى جوار النهر الذي يسبح في تيّاره أهل السنّة.

والنهران يتجاريان، كأنّهما البحران يلتقيان، على أصول الإسلام، ويعملان - كلٌّ على شاكلته - في تدعيم مبادئه.


 


اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

29/09/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات