الملف

الملف

29/12/2016

«..أشبَهُكم بي، أحسنُكم خُلقاً»

 

النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله:

«..أشبَهُكم بي، أحسنُكم خُلقاً»

 

استهلال

اسلام قريش ذريعة إلى الإمرة

«مكارم الأخلاق» في الحديث النبويّ الشريف

الشيخ حسين كوراني

سوءُ الخُلُق شرُّ قرين!

 

«سُنّة» النبيّ صلّى الله عليه وآله في التعامل مع الدنيا

 

 

 

استهلال

اسلام قريش ذريعة إلى الرئاسة والإمرة

قال له قائل (أي للإمام عليّ صلوات الله عليه):

يا أمير المؤمنين، أرأيتَ لو كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، وآنسَ منه الرُّشد، أكانت العرب تسلّم إليه أمرها؟

قال: لا، بل كانت تقتله إنْ لم يفعل ما فعلتُ، إنّ العرب كرهتْ أمرَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحسدَتْه على ما آتاه الله من فضله، واستطالتْ أيامَه حتّى قَذَفَتْ زوجتَه، ونَفَّرَتْ به ناقتَه، مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مِننه عندها، وأجمعتْ مذ كان حيّاً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.

ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمَه ذريعةً إلى الرياسة، وسُلّماً إلى العزّ والإمرة، لما عبدتِ الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدّتْ في حافرتها، وعاد قارحُها جذعاً، وبازلها بكراً*. ".."

وما عسى أن يكون الولدُ لو كان! إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقرّبني بما تعلمونه من القُرب للنَّسَب واللُّحمة، بل للجهاد والنصيحة...

اللّهمّ إنك تعلمُ إني لم أُرِدِ الإمْرَةَ، ولا عُلُوّ المُلك والرياسة، وإنما أردتُ القيامَ بحدودك، والأداءَ لشَرعِك، ووضعَ الأمور في مواضعها، وتوفيرَ الحقوق على أهلها، والمضيَّ على منهاج نبيّك، وإرشادَ الضالّ إلى أنوار هدايتك.

(ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 299 – 298/20)

 

* القارح: الناقة أوّل ما تحمل. والجَذَع من الإبل: ما استكمل أربعة أعوام. والبازِل منها: هو ما استكمل السنة الثامنة وظعن في التاسعة وفُطر نابه.

 


 

هذا الملفّ

روى الفقيه المحدّث الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال:

«إِنَّ جِبْرَئيلَ الرُّوحَ الأَمينَ نَزَلَ عَلَيَّ مِنْ عِنْدِ رَبِّ العالَمينَ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، عَلَيْكَ بِحُسْنِ الخُلُقِ فَإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يَذْهَبُ بِخَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ. أَلا وَإِنَّ أَشْبَهَكُمْ بي أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً».

وقد روى هذا الحديث بلفظه، الفتّال النيسابوريّ في (روضة الواعظين)، والحرّ العامليّ في (وسائل الشيعة)، وغيرهما.

وقيل له صلّى الله عليه وآله: ما أفضل ما أُعطي المرء المسلم؟

قال: الخُلُقُ الحَسَنُ».

***

أشبهُ المسلمين برسول الله صلّى الله عليه وآله أحسنُهم أخلاقاً. وأفضل ما يُعطاه المسلم هو الخلُق الحسن.

وبناء على ما تقدّم، ثمّة سؤالان يجب أن يطرحهما كلٌّ منا على نفسه:

* كم أشبَهُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله؟

* ما هو الحلّ إن لم نجِد الشّبَه، أو وجدناه ضعيفاً؟

تتناول مقالات هذا الملفّ الإجابة عن هذين السؤالين المركزيّين، مع الإشارة إلى أنّها ملخّص مجموعة من المحاضرات ألقاها سماحة العلّامة الشيخ حسين كوراني في «المركز الإسلاميّ» في شهر ربيع الأوّل من العام 1435 للهجرة.

 

 
 

 

كمالُ العقل وتمامُ الإيمان

مفهوم «مكارم الأخلاق» في الحديث النبويّ الشريف

 

* لكي يكون المسلمُ من أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله، تمسّ حاجة كلّ منّا دائماً إلى التواصل مع الروايات حول أهمّيّة الأخلاق الفاضلة ومفرداتها من الإيثار والتسامح والبِشْر وما شابه. ويجب أن يُسائل كلٌّ منّا نفسه على الدوام:

ما هي نسبة حُسن الخُلُق في أخلاقي وسلوكي وحياتي؟

هل ينحصر سوء الخُلُق في دائرة ضيّقة، فيما يحتلّ حُسن الخُلُق متنَ الحياة وصفحة القلب والسلوك؟ أم العكس؟؟

أم – والعياذ بالله تعالى من شرّ النفس الأمارة - هل استحوذ عليّ الشيطان فتعايشتُ مع سوء الخُلُق وصار حُسنُ الخُلُق رغبةً ميتةً وأُمنيةً أوقنُ باستحالتها كاستحالة تحرير الأندلس أو كأمنية تحرير فلسطين قبل الإمام الخمينيّ وخليفته الإمام الخامنئيّ دام ظلّه؟

أم أنّي – ويا لسوء العاقبة - قد فصلتُ بين التديُّنِ وبين حُسنِ الخُلُق؟

«شعائر»

 

حُسْنُ الخُلُق هو وجه الشبه بين المؤمن وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله. وقد روي أنّ من دعائه صلّى الله عليه وآله وسّلم، قوله: «اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقي، فَأَحْسِنْ خُلُقي».

يعني ذلك أن محمّدية كلّ شخص هي بمقدار حُسن أخلاقه. أي ليست دراسة السيرة هي التي تُقرِّب الإنسانَ من رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولا دراسة التفسير والفقه، ولا الإكثار من الأذكار والأوراد.

طبعاً كلّ ما تقدّم ينفع إذا كان الشخص قد قرّر تحسين أخلاقه وهو يستعين بالسيرة والفقه والأذكار لتسهيل مهمّته، وإلّا فلا.

النقطة الثانية هي أهمّيّة استحضار الآخرة والمعاد في الحثّ على التحلّي بمكارم الأخلاق. فمن يحبّ ترك الغيبة، أي التحلّي بخُلُق عدم ذكر الآخرين بسوء، إذا ابتعد عن مفاهيم الآخرة يضعف هذا الحبّ ولا يجد ما يحفّزه على ترك الغيبة.

فنحن نحب الخُلُق الحسن ونبتلى بالبعد عنه، وابتلاؤنا على مراتب،  لذلك تمسّ الحاجة إلى إدراك موقع الموعظة من فهم حقيقة الدنيا وأهمّيّة الصبر على المكاره وعدم الانجرار إلى سوء الخُلُق.

وقد عُدّ حُسن الخُلُق في الروايات دليلاً على كمال العقل، وأنّه أحبّ الأشياء إلى الله تعالى بعد الفرائض، وأكثر ما يلج به الناس الجنة.

من روايات حُسن الخُلق وكمال العقل

1) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال: «أَفْضَلُ النّاسِ إيماناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً..».

2) وفي رواية: «أَحْسَنُ النّاسِ إيماناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ، وَأَنا أَلْطَفُكُمْ بِأَهْلي».

 3) عنه صلّى الله عليه وآله: «.. أَكْثَرُ ما تَلِجُ بِهِ أُمَّتي الجَنَةَ تَقْوى اللهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ».

4) عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: «إِنَّ أَحْسَنَ الحَسَنِ الخُلُقُ الحَسَنُ».

5) عن الإمام الصادق عليه السلام: «أَكْمَلُ النّاسِ عَقْلاً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً».

6) عنه عليه السلام: «ما يَقْدُمُ المُؤْمِنُ عَلى اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِشَيْءٍ بَعْدَ الفَرائِضِ أَحَبّ إِلى اللهِ تَعالى مِنْ أَنْ يَسَعَ النّاسَ بِخُلُقِهِ».

7) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إِنَّ الخُلُقَ مِنْحَةٌ يَمْنَحُها اللهُ خَلْقَهُ، فَمِنْهُ سَجِيَّةٌ وَمِنْهُ نِيَّةٌ.

قال ابن عمّار: فأيّهما أفضل؟

قال عليه السلام: صاحِبُ السَّجِيَّةِ هُوَ مَجْبولٌ لا يَسْتَطيعُ غَيْرَهُ، وَصاحِبُ النِّيَةِ يَصْبُرُ عَلى الطاعَةِ تَصَبُّراً فَهُوَ أَفْضَلُهُما».

8) وعنه عليه السلام: «الخُلُقُ الحَسَنُ يَميثُ الخَطيئَةَ كَما تَميثُ الشَّمْسُ الجَليدَ».

وفي الروايات ما يؤكّد أنّ معيار القوّة والشجاعة هو قدرة المرء على حمل نفسه على الحقّ، وزجرها عن الباطل.

9) قال الإمام الصادق عليه السلام: «مَرَّ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ يَرْفَعونَ حَجَراً، فَقالَ ما هَذا؟

قالوا: نَعْرِفُ بِذَلِكَ أَشَدَّنا وَأَقْوانا.

فَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَشَدِّكُمْ وَأَقْواكُمْ؟

قالوا: بَلى يا رَسولَ اللهِ.

قالَ: أَشَدُّكُمْ وَأَقْواكُمْ الّذي إِذا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضاهُ في إِثْمٍ وَلا باطِلٍ، وَإِذا سَخِطَ لَمْ يُخْرِجْهُ سَخَطُهُ مِنْ قَوْلِ الحَقِّ، وَإِذا قَدَرَ لَمْ يَتَعاطَ ما لَيْسَ بِحَقٍّ».

10) عن لقمان الحكيم يعظ ابنه: «.. يا بُنَيّ! إِنَّما هُوَ خَلاقُكَ وَخُلُقُكَ، فَخَلاقُكَ دينُكَ، وَخُلُقُكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النّاسِ، وَلا تَتَبَغَّضْ إِلَيْهِمْ، وَتَعَلَّمْ مَحاسِنَ الأَخْلاقِ.

يا بُنَيَّ! كُنْ عَبْداً للأَخْيارِ وَلا تَكُنْ وَلَداً للأَشْرارِ، يا بُنَيَّ! أَدِّ الأَمانَةَ تَسْلَمْ لَكَ دُنْياكَ وَآخِرَتُكَ، وَكُنْ أَميناً تَكُنْ غَنِيّاً».

والخَلاق، هو النصيب الوافر من الخير والصلاح، ومنه قوله تعالى: ﴿.. أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ..﴾. (آل عمران:77)

 

مكارم الأخلاق

 

رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال: «إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلاقِ».

وفي الروايات عن الأئمّة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام ما يُبيّن مفردات مكارم الأخلاق التي أُمرنا بالتحلّي بها. من ذلك:

1) قيل للإمام الصادق عليه السلام: «أخبرني بمكارم الأخلاق!

فأجاب عليه السلام: العَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَصِلَةُ مَنْ قَطَعَكَ، وَإِعْطاءُ مَنْ حَرَمَكَ، وَقُلِ الحَقَّ وَلَوْ عَلى نَفْسِكَ».

2) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيهِ كَمُلَ إيمانُهُ، وَإنْ كانَ مِنْ قَرْنِهِ إِلى قَدَمِهِ خَطَايا لَمْ يُنْقِصْهُ ذَلِكَ.

قال: وَهُوَ الصِّدْقُ، وَأَداءُ الأَمانَةِ، وَالحَياءُ، وَحُسْنُ الخُلُقِ».

3) وعنه عليه السلام، كما في (أمالي) الصدوق: «أُتِيَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، بِأُسارى فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ خَلا رَجُلٍ مِنْ بَيْنَهُمْ.

فَقالَ الرَّجُلُ: بِأَبي أَنْتَ وَأُمّي - يا مُحَمَّدُ - كَيْفَ أَطْلَقْتَ عَنّي مِنْ بَيْنِهِمْ؟

فَقالَ: أَخْبَرَني جَبْرَئيلُ عَنِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّ فيكَ خَمْسَ خِصالٍ يُحِبُّها اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسولُهُ: الغيرَةُ الشَّديدَةُ عَلى حُرَمِكَ، وَالسَّخاءُ، وَحُسْنُ الخُلُقِ، وَصِدْقُ اللِّسانِ، وَالشَّجاعَةُ.

فَلَمّا سَمِعَها الرَّجُلُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وَقاتَلَ مَعَ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قِتالاً شَديداً حَتَّى اسْتُشْهِدَ».

* هذا الحثّ الشديد في الروايات على حُسن الخُلُق والتحلّي بمكارم الأخلاق، إنّما هو بلاحظ عظيم الثواب المترتّب عليها، كيف وهي الغاية من بعثة المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.

* وفي طليعة الثواب الأخرويّ المذخور لصاحب الخُلُق الحسن، الزلفى عند الله تعالى وعند النبيّ صلّى الله عليه وآله.

من الروايات في ذلك:

1) عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «ثَلاثٌ هُمْ أَقْرَبُ الخَلْقِ إِلى اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ القِيامَةِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الحِسابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَتُهُ في حالِ غَضَبِهِ إِلى أَنْ يَحيفَ عَلى مَنْ تَحْتَ يَدَيْهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِما عَلى الآخَرِ بِشَعيرَةٍ، وَرَجُلٌ قالَ الحَقَّ في ما عَلَيْهِ».

2) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أَقْرَبُكُمْ غَداً مِنّي في المَوْقِفِ أَصْدَقُكُمْ للحَديثِ، وَآداكُمْ للأَمانَةِ، وَأَوْفاكُمْ بِالعَهْدِ، وَأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً وَأَقْرَبُكُمْ مِنَ النّاسِ».

3) وفي رواية: «أَقْرَبُكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيامَةِ أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً وَخَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ».

4) وعنه صلّى الله عليه وآله: «إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنّي يَوْمَ القِيامَةِ مَجْلِساً أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً، وَأَشَدُّكُمْ تَواضُعاً، وَإِنَّ أَبْعَدَكُمْ مِنّي يَوْمَ القِيامَةِ الثَّرْثارونَ؛ وَهُمُ المُسْتَكْبِرونَ».

* ومن ثواب حُسن الخُلُق أنّ صاحبه في الجنّة لا محالة، ثقيلٌ ميزانه، مشمولٌ برحمة الله تعالى.

من الروايات حول ذلك:

1) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «ما مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ في الميزانِ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ».

2) عنه صلّى الله عليه وآله: «عَلَيْكُمْ بِحُسْنِ الخُلُقِ فَإِنَّ حُسْنُ الخُلُقِ في الجَنَّةِ لا مَحالَةَ. وَإِيّاكُمْ وَسوءَ الخُلُقِ فَإِنَّ سوءَ الخُلُقِ في النّارِ لا مَحالَةَ».

3) وقال صلّى الله عليه وآله: «رَجُلانِ آمَنا وَهاجَرا وَدَخَلا الجَنَّةَ جَميعاً فَرُفِعَ أَحَدُهُما عَلى صاحِبِهِ كَما تُرى الثُّرَيّا، فَقالَ بِماذا فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ يا رَبّ؟

قالَ: إِنَّهُ كانَ أَحْسَنَ مِنْكَ خُلُقاً».

4) عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ أَرادَ أَنْ يُدْخِلَهُ اللهُ في رَحْمَتِهِ وَيُسْكِنَهُ جَنَّتَهُ فَلْيُحَسِّنْ خُلُقَهُ وَلْيَعْطِ النَّصَفَةَ وَلْيَرْحَمِ اليَتيمَ، وَلْيَعِنِ الضَّعيفَ وَلْيَتَواضَعْ للهِ الّذي خَلَقَهُ».

* وحُسن الخُلق متمّمٌ للنقص في العبادات.

5) رُوي عن الصادق عليه السلام: «.. فَإِنَّ العَبْدَ يَكونُ فيهِ بَعْضُ النَّقيصَةِ مِنَ العِبادَةِ وَيَكونُ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ فَيُبْلِغُهُ اللهُ بِخُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القائِمِ».

* وصاحبُ الخُلق الحسن بمنزلة المجاهد في سبيل الله تعالى.

6) قال الصادق عليه السلام: «إِنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى، لَيُعْطي العَبْدَ الثَّوابَ عَلى حُسْنِ الخُلُقِ كَما يُعْطي المُجاهِدَ في سَبيلِ اللهِ يَغْدُو عَلَيْهِ وَيَروحُ».

7) وعنه عليه السلام: «البِرُّ وَحُسْنُ الخُلُقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ وَيَزيدانِ في الأَعْمارِ».

* وحيث إنّ حُسن الخُلق من القضايا الاجتماعيّة، فمن أبرز عناوينه الرّفقُ بالناس ومداراتهم، وفي الحديث النبويّ الشريف:

8) «أَعْقَلُ النّاسِ أَشَدُّهُمْ مُداراةً للنّاسِ..».

9) «مَنْ عاشَ مُدارِياً ماتَ شَهيداً».

10) «مُداراةُ النّاسِ صَدَقَةٌ».

 
 

 

يمنع التوبة ويُفسد العمل

سوءُ الخُلق شرُّ قرين

 

* في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنه قال: «سُوءُ الخُلُقِ شُؤْمٌ..».

وسُئل صلّى الله عليه وآله، عن أعظم السيّئات، فقال: «سُوءُ الخُلُقِ، والشُّحُ المُطَاع».

وسُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن أدوم الناس غمّاً، فقال: «أَسْوَأُهُم خُلُقَاً».

في هذه المقالة، جولة مع الروايات الشريفة التي تحذّر من خطورة سُوء الخُلُق، والصّلة بينه وبين الإقبال على الدنيا والغفلة عن الآخرة.

«شعائر»

 

 

أكدّت الأحاديثُ الشريفة أهمّيّةَ التحلّي بمكارم الأخلاق، كما حذّرت، في المقابل، من الخُلق السيّء، وخصّت بالذكر رذائل أخلاقيّة بعينها، مُبيّنة النتائج الكارثيّة المترتّبة عليها؛ وفي مقدّمها أنّ الخُلُق القبيح يمنع من التوبة، ويُفسد العمل بالغاً ما بلغ.

في (المحجّة البيضاء) للفيض الكاشاني:

1) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إِنّ العَبْدَ لَيَبْلُغُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرْكِ جَهَنَّمَ».

2) وعنه صلّى الله عليه وآله: «خِصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: البُخْلُ وَسُوءُ الخُلُقِ».

3) وفي (غُرر الحِكم)، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «سُوءُ الخُلُقِ شَرُّ قَرِينٍ».

4) عن الكاظم، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: «أَبى اللهُ لِصاحِبِ الخُلُقِ السَّيِّءِ بِالتَوْبَةِ.

فَقيلَ: يا رَسولَ اللهِ! وَكَيْفَ ذَلِكَ؟

قالَ: لِأَنَّهُ إِذا تابَ عَنْ ذَنْبٍ، وَقَعَ في ذَنْبٍ أَعْظَمَ مِنَ الذَّنْبِ الّذي تابَ مِنْهُ».

5) عن الإمام الصادق، عن أبيه الإمام الباقر عليهما السلام، قال: «قالَ عَلِيٌّ، عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأَبي أَيّوبَ الأَنْصارِيِّ: يا أَبا أَيُّوبَ، ما بَلَغَ مِنْ كَرَمِ أَخْلاقِكَ؟

قالَ: لا أؤذي جاراً فَمِنْ دونَهُ، وَلا أَمْنَعُهُ مَعْروفاً أَقْدِرُ عَلَيْهِ.

ثُمَّ قالَ أَميرُ المُؤْمِنينَ، عَلَيْهِ السَّلامُ: ما مِنْ ذَنْبٍ إِلّا وَلَهُ تَوْبَةٌ، وَما مِنْ تائِبٍ إِلّا وَقَدْ تَسْلَمُ لَهُ تَوْبَتُهُ، ما خَلا السَّيِّءَ الخُلُقِ، لا يَكادُ يَتوبُ مِنْ ذَنْبٍ إِلّا وَقَعَ في غَيْرِهِ أَشَدَّ مِنْهُ».

* ومن جملة الموبقات والرذائل الأخلاقيّة التي خُصّت بالذّكر، وورد النهي عنها مُشدّداً في الأحاديث الشريفة: المكرُ والخديعة والغضب.

6) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: «مَنْ كانَ مُسْلِماً فَلا يَمْكُرْ وَلا يَخْدَعْ، فَإِنّي سَمِعْتُ جَبْرائيلَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، يَقولُ: إِنَّ المَكْرَ وَالخَديعَةَ في النّارِ.

ثمّ قال الرضا عليه السلام: لَيْسَ مِنّا مَنْ غَشَّ مُسْلِماً وَلَيْسَ مِنّا مَنْ خانَ مُسْلِماً».

7) و«ذكروا الغضب عند الباقر عليه السلام فقال: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ حَتّى ما يَرْضى أَبَداً وَيَدْخُلُ بِذَلِكَ النّارَ.

فَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنَّهُ سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْطانِ. وَإِنْ كانَ جالِساً فَلْيَقُمْ. وَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذَوي رَحِمِهِ فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ، وَلْيَدْنُ مِنْهُ، وَلْيَمَسَّهُ، فَإِنَّ الرَّحِمَ إِذا مَسَّتِ الرَّحِمَ سَكَنَتْ».

8) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إِنَّ لَجَهَنَّمَ باباً لا يَدْخُلُها إِلَّا مَنْ شَفى غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى».

9) عنه صلّى الله عليه وآله: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعاهُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى رُؤوسِ الخلائِقِ حَتّى يُخَيَّرَ مِنْ أَيِّ الحورِ شاءَ».

10) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَيْسَ الشَّديدُ بِالصُّرَعَة – أي الذي يصرع الناس أرضاً - إِنَّما الشَّديدُ الّذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ».

11) عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ إِذا رَغِبَ وَإِذا رَهِبَ وَإِذا اشْتَهى وَإِذا غَضِبَ، حَرَّمَ اللهُ جَسَدَهُ عَلى النّارِ».

12) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أَلَا أُخْبِرُكُم بِأَبْعَدِكُم مِنّي شَبَهَاً؟

قالوا: بلى، يا رسولَ الله.

قال: الفَاحِشُ المُتَفَحِّشُ البَذِيءُ، البَخِيلُ، المُخْتَالُ، الحَقُودُ، الحَسُودُ، القَاسِي القَلْبِ، البَعِيدُ مِن كُلِّ خَيْرٍ يُرْجَى، غَيرُ المَأْمُونِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُتَّقَى».

13) ومن دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في الاستعاذة من المكاره وسيّء الأخلاق ومذامّ الأفعال: «اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَانِ الحِرْصِ، وَسَوْرَةِ الغَضَبِ، وَغَلَبَةِ الحَسَدِ، وَضَعْفِ الصَّبْرِ، وَقِلَّةِ القَنَاعَةِ، وَشَكَاسَةِ الخُلُقِ».

* ولك أن تقول: إنّنا، جميعاً، نحب هذه الأجواء والفضائل، فلماذا لا نجدها متجليّةً فينا على أوسع نطاق وبأجلى الصوَر؟ كلّنا نحبّ – على سبيل المثال - أن نملك أنفسنا عند الغضب ولكنّنا، عادة، لا نملكها، فما هو السبب؟

الجواب: المشكلة في طريقة اشتباكنا بالدنيا، فالثقافة السائدة التي نبني مواقفنا وتصرّفاتنا على أساسها هي ثقافة رضا النفس وليست ثقافة رضا الله تعالى.

ثقافة رضا النفس هي ثقافة مصلحتنا في الدنيا، وهي مبنيّة على قاعدة أن مصلحة كلّ شخص وربحه أو خسارته كلّ ذلك يتبع للرغبات والميول والأهواء.

وأمّا ثقافة رضا الله تعالى فهي ثقافة «الربح والخسارة» بعد العرض على الله ويوم الحساب.

الأولى: ثقافة الدنيا وتحصيلها والعلوّ فيها.

الثانية: ثقافة الآخرة والفوز المبين ﴿.. وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾. (آل عمران:198)

هكذا يمكن أن ندرك الترابط بين السيطرة على النفس الأمّارة وبين حضور الآخرة في الذهن، ولا يتحقّق ذلك إلا بالإعراض عن الدنيا، والمدخل إلى ذلك التواصل الدائم مع الروايات التي تُبيّن مقدار الأخذ من الدنيا والاهتمام بها.



 

«سُنّة» النبيّ صلّى الله عليه وآله في التعامل مع الدنيا

الاستهانة بها كما يُستهان بالجيفة!

 

* يتناول هذا المقال الإجابة على السؤال الثاني الذي طُرح في مستهلّ الملف؛ ما هو الحلّ إن لم نجد الشَّبَه بيننا وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو وجدناه ضعيفاً؟

وسيتّضح أنّ الحلّ يكمن في التواصل الدائم مع الروايات التي تُبَيّن مقدار الأخذ من الدنيا والاهتمام بها. والبدء عمليّاً بتخفيف فضول الدنيا وتقليله، والتدرُّج في ذلك وصولاً إلى تركه، ثمّ التدرُّج في البعد عنه، وصولاً إلى الفرار منه كما ينبغي أن يكون الفرار من الحرام.

«شعائر»

 

ما هو الحلّ إن لم نجد الشّبَه بيننا وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو وجدناه ضعيفاً؟

والجواب: لا بدّ من التدقيق في العلاقة بالدنيا، وبالخصوص من خلال العلاقة بالأكل والشرب واللباس والمقتنيات، والموقف من المال.

والسبب: أن العجز عن التحلّي بمكارم الأخلاق نتيجة طبيعية لشدة الاشتباك بالدنيا.

هذا ما سيتّضح من خلال الرواية التالية التي تقدم نموذجاً من أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وآله، وتنتقل مباشرة إلى العلاقة بالدنيا والتحذير من كثرة الأخذ منها.

قالَ المجلسيّ الأوّل في (روضة المتقين):

«روى المصنِّف في القويّ كالصحيح، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:

إِنَّ يَهودِيّاً كانَ لَهُ عَلىِ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، دَنانيرُ فَتَقاضاهُ.

فَقالَ لَهُ: يا يَهودِيُّ، ما عِنْدي ما أُعْطيكَ.

فَقالَ: فَإِنّي لا أُفارِقُكَ يا مُحَمَّدُ حَتَّى تَقْضِيَني.

فَقالَ عليه السلام: إِذَاً أَجْلِسُ مَعَكَ.

فَجَلَس، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، مَعَهُ حَتّى صَلَّى في ذَلِكَ المَوْضِعِ الظُّهْرَ وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ وَالعِشاءَ الآخِرَةَ، وَالغَداةَ. وَكانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يَتَهَدَّدونَهُ، وَيَتَواعَدونَهُ، فَنَظَرَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إِلَيْهِمْ فَقالَ: ما الّذي تَصْنَعونَ بِهِ؟

فَقَالوا: يا رَسولَ اللهِ! يَهودِيٌّ يَحْبِسُكَ؟!

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَبْعَثْني رَبّي، عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنْ أَظْلِمَ مُعاهِداً وَلا غَيْرَهُ.

فَلَمّا عَلا النَّهارُ قالَ اليَهودِيُّ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، وَشَطْرُ مالي في سَبيلِ اللهِ. أَما وَاللهِ، ما فَعَلْتُ بِكَ الّذي فَعَلْتُ إِلّا لِأَنْظُرَ إِلى نَعْتِكَ في التَّوْراةِ؛ فَإِنّي قَرَأْتُ نَعْتَكَ في التّوْراةِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ؛ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهاجَرُهُ بِطيبَةَ، وَلَيْسَ بِفَظٍّ، وَلا غَليظٍ، وَلا صَخّابٍ (أي شديد الصوت) ولا مُتَزَيِّنٍ بِالفُحْشِ، وَلا قَوْلِ الخَنا (الفحش من القول)، وَأنا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسولُ اللهِ، وَهَذا مالي فَاحْكُمْ فيهِ بِما أَنْزَلَ اللهُ.

وَكانَ اليَهودِيُّ كَثيرَ المالِ.

ثمَّ قال عليٌّ عليه السلام: كانَ فِراشُ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، عَباءَةً، وَكَانَتْ مِرْفَقَتُهُ أَدَمَ حَشْوُها ليفٌ؛ فَثُنِيَتْ لَهُ ذاتَ لَيْلَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قالَ: لَقَدْ مَنَعَني الفِراشُ اللَّيْلَةَ الصَلاةَ.

فَأَمَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْعَلَ بِطاقٍ واحِدٍ.

فتأمّل في خُلُقه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾». (القلم:4)

من الروايات في هذا الباب:

1) عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، قال: «فِرّوا مِنْ فُضولِ الدُّنْيا كَما تَفِرّونَ مِنَ الحَرامِ، وَهَوِّنوا عَلى أَنْفُسِكُمُ الدُّنْيا كَما تُهَوِّنونَ الجيفَةَ، وَتوبوا إِلى اللهِ مِنْ فُضولِ الدُّنْيا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِكُمْ، تَنْجوا مِنْ شِدَّةِ العَذابِ».

2) وعنه صلّى الله عليه وآله: «لا تَنالونَ الآخِرَةَ إِلَّا بِتَرْكِكُمُ الدُّنْيا وَالتَّعَرّي مِنْها؛ أوصيكُمْ أَنْ تُحِبّوا ما أَحَبَّ اللهُ، وَتُبْغِضوا ما أَبْغَضَ اللهُ».

* ولتقديم فكرة أوفى حول هذا الموضوع، نستعرض نماذج من المواعظ التي تزرع في النفس حبّ الإعراض عن الدنيا والتحلّي بمكارم الأخلاق.

 

قُبضت عنه أطرافها!

يبيّن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في بعض خطبه المنقولة في (نهج البلاغة) «سُنّةَ» رسول الله صلّى الله عليه وآله في التعامل مع الدنيا، ومنزلتها عنده صلّى الله عليه وآله، ويحثّ المسلمين على التأسّي بنبيّهم وتقصّي أثره في التعامل مع الدنيا وزخارفها. قال عليه السلام:

«ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ، ودَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وعَيْبِهَا، وكَثْرَةِ مَخَازِيهَا ومَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْه أَطْرَافُهَا، ووُطِّئَتْ لِغَيْرِه أَكْنَافُهَا، وفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا...».

إلى أن قال عليه السلام: «.. فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى؛ وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ:

1) قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً.

2) أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً.

3) عُرِضَتْ عَلَيْه الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَه، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ، وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ الله ورَسُولُهُ، لَكَفَى بِه شِقَاقاً لله ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ.

4) ولَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ.

5) ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ.

6) ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ.

7) ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ.

8) ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ.

9) ويُرْدِفُ خَلْفَهُ.

10) ويَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِه؛ فَتَكُونُ فِيه التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانَةُ - لإِحْدَى أَزْوَاجِهِ - غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَها.

11) فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِه، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِه، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً.

12) فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.

وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.

ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِه، وزُوِيَتْ عَنْه زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِه، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِه: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟

فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ؛ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللهِ الْعَظِيمِ، بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ. وإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.

فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، واقْتَصَّ أَثَرَهُ، ووَلَجَ مَوْلِجَهُ، وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّداً، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، عَلَماً لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِه وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا، حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِه سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وقَائِداً نَطَأُ عَقِبَه.

وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِه حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟

فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى».

ومن البديهيّ أنّ النقيض لـ«قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْمَاً» هو الإقبال عليها، والحرص والطمع والجشع، فيتجذّر حبّها في النفس، ويسلب بدوره حبّ الله تعالى، والقلبُ المنكِر للمولى عزّ وجلّ، لا يرجوه سبحانه ولا يستحضرُ الخوف منه تعالى، فيكون مصداق قول أمير المؤمنين عليه السلام:

«يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللهَ. كَذَبَ والْعَظِيمِ! مَا بَالُهُ لَا يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُه فِي عَمَلِهِ، فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُه فِي عَمَلِه.

وكُلُّ رَجَاءٍ، إِلَّا رَجَاءَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّه مَدْخُولٌ. وكُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلَّا خَوْفَ اللهِ فَإِنَّه مَعْلُولٌ.

يَرْجُو اللهَ فِي الْكَبِيرِ ويَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ، فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لَا يُعْطِي الرَّبَّ، فَمَا بَالُ اللهِ، جَلَّ ثَنَاؤُه، يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِه لِعِبَادِه؟

أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَه كَاذِباً، أَوْ تَكُونَ لَا تَرَاه لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً؟

وكَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِه، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَا يُعْطِي رَبَّهُ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً، وخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِه ضِمَاراً ووَعْداً.

كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِه، وكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِه؛ آثَرَهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وصَارَ عَبْداً لَهَا».

مَن مرّ بها أمسك على فيه

في (عيون الحكم والمواعظ)، بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال في كلامٍ بعد ذكر بعض حالات الأنبياء:

«ثُمَّ اقْتَصَّ الصَّالِحونَ آثارَهُمْ وَسَلَكُوا مِنْهاجَهُمْ... إلى أن قال عليه السّلام:

ثُمَّ أَلْزَموا أَنْفُسَهُمُ الصَّبْرَ، وَأَنْزَلوا الدُّنْيا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَالميتَةِ الّتي لا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْبَعَ مِنْها إِلَّا في حالِ الضَّرورَةِ إِلَيْها، وَأَكَلُوا مِنْها بِقَدْرِ ما أَبْقى لَهُمُ النَّفْسَ وَأَمْسَكَ الرّوحَ، وَجَعلوها بِمَنْزِلَةِ الجيفَةِ الّتي اشْتَدَّ نَتَنُها، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِها أَمْسَكَ على فيهِ [أي فمه]، فَهُمْ يَتَبَلَّغونَ بِأَدْنى البَلاغِ، وَلا يَنْتَهونُ إِلى الشَّبَعِ مِنَ النَّتْنِ، وَيَتَعَجَّبونَ مِنَ المُمْتَلِئِ مِنْها شَبَعاً، وَالرّاضي بِها نَصيباً..».

 

 

تَطلبُ الدنيا والموتُ يطلبك

روى الخزّاز القمّيّ في (كفاية الأثر) عن جنادة بن أبي أميّة، قال:

«دخلتُ على الحسن بن عليّ، عليهما السلام، في مرضه الذي تُوفّي فيه، وبين يديه طَشْتٌ يقذف فيه الدّم ويخرج كبده قطعةً قطعةً من السّمّ الذي أسقاه معاوية لعنه الله.

فقلت: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال: يا عَبْدَ اللهِ، بِماذا أُعالِجُ المَوْتَ؟

قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثمّ التفت إليّ وقال: وَاللهِ، إِنَّهُ لَعَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيْنا رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ هَذا الأَمْرَ يَمْلِكُهُ اثْنا عَشَرَ إِماماً مِنْ وُلْدِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَفاطِمَةَ عَلَيْها السَّلامُ، ما مِنّا إِلّا مَسْمومٌ أَوْ مَقْتولٌ.

 ثم رفعت الطشت، واتكأ صلوات الله عليه، فقلت: عِظني يا ابن رسول الله.

 قال: نَعَمْ، اسْتَعِدَّ لِسَفَرِكَ، وَحصِّلْ زادَكَ قَبْلَ حُلولِ أَجَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَطْلُبُ الدُّنْيا وَالمَوْتُ يَطْلُبُكَ.

لا تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الّذي لَمْ يَأْتِ عَلى يَوْمِكَ الّذي أَنْتَ فيهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ لا تَكْسِبُ مِنَ المالِ شَيْئاً فَوْقَ قُوْتِكَ إِلّا كُنْتَ فيهِ خازِناً لِغَيْرِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيا في حلالِها حِسابٌ، وَفي حَرامِها عِقابٌ، وَفي الشُّبُهاتِ عِتابٌ، فَأَنْزِلِ الدُّنْيا بِمَنْزِلَةِ الميتَةِ، خُذْ مِنْها ما يَكْفيكَ، فَإِنْ كانَ ذَلِكَ حَلالاً كُنْتَ قَدْ زَهِدْتَ فيها، وَإِنْ كانَ حَراماً لَمْ تَكُنْ قَدْ أَخَذْتَ مِنَ الميتَةِ، وَإِنْ كانَ العِتابُ فَإِنَّ العِقابَ يَسيرٌ.

وَاعْمَلْ لِدُنْياكَ كَأَنَّكَ تَعيشُ أَبَداً، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَموتُ غَداً.

وَإذا أَرَدْتَ عِزّاً بِلا عَشيرَةٍ، وَهَيْبَةً بِلا سُلْطانٍ، فَاخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلى عِزِّ طاعَةِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ.

وَإِذا نازَعَتْكَ إِلى صُحْبَةِ الرِّجالِ حاجَةٌ، فَاصْحَبْ مَنْ إِذا صَحِبْتَهُ زانَكَ، وَإِذا خَدَمْتَهُ صانَكَ، وَإِذا أَرَدْتَ مِنْهُ مَعونَةً أعانَكَ، وَإِنْ قُلْتَ صَدّقَ قَوْلَكَ، وَإِنْ صُلْتَ شَدَّ صَوْلَكَ، وَإِنْ مَدَدْتَ يَدَكَ بِفَضْلٍ مَدَّها، وَإِنْ بَدَتْ مِنْكَ ثُلْمَةٌ سَدَّها، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّها، وَإِنْ سَأَلْتَهُ أَعْطاكَ، وَإِنْ سَكّتَ عَنْهُ ابْتَداكَ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِكَ أَحَدُ المُلِمّاتِ آساكَ، مَنْ لا يَأتيكَ مِنْهُ البَوائِقُ، وَلا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْهُ الطَّرائِقُ، وَلا يَخْذُلُكَ عِنْدَ الحَقائِقِ، وَإِنْ تَنازَعْتُما مَنْفَساً آثَرَكَ.

قال: ثمّ انقطع نفَسه واصفرّ لونه حتّى خَشِيتُ عليه.

ودخل الحسين صلوات الله عليه والأسود بن أبي الأسود، فانكبّ عليه حتّى قبّل رأسه وبين عينيه، ثمّ قعد عنده وتسارّا جميعاً.

فقال أسود بن أبي الأسود: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. إنّ الحسن قد نُعيت إليه نفسه، وقد أوصى إلى الحسين عليه السّلام...».

 

 

الدنيا بمنزلة الميتة

وفي (البحار) عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال:

«يا حَفْصُ، ما أَنْزَلْت الدُّنْيا مِنْ نَفْسي إِلّا بِمَنْزِلَةِ الميتَةِ؛ إِذا اضْطَرَرْت إِلَيْها أَكَلْت مِنْها.

يا حَفْصُ، إِنَّ اللهَ، تَبارَكَ وَتَعالى، عَلِمَ ما العِبادُ عامِلونَ، وَإِلى ما هُمْ صائِرونَ، فَحَلِمَ عَنْهُمْ عِنْدَ أَعْمالِهِمِ السَّيِّئَةِ لِعِلْمِهِ السّابِقِ فيهِمْ، فَلا يَغُرَّنَّكَ حُسْنُ الطَّلَبِ مِمَّنْ لا يَخافُ الفَوْتَ.

ثم تلا قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. (القصص:83) وجعل يبكي ويقول: ذَهَبَتْ، وَاللهِ، الأَماني عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ.

ثمّ قال: فازَ، وَالله، الأَبْرارُ، تَدْري مَنْ هُمْ؟ (هُمُ) الَّذينَ لا يُؤْذونَ الذَّرَّ.

كَفى بِخَشَيْةِ اللهِ عِلْماً، وَكَفَى بِالاغْتِرارِ بِاللهِ جَهْلاً.

يا حَفْصُ، إِنَّهُ يُغْفَرُ للجاهِلِ سَبْعونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ للعالِمِ ذَنْبٌ واحِدٌ، وَمَنْ تَعَلَّمْ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ للهِ دُعِيَ في مَلَكوتِ السَّماواتِ عَظيماً، فَقيلَ: تَعَلَّمَ للهِ، وَعَمِلَ للهِ، وَعَلَّمَ للهِ».

لِتَكُنْ بُلْغَةُ أَحَدِكُمْ كَزادِ الرّاكِبِ

وفي (روضة الواعظين) للفتّال النيسابوريّ، قال:

«روي أن سعد بن أبي وقّاص دخل على سلمان الفارسيّ يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد:

ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟! توفّي رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وهو عنك راضٍ، ترِد عليه الحوض.

فقال سلمان: أمّا أنا، فلا أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكنَّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، عهد إلينا فقال: (لِتَكُنْ بُلْغَةُ [البُلغة: ما يكفي لسدّ الحاجة] أَحَدِكُمْ كَزادِ الرّاكِبِ، وَلا يَفْضُلُ عَنْها)، وحولي هذه الأساود!

قال سعد: وإنّما حوله أجانة وجفنة ومَطْهَرَة».

 


 

دعوةُ إبراهيم وبشارةُ عيسى

 

لا تأكلي الصدقة

«روي عن حليمة السعديّة، قالت: لما تمّت للنبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلّم، سنةٌ تكلّم بكلامٍ لم أسمع أحسن منه، سمعتُه يقول:

(قُدّوسٌ قُدّوسٌ، نامَتِ العُيونُ، وَالرَّحْمَنُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).

ولقد ناولتني امرأةٌ كفّ تمر من صدقة فناولتُه منه - وهو ابن ثلاث سنين - فردّه عليّ، وقال: يا أُمَّه!.. لا تَأْكُلي الصَّدَقَةَ، فَقَدْ عَظُمَتْ نِعْمَتُكِ، وَكَثُرَ خَيْرُكِ، فَإِنّي لا آكُلُ الصَّدَقَةَ.

قالت: فو الله ما قبلتُها بعد ذلك».

(كنز الفوائد للكراجكيّ)

 

سمعتُ كلاماً يُعجبني

قال أبو طالب عليه السلام مُحدّثاً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل مبعثه الشريف:

* «لقد كنتُ كثيراً ما أسمع منه إذا ذهب من اللّيل كلاماً يعجبني، (وكان إذا أكل قال): بِسْمِ اللهِ الأَحَدِ. فإذا فرغ من طعامه قال: الحَمْدُ للهِ كَثيراً... وكنت ربّما أتيت غفلةً فأرى من لدن رأسه نوراً ممدوداً قد بلغ السماء، ثمّ لم أرَ منه كذبةً قط، ولا جاهليّةً قط، ولا رأيته يضحك في موضع الضحك، ولا وقف مع صبيانٍ في لعب، ولا التفت إليهم، وكانت الوحدة أحبّ إليه والتواضع».

(المناقب لابن شهراشوب)

* وعن حليمة السعديّة مرضعة النبيّ، قالت: «.. ولا شرب – محمّد صلّى  الله عليه وآله وسلّم - قطّ إلّا وسمعته ينطق بشيء، فتعجّبتُ منه حتّى إذا نطق وعقد كان يقول: بِسْمِ اللهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ، إذا أكل، وفي آخر ما يفرغ من أكله وشربه، يقول: الحَمْدُ للهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ».

* وقالت أيضاً تروي بعض ما رأته من أحوال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «ما نظرتُ في وجه رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو نائم إلّا ورأيتُ عينيه مفتوحتين كأنّه يضحك، وكان لا يُصيبه حرٌّ ولا بردٌ.... وما تمنّيتُ شيئاً قطّ في منزلي إلّا أُعطيته من الغد... وما أخرجته قطّ في شمس إلّا وسحابة تظلّه، ولا في مطر إلّا وسحابة تكنّه من المطر».

(العدد القويّة للحلّيّ)

 

من هم العالون؟

«عن أبي سعيد الخدريّ، قال:

كنّا جلوساً مع رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ أقبل إليه رجلٌ فقال: يا رسولَ الله!.. أخبرني عن قول الله، عزّ وجلّ، لإبليس:

﴿.. أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ فمَن هم يا رسول الله، الذين هم أعلى من الملائكة؟!.. (ص:57)

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

أَنا وَعَلِيٌّ وَفاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، كُنّا في سَرادِقِ العَرْشِ نُسَبِّحُ اللهَ، وَتُسَبِّحُ المَلائِكَةُ بِتَسْبيحِنا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، آدَمَ بِأَلْفَيْ عامٍ، فَلَمَّا خَلَق اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، آدَمَ أَمَرَ المَلائِكَةَ أَنْ يَسْجُدوا لَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْنا بِالسُّجودِ، فَسَجَدَتِ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ إِلّا إِبْليسَ فَإِنَّهُ أَبى أَنْ يَسْجُدَ، فَقالَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى:

﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ﴾، أَيْ مِنْ هَؤلاءِ الخَمْسَةِ المَكْتُوبَةِ أَسْماؤُهُمْ في سُرادِقِ العَرْشِ».

(فضائل الشيعة للصدوق)

 

 

 

شَكَوْنا مَحَبَّتَكَ إِلى اللهِ

رُوي عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من ضمن خبر طويل في وصف المعراج، قال:

«.. ثُمَّ عُرِجَ بي إِلى السَّماءِ السابِعَةِ، فَسَمِعْتُ المَلائِكَةَ يَقولونَ لَمّا أَنْ رَأَوْني: الحَمْدُ لله الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ؛ ثُمَّ تَلَقَّوني وَسَلَّموا عَلَيَّ، وَقالوا لي مِثْلَ مَقالَةِ أَصْحابِهِمْ.

فَقُلْتُ: يا مَلائِكَةَ رَبِّي!.. سَمِعْتُكُمْ تَقولونَ: الحَمْدُ لله الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ، فَما الّذي صَدَقَكُمْ؟..

قالوا: يا نَبِيَّ اللهِ!.. إِنَّ اللهَ، تَبارَكَ وَتَعالى، لَمّا أَنْ خَلَقَكُمْ أَشْباحَ نورٍ مِنْ سَناءِ نورِهِ وَمِنْ سَناءِ عِزِّهِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مَقاعِدَ في مَلَكوتِ سُلْطانِهِ، عَرَضَ وِلايَتَكُمْ عَلَيْنا وَرَسَخَتْ في قُلوبِنا، فَشَكَوْنا مَحَبَّتَكَ إِلى اللهِ، فَوَعَدَ رَبُّنا أَنْ يُريَناكَ في السَّماءِ مَعَنا، وَقَدْ صَدَقَنا وَعْدَهُ...».

(تفسير فرات الكوفيّ)

 

 

وهذا المنتقم من أعدائي

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ضمن كلامٍ له مع الجارود بن المنذر، وكان نصرانيّاً فأسلم عام الحديبية: «يا جارودُ! .. لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي إِلى السَّماءِ أَوْحَى اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِلَيَّ أَنْ: سَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مَنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا عَلى ما بُعِثُوا.

فَقُلْتُ: عَلى ما بُعِثْتُمْ؟..

قالوا: عَلى نُبُوَّتِكَ، وَوِلايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ وَالأَئِمَّةِ مِنْكُما.

ثُمَّ أَوْحَى إِلَيَّ أَنِ الْتَفِتْ عَنْ يَمينِ العَرْشِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذا: عَلِيٌّ، وَالحَسَنُ، وَالحُسَيْنُ، وَعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، وَمَحُمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَموسى بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ موسى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالمَهْدِيُّ، في ضَحْضاحٍ مِن نورٍ يُصَلّونَ.

فَقالَ الرَّبُ تَعالى: هَؤلاءِ الحُجَجُ لِأَوْلِيائي، وَهَذا المُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدائي».

(مقتضب الأثر للجوهريّ)

 

أَرى نورَ الوَحْيِ وَالرِّسالَةِ

قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في وصف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم:

«وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ العَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلامِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ..».

(نهج البلاغة)

 

 

 

 

 

 

 

﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا

«عن عليّ بن أسباط، قال:

قلت للباقر عليه السلام: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكتب ولم يقرأ!

فقال: كَذَبوا لَعَنَهُمُ اللهُ، أَنّى يَكونُ ذَلِكَ؟.. وَقَدْ قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]، فَيَكونُ يُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَكْتُبَ؟..

قلت: فلمَ سُمّي النبيّ الأُمّيّ؟..

قال: نُسِبَ إِلى مَكَّةَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿..وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..﴾، فَأُمُّ القُرَى مَكَّةُ، فَقيلَ: أُمِّيٌّ لِذَلِكَ».  (الأنعام:92)

(عِلل الشرائع للصدوق)

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

29/12/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات