فكر ونظر

فكر ونظر

27/01/2017

السُّنَن الاجتماعية في القرآن الكريم


السُّنَن الاجتماعية في القرآن الكريم

تعريفها ومناهج دراستها

ــــــــــــــــــــــ السيد منذر الحكيم ــــــــــــــــــــــ

من كتاب (مجتمعنا في تراث الشهيد السيد محمّد باقر الصدر) للأستاذ في الحوزة العلمية، سماحة السيد منذر الحكيم، والذي يعرض فيه لسُنن الحياة الاجتماعية ودورها في تكامل المجتمعات الإنسانية وانهيارها، اخترنا هذه المقالة التي تتناول عِلم السُّنَن الإلهية وتُعرّف بالمناهج الدارسة له.

«شعائر»

 

 

كلُّ ما يَقَعُ في هذا الكون لا يقعُ صدفةً، وإنّما وِفق عِلل وأسباب، ويتحقّق حسب نظام دقيق وقوانين عامة ثابتة وصارمة، لا تتخلّف ولا تتبدّل. قال اللهُ تعالى:

- ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا..﴾ يس:38.

- ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ المؤمنون:12.

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبيّن التقنين الذي جعله المولى تبارك وتعالى للحياة وللكائنات الحيّة وغير الحيّة.

والإنسان خاضعٌ لهذا النظام الدقيق. ثمّ إنّ الوجود الفرديّ للإنسان كوجوده المجتمعيّ أيضاً، بالرغم من امتلاكه للاختيار والإرادة التي تجعل منه كائناً متميّزاً عمّن سواه، لا يخرج عن نظام الأسباب والمسبّبات، وعن سُنَن الحياة. قال الله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ آل عمران:137.

ومن أجل وجود سُنن وقوانين علمية قابلة للكشف والتعرّف عليها والإحاطة بها، اعتنى القرآن الكريم بعرض صور من حياة المجتمعات الإنسانية والأمم بشتّى اتجاهاتها، ليكشف لنا كيفية تحرّك هذه المجتمعات من خلال سُنن الحياة الاجتماعية وقوانينها، وأسباب صعودها أو انهيارها، وبذلك يُمكن لمن يأتي من البشر أن يستفيد من تجارب مَن مضى منهم، ويوظّف علمه ومعرفته ليصون مجتمعه من التردّي والانهيار، ويكسب بذلك مدارج التطوّر والاستكمال. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يوسف:111.

فالإنسان لا يستطيع تغيير هذه السُّنَن، ولكنّه قادر على فهمها والإحاطة بها وتوظيفها توظيفاً صحيحاً، يجعله معتبِراً بها ومستفيداً منها استفادة حقيقية تجنّبه مزالق مَن مضى، وتجعله مستقبلاً لما هو آتٍ خيرَ استقبال، ومستفيداً من ظاهرة السببيّة والتقنين والسُّنَنيّة في الحياة كما يستفيد أولو الألباب الذين يتّعظون بغيرهم، ويتجّنبون مزالق الحمقى والجهّال وأصحاب الضلال.

ظاهرة السُّنَن في القرآن الكريم

تشكّل ظاهرة السُّنن الاجتماعية في القرآن الكريم حقلاً مهمّاً من الرؤية الاجتماعية القرآنية للحياة الإنسانية. ولا نبالغ اذا قلنا بأنّ ثُلث آيات القرآن الكريم قد اهتمّت بهذا المجال الحيويّ الذي يغفله الإنسان نتيجة انهماكه بملاذّ الحياة من جهة، وتملّكه للإرادة والاختيار من جهة ثانية، حيث يتصور أنّه باختياره يجتاز كلّ السّنن ولا يخضع لشيءٍ منها ما دام قادراً على أن يختار ما يريد.

لكنه يغفل عن أنّ إرادته واختياره تكون ضمن هذا النظام السُّنَنِيّ، وكلّ ما يختاره لا يشذّ عن نظام السُّنَن، وإنّما يتخيّر في مجال الخضوع لها، فهو يخرج من دائرة سُنَّةٍ من سُنَن الحياة، ليدخل ضمن دائرة سُنّةٍ أخرى. قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ التكوير:28-29.

فالمشيئة الإلهية العامة هي فوق كلّ مشيئة، وهذه المشيئة قد قَدّرت للإنسان أن يخضع لنظام السُّنن، ولكنه باختياره يختار لنفسه العاقبة التي يريدها من قبل، ليكون مسؤولاً عن أعماله وتبعاتها دون غيره. وهذا هو منتهى التكريم والتفضيل، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ الإسراء:70.

وكذلك، فإنّ حركة المجتمعات البشرية تخضع لقوانين وسُنن كونية كسائر المظاهر الكونية الخاضعة للسُّنن الإلهية. وليكون الإنسان قادراً على كسب الكمال المنشود، لا بدّ له أن يتعرّف على هذه السّنن وكيفية توظفيها للارتقاء من خلالها في سُلَّم الكمال البشري المنشود.

والقرآن الكريم قد أولى عناية فائقة بهذه الظاهرة في نصوصه، وهي تستحقّ الدراسة المتأنية، ولا يمكن لأيّ دراسة اجتماعية أن تغفل عن هَدي القرآن الكريم في هذا المجال.

المناهج لدراسة السُّنن الاجتماعية

إذا أردنا الوقوف عند ظاهرة السُّنن الاجتماعية وقفة متأمّلة ومتأنّية، وجب أن نستقرىء آيات الذكر الحكيم لنرى المساحة الكبيرة التي تغطّيها نصوص هذه الظاهرة في القرآن الكريم. وهناك عدّة مناهج لعرض هذه الظاهرة ودراستها، منها:

1) المنهج الذي يأخذ نصوص السّوَر القرآنية حسب ترتيبها في المصحف بدءاً من سورة (الحمد) إلى سورة (الناس).

2) المنهج الموضوعي التاريخي الذي يأخذ النصوص القرآنية حسب تسلسل أحداث التاريخ، بدءاً بخلق آدم عليه السلام إلى عصر سيّد المرسلين محمّدٍ صلّى الله عليه وآله؛ فيأتي على عصر آدم وأبنائه، ثم ينتهي إلى عصر نوح، فإبراهيم، فموسى، وعيسى، ثم محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وعليهم، وهذا ما تعرّض له المفسّرون الذين اهتمّوا بتاريخ الأنبياء وأُممهم عبر القرون والأجيال. وإنْ لم يقفِ المفسّرون عند ظاهرة السُّنن، ولم يدرسوها كظاهرة علمية اجتماعية دراسة مستوعبة، لكنّهم يوفّرون بذلك المادة اللازمة لمن يريد دراسة هذه الظاهرة المهمّة في المجتمع الإنساني.

3) المنهج الموضوعي الذي يقسّم السُّنن الاجتماعية إلى مطلقة ومشروطة، أو قسّمها إلى ثلاثة أنواع: مطلقة، ومشروطة، وموضوعية .وقد اعتنى بهذا المنهج جُلّ مَن حاول دراسة المجتمعات البشرية دراسة قرآنية، لأنه يُعِين على معرفة المنظومة السُّنَنية في القرآن الكريم، وكيفية الترابط بين السُّنن الاجتماعية والنظام الذي يتحكّم فيها.

وكشفُ هذا المنهج يحتاج إلى دراسة مستقلّة تستوعب الفترة الزمنية التي نزلت فيها آيات القرآن الكريم، وتحقّقت فيها التجربة القرآنية بمنهجها الفريد الذي أثمرت نتائجه في ما أوجده الإسلام من حضارة إنسانية، ذات منطلقات ربّانية وثقافة قرآنية رائدة.

4) وهناك منهج رابع قد طبّقه القرآن الكريم بنفسه حيث تدرّجت آياته في النزول، وسعى بهذا المنهج لتربية المجتمع المعاصر لعصر سيّد المرسلين، واعتنى بهذه الظاهرة أيّما اعتناء، واجتنى ثمار هذه التربية الجيلُ الإسلامي الأول.

ويمكن أن نقفَ على هذه النصوص القرآنية التي تدرّج نزولها خلال ثلاث وعشرين سنة، بدءاً بالآيات الأولى من سورة (العلق)، وانتهاءً بآياتٍ من سورة (المائدة).

وفي هذه النصوص نجد القواعد العامة والظواهر الاجتماعية التي لا تشذّ عنها المجتمعات، كما نجد المصاديق والتطبيقات لهذه السُّنن، ونقف على كيفية تعامل المجتمعات معها، والقوانين التي كان الأنبياء يعتنون بها وبتعليمها لأبناء مجتمعاتهم، فتلتزم بها طائفة من الناس، ويُعرِض عنها آخرون، ثم تأتي النتائج التي حدّث عنها الأنبياء كما قالوا.

وهذا المنهج متميّز باستعادة التجربة القرآنية الأولى، وبإمكانه أن يكشف عن المنهج التعليمي والتربوي الذي اتّبعه القرآن الكريم نفسه في هذا المضمار. ولئن كان هذا المنهج يعتبر منهجاً حديثاً عند المفسّرين، فهو أقدم المناهج، لأنّه المنهج الأول الذي سار عليه الوحي حين نزوله. قال تعالى: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ الإسراء:106.

وقال أيضاً مخاطباً نبيّه: ﴿..وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..﴾ النحل:44.

وقال كذلك: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ هود:120.

5) ويتلوه في الأهمية المنهج التاريخي الموضوعي الذي يجمع النصوص التاريخية التي ترتبط بكلّ عصر، ليقف القارئ من خلالها على مسيرة المجتمعات البشرية.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

27/01/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات