الملف

الملف

27/03/2017

البعثة النبويّة في خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام

 

حتّى تفرّى الليل عن صُبحه

البعثة النبويّة في خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام

§        شرح: العلّامة الشيخ مصباح اليزدي

* تتضمّن هذه المقالة مقتطفات من خطبة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في المسجد النبويّ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهي برواية العلامة المجلسي في (البحار) عن (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي.

المقتطفات المشار إليها ترتبط بما ذكرتْه، عليها السلام، عن الحضيض الذي تقلّب فيه العرب قبل بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكيف أنقذهم الله تبارك وتعالى ببركة رسول الله، حتّى أسفر الصبح ونطقوا بكلمة الإخلاص.

تبقى الإشارة إلى أنّنا اعتمدنا شرح العلّامة المجلسي قدّس سرّه لعددٍ من المفردات، وأرفقنا الفقرات بتوضيحات للعلّامة الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي حفظه المولى، انتخبناها، بتصرّف، من سلسلة محاضراته في شرح «الخطبة الفاطمية»، كان ألقاها بين عامي 2010 و2011م في مكتب وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظلّه.

«شعائر»

 

يَعدّ العلامة السيّد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه، خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام، في المسجد النبويّ من «الحُجج البالغة»، ويؤكّد أنّ أهل البيت عليهم السلام، كانوا يُلزمون أبناءهم بحفظها كما يلزمونهم بحفظ القرآن الكريم.

وقد تضمّنت هذه الخطبة الشريفة جملةً من المفاهيم والعناوين المفصلية، منها «بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله»، حيث تقول الصدّيقة الزهراء عليها السلام، في مستهلّها:

«وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وسَمَّاهُ قبلَ أَنِ اجْتَبَلَهُ، واصْطَفاهُ قَبلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إذِ الخَلائِقُ بِالغَيْبِ مَكنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأهاوِيلِ مَصُونَةٌ، وبِنِهايَةِ العَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَآيِلِ الأُمُورِ، وإِحَاطَةً بِحَوادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ المَقْدُورِ، ابْتَعَثَهُ‏ الله‏ إِتْمَاماً لِأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِيرِ رَحْمَتِهِ، فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً للهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ الله بِأَبِي مُحَمَّدٍ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الْأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ».

وفي مقطع آخر من خطبتها تقول صلوات الله عليها:

«فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلًا عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِياً إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ‏ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ، وَيَنْكُتُ الْهَامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ، حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ، وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبِيضِ الْخِمَاصِ.

وَكُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ‏ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ».

***

العلامة المجلسي: «الجَبْل: الخَلق، يقال: جَبَلهم الله أي خلقهم، وجَبَله على الشيء أي طَبَعه عليه، ولعلّ المعنى أنّه تعالى سمّاه لأنبيائه قبل أن يخلقه.

* البُهَم: جمع بُهمة بالضمّ، وهي مشكلات الأمور.

* الصّدْع: الإظهار، تقول: صَدَعتُ الشيء، أي أظهرته، وصَدَعتُ بالحقّ إذا تكلمتُ به جهاراً. * المَدْرَجة: المذهب والمسلك.

* الثَّبَج بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه. والكَظَم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق، أي كان صلّى الله عليه وآله، لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم، ولا يداريهم في الدعوة.

* المراد بالحِكْمة: البراهين القاطعة، وهي للخواصّ، وبالمَوعظة الحَسَنة: الخطابات المقنعة والعِبر النافعة، وهي للعوامّ.

* النَّكْت: إلقاءُ الرجل على رأسه، والهام جمع الهامة، بالتخفيف فيهما، وهي الرأس، والمراد قتل رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم. وقيل: أُريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها.

* الوَشِيظ: السفَلَة من الناس.

* كلِمة الإِخلاص: كلمة التوحيد. وفيه تعريضٌ بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم.

* البِيض الخِمَاص: (المراد به هنا الكُمّل من الناس، بِيضِ الوجوه من الصلاح، وخِماص البطون من الصوم والتعفّف عن أموال الناس).

* مُذْقَة الشّارب: شرْبَتُه. والنُّهْزَة بالضمّ: الفرصة، أي محلّ نهزته. أي كنتم قليلين أذلّاء، يتخطّفكم الناس بسهولة.

* القَبْسة: شعلة من نار يقتبس من معظمها. والإضافة إلى العجلان لبيان القلّة والحقارة.

* وطيّ القدَم: مَثل مشهور في المغلوبية والمذلّة.

* الطَّرْق بالفتح: ماء السماء (تبتذله) الإبل.

* الوَرَق بالتحريك: ورق الشجر. والمقصود وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم، ولفقرهم وقلّة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي.

* الخاسِئ: المبعَد المطرود.

* التّخَطُّف: استلاب الشيء وأخْذه بسرعة، اقتُبس من قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال:26). وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين عليه السلام، إنّ الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، والمراد بالنّاس: سائر العرب أو الأعمّ.

* اللَّتَيّا: بفتح اللّام وتشديد الياء: تصغير الّتي، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة.

* مُني بِكذا -على صيغة المجهول - أي ابتُلي. وبُهَم الرجال: الشجعان منهم. وذُؤْبان العَرَب: لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم. والمَرَدة: العتاة المتكبرون المجاوزون للحدّ».

***

اليزدي: «كان هدف الزهراء سلام الله عليها من إلقائها هذه الخطبة، إنقاذ الناس من تبعات الخطيئة التي اقترفوها بمتابعتهم للمنافقين بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ومن هذا المنطلق انْبَرَت عليها السلام، بادئ ذي بدء، تعرّف المستمعين بمقام الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله، وتذكّرهم بالجهود المضنية التي تجشّمها في سبيل هداية الناس، لا سيّما أهل الجزيرة العربيّة، الذين استنقذهم النبيّ من حضيض الذلّة إلى ذُرى المجد والعزّة.

ثمّ تستعرض الصديقة الزهراء سلام الله عليها، مفرداتٍ من جهاد النبيّ صلّى الله عليه وآله، في سبيل استنقاذ الناس، وفق أسلوبٍ مقتبسٍ من القرآن الكريم:

قال الله تعالى في الآيتين 24 و25 من سورة (الأنفال): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينْ‏َ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

فبعد أن تطرح الآية موضوعَ طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله، وأنّ طاعته مدعاة لحياة الإنسان، يتحوّل الكلام إلى لهجة التهديد، بما معناه: إذا خالفتم النبيّ فستتورّطون بفتنة عظيمة.

ويقول عزّ وجلّ، في الآية 26 من السورة ذاتها: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي أنّكم كنتم كالحمائم التي تخاف أن تتخطّفها الصقور، إلى أن آواكم الله ونصركم ورزقكم من الطيّبات، كلّ ذلك حتّى تشكروا نِعمه عليكم. والباري تبارك وتعالى يريدنا أن نشكر كي نبلغ الكمال، فنحظى بأهليّة نيل المزيد من الرحمات.

وكأنّ كلمات الزهراء سلام الله عليها، جاءت تفسيراً لهذه الآيات، فهي تقول: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله، يبذل قصارى جهده في هداية الناس. فلم يقتصر عمله على الدعوة، بل إنّه لم يألُ جهداً إلّا وبذله، ولم يترك معونة إلّا وأسداها، حتّى فتح مكّة وحطّم الأصنام: «حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ»؛ وتفرّق جمع الكفّار والمشركين وتشتّتوا ولاذوا بالفرار والهزيمة، بعد أن كانوا قد ائتلفوا على شنّ الحروب على الإسلام.

* قولها عليها السلام: «حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ»؛ هنا تستعير الصدّيقة الزهراء عبارة هي غاية في الجمال والبلاغة؛ إذ تشبّه الليل بستارٍ أسود قاتم قد تمزّق وتفرّى، فبان بياض الصبح من بين مِزَقِه. فلقد كانت الأيّام الاولى للبعثة النبويّة شديدة المحنة والقتامة على المسلمين الذين قاسوا فيها أشدّ أنواع العذاب والمعاناة، حتّى لطُف الله بهم فمزّق ستار الليل المظلم عن صبح أملٍ أبلج.

* قولها عليها السلام: «وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ»؛ إذ لم يكن الحقّ حتّى ذلك الحين واضحاً، بل إنّ جهاد الرسول صلّى الله عليه وآله وجهوده المضنية هي التي هيّأت الأرضيّة لظهور الحقّ واضحاً وتجلّي كُنهه للناس.

* قولها عليها السلام: «وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ»؛ فقد كانت الشياطين الإنس والجنّ تثير الضجيج والصّخَب كي لا يصل صوت الحقّ إلى الأسماع. وهذه التعابير تُعدّ غاية في الجمال.

* قولها عليها السلام: «وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ»؛ فقد أُقصيت عوامل النفاق بعد أن نفذت إلى صفوف المسلمين. «وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ»؛ وهنا تشبّه مولاتنا الزهراء عليها السلام، الكفر والعناد بما يطرأ على الأمر من عُقَد تعيق تقدّمه وانسيابه. فكأنّ مهمّة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، التبليغيّة واجهتها عُقَد عصيّة على الحلّ، واستمرّ الحال على هذا المنوال حتّى انحلّت تلك العُقَد بالتدريج.

* قولها عليها السلام: «وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ»؛ فعندما خرستْ الشياطين وسكت الناطقون باسمهم، نطق المنادي بنداء الإسلام، وبلغتْ دعوةُ النبيّ أسماعكم فآمنتم.

ثمّ تعود سلام الله عليه إلى استعمال التعابير الأدبيّة الرائعة من جديد فتقول مخاطبة الحاضرين، لقد كنتم:

- «مُذْقَةَ الشَّارِبِ»؛ أي جرعة الماء التي يتسنّى لأيّ أحد شربها وابتلاعها.

- «وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ»؛ مطمع كلّ طامع.

- «وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ»؛ وهي الشعلة التي يختطفها المستعجل من دون أن تحترق يده أو تنطفئ النار. فقد كنتم إلى هذه الدرجة من الضعف وعلى وشك الأفول، ومع ذلك فقد استمرّت حياتكم حتّى آلت بكم الأمور إلى ما أنتم عليه اليوم.

أمّا من الناحية الاجتماعيّة فكنتم «أَذِلَّةً خَاسِئِينَ»؛ تشكون الذلّ والهوان فلا يكترث بكم أحد. «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»؛ وهي سلام الله عليها هنا تشير ثانيةً إلى الآية 26 من سورة (الأنفال).

فالصدّيقة الزهراء عليها السلام تذكّر الناس بهذه الأمور من أجل أن توقظ ضمائرهم، وإلّا فإنّ قضية فدك لم تكن سوى ذريعة لهداية الناس».

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

27/03/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات