الملف

الملف

منذ يوم

بدر الكبرى


بدر الكبرى

النصر الإلهي على الوَثنيّة الأولى

 

 

استهلال

دعاء النبيّ صلّى الله عليه وآله يومَ بدر

جهاد الإمام عليّ عليه السلام في بدر

الشيخ المفيد قدّس سرّه

هكذا سارت قريش إلى حتفها في «بدر»

العلامة الطباطبائي رحمه الله

وادي بدر: تاريخه، وشهوده على التوحيد

تحقيق: حسين الوائلي

قراءة في نتائج معركة بدر

الأستاذ أحمد حسين يعقوب

 

استهلال

دعاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يومَ بدر‏

«اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ.

وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ.

وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ.

وَكَمْ مِنْ كَرْبٍ يَضْعُفُ عَنْهُ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ.

وَيَخْذُلُ فِيهِ الْقَرِيبُ، وَيَشْمَتُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتُعْيينِي فِيهِ الْأُمُورُ

أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ

رَاغِباً فِيهِ إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ

فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ عَنِّي وَكَفَيْتَهُ

فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَاجَةٍ، وَمُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ

فَلَكَ الْحَمْدُ كَثِيراً وَلَكَ الْمَنُّ فَاضِلاً».

(السيد ابن طاوس، مهج الدعوات)

 

جهاد الإمام عليّ عليه السلام في بدر

§        الشيخ المفيد قدّس سرّه

 

* في هذا النصّ الذي اخترناه من كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد قدّس سرّه نقرأ توجيهاتٍ ودروساً في إلهيات الجهاد، استخلصَها من معركة بدر الكبرى التي شكّلت منعطفاً حاسماً في رسوخ الدعوة النبوية المقدّسة وانتصار التوحيد على شرك الجاهلية وكفرها.

نشير إلى أن هذا النصّ مقتطف من الجزء الأول من كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد وبتصرّف يسير يتلاءم وضرورات النشر.

                                                                                «شعائر»

.. فأمّا الجهاد الذي ثبتتْ به قواعد الإسلام، واستقرّت بثبوتها شرائع الملّة والأحكام، فقد تخصّص منه أمير المؤمنين عليه السلام بما اشتهر ذكره في الأنام، واستفاض الخبر به بين الخاصّ والعامّ، ولم تختلف فيه العلماء، ولا تنازع في صحّته الفهماء، ولا شكّ فيه إلّا غافلٌ لم يتأمّل الأخبار، ولا دفعه ممّن نظر في الآثار، إلا معاند بهّات لا يستحيي من العار.

فمن ذلك ما كان منه عليه السلام في غزاة بدر المذكورة في القرآن، وهي أوّل حرب كان بها الامتحان، وملأت رهبتها صدور المعدودين من المسلمين في الشجعان، وراموا التأخّر عنها لخوفهم منها وكراهتهم لها، على ما جاء به محكم الذكر في البيان، حيث يقول جلّ جلاله فيما قصّ به من نبأهم على الشرح والبيان: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ الأنفال:5-6، في الآي المتّصلة بذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ الأنفال:47، إلى آخر السورة. فإنّ الخبر عن أحوالهم فيها يتلو بعضه بعضاً، وإن اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه.

وكان من جملة خبر هذه الغزاة، أنّ المشركين حضروا بدراً مصرّين على القتال، مستظهرين فيه بكثرة الأموال، والعدد والعدّة والرجال، والمسلمون إذ ذاك نفر قليل عددهم هناك، حضرته طوائف منهم بغير اختيار، وشهدته على الكره منها له والاضطرار، فتحدّتهم قريش بالبراز ودعتهم إلى المصافّة والنزال، واقترحت في اللقاء منهم الأكفاء، وتطاولت الأنصار لمبارزتهم، فمنعهم النبيّ صلّى الله عليه وآله من ذلك، وقال لهم: «إنّ القومَ دعَوا الأكفاء منهم»، ثمّ أمر عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام، بالبروز إليهم، ودعا حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهما - أن يبرزا معه.

فلمّا اصطفّوا لهم لم يتبيّنهم القوم، لأنّهم كانوا قد تغفّروا [أي لبسوا المغافر، والمغفر: زرد ينسج من الدرع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة] فسألوهم: من أنتم، فانتسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام.

ونشبت الحرب بينهم، وبارز الوليد أميرَ المؤمنين عليه السلام، فلم يَلْبَثْهُ حتى قتله، وبارز عتبة حمزة رضي الله عنه، فقتله حمزة، وبارز شيبة عبيدة رحمه الله فاختلفت بينهما ضربتان، قطعت إحداهما فخذ عبيدة، فاستنقذه أمير المؤمنين عليه السلام بضربة بدَر بها شيبة فقتله، وشركه في ذلك حمزة رضوان الله عليه، فكان قتْل هؤلاء الثلاثة أوّل وهن لحق المشركين، وذلٍّ دخل عليهم، ورهبة اعتراهم بها الرعب من المسلمين، وظهر بذلك أمارات نصر المسلمين.

ثمّ بارز أمير المؤمنين عليه السلام، العاص بن سعيد بن العاص، بعد أن أحجم عنه مَن سواه، فلم يلبثه أن قتله.

وبرز إليه حنظلة ابن أبي سفيان فقتله.

وبرز بعده طعيمة بن عديّ فقتله.

وقتل بعده نوفل بن خويلد، وكان من شياطين قريش.

ولم يزل عليه السلام يقتل واحداً منهم بعد واحدٍ، حتى أتى على شطر المقتولين منهم، وكانوا سبعين قتيلاً؛ تولّى كافّة مَن حضر بدراً من المؤمنين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتل الشطر منهم، وتولّى أمير المؤمنين قتل الشطر الآخر وحده، بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده ونصره، وكان الفتح له بذلك وعلى يديه، وخُتم الأمر بمناولة النبيّ صلّى الله عليه وآله، كفّاً من الحصى، فرمى بها في وجوههم، وقال: «شاهتِ الوجوه»، فلم يبقَ أحدٌ منهم إلّا ولّى الدُّبُرَ لذلك منهزماً، وكفى اللهُ المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه السلام وشركائه، في نصرة الدين من خاصّة الرسول عليه وآله السلام، ومَن أيّدهم به من الملائكة الكرام عليهم التحية والسلام، كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿.. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ الأحزاب:25.

أسماء الذين قتلهم أمير المؤمنين في بدر

أثبت رواة العامّة والخاصّة معاً أسماء الذين تولّى أمير المؤمنين عليه السلام قتلهم ببدر من المشركين، على اتّفاقٍ فيما نقلوه من ذلك واصطلاح، فكان ممّن سمَّوه:

- الوليد بن عتبة، كما قدّمناه، وكان شجاعاً جريئاً فاتكاً وقّاحاً، تهابه الرجال.

- والعاص بن سعيد، وكان هولاً عظيماً تهابه الأبطال. وهو الذي حاد عنه عمر بن الخطاب، وقُصّته فيما ذكرناه مشهورة، ونحن نثبتها فيما نورده بعدُ إن شاء الله.

- وطعيمة بن عديّ بن نوفل، وكان من رؤوس أهل الضلال.

- ونوفل بن خويلد، وكان من أشدّ المشركين عداوةً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وكانت قريش تقدّمه وتعظّمه وتطيعه... ولمّا عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله، حضوره بدراً، سأل الله عزّ وجلّ أن يكفيه أمره، فقال: «اللّهمّ اكفِني قتلَ ابن خويلد»، فقتله أمير المؤمنين عليه السلام.

- وزمعة بن الأسود.

- والحارث بن زمعة.

- والنضر بن الحارث بن عبد الدار.

- وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم، عمّ طلحة بن عبيد الله.

- وعثمان ومالك ابنا عبيد الله، أخوا طلحة بن عبيد الله.

- ومسعود بن أبي أميّة بن المغيرة.

- وقيس بن الفاكه بن المغيرة.

- وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة.

- وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة.

- وحنظلة ابن أبي سفيان.

- وعمرو بن مخزوم.

- وأبو المنذر بن أبي رفاعة.

- ومنبه بن الحجّاج السهمي.

- والعاص بن منبه.

- وعلقمة بن كلدة.

- وأبو العاص بن قيس بن عديّ.

- ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص.

- ولوذان بن ربيعة.

- وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة.

- ومسعود بن آمنة بن المغيرة.

- وحاجب بن السائب بن عويمر.

- وأوس بن المغيرة بن لوذان.

- وزيد بن مليص.

- وعاصم بن أبي عوف.

- وسعيد بن وهب، حليف بني عامر.

- ومعاوية بن عامر بن عبد القيس.

- وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد.

- والسائب بن مالك.

- وأبو الحكم بن الأخنس.

- وهشام بن أبي أميّة بن المغيرة.

فذلك خمسة وثلاثون رجلاً، سوى مَن اختُلف فيه، أو شرك أميرُ المؤمنين عليه السلام فيه غيرَه، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر، على ما قدّمناه.

من أخبار بدر

من مختصر الأخبار التي جاءت بشرح ما أثبتناه:

* «..عن حارث بن مضرب، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السلام، يقول: لقد حضرنا بدراً وما فينا فارسٌ غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتَنا ليلةَ بدرٍ وما فينا إلّا مَن نام، غيرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّه كان منتصباً في أصل شجرةٍ يصلّي ويدعو حتّى الصباح».

* «..عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: لمّا أصبح الناس يوم بدر، اصطفّت قريش؛ أمامها عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنة الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمّد، أَخْرِج إلينا أكْفاءَنَا من قريش. فبدر إليهم ثلاثة من شبّان الأنصار فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فانتسبوا له، فقال لهم: لا حاجة بنا إلى مبارزتكم، إنّما طلبنا بني عمّنا.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله، للأنصار: ارجعوا إلى مواقفكم.

ثمّ قال: قم يا عليّ، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قاتلوا على حقّكم الذي بعث اللهُ به نبيَّكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليُطفئوا نور الله.

فقاموا فصفّوا للقوم، وكان عليهم البيض [جمع بيضة وهي التي تغطي رأس المقاتل] فلم يُعرَفوا، فقال لهم عتبة: تكلّموا، فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم.

فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسدُ رسوله. فقال عتبة: كُفْوٌ كريم.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب.

وقال عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.

فقال عتبة لابنه الوليد: قم يا وليد، فبرز إليه أميرُ المؤمنين عليه السلام، وكانا إذ ذاك أصغريّ الجماعة سنّاً، فاختلفا ضربتين، أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين عليه السلام، واتّقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين عليه السلام فأبانتها. فرُوي أنّه كان يذكر بدراً وقتله الوليد، فقال في حديثه: كأنّي أنظرُ إلى وميضِ خاتمه في شماله، ثمّ ضربتُه ضربةً أخرى فصرعته وسلبتُه، فرأيت به رَدعاً من خَلوق، [أي أثرَ الطِّيب] فعلمتُ أنه قريب عهدٍ بعرس.

ثمّ بارز عتبة حمزة رضي الله عنه فقتله حمزة.

ومشى عبيدة - وكان أسنّ القوم - إلى شيبة، فاختلفا ضربتين، فأصاب ذُباب سيف [طرف السيف الذي يُضرَب به] شيبة عضلة ساق عبيدة فقطعتها، واستنقذه أمير المؤمنين عليه السلام وحمزة منه، وقتلا شيبة، وحُمل عبيدة من مكانه فمات بالصفراء» [الصفراء: وادٍ بين مكة والمدينة].

* «..عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لقد تعجبّتُ يومَ بدرٍ من جرأة القوم، وقد قتلتُ الوليد بن عتبة، وقَتل َحمزةُ عتبة، وشركتُهُ في قتل شيبة، إذ أقبل إليّ حنظلة بن أبي سفيان، فلمّا دنا منّي ضربتُه ضربةً بالسيف فسالت عيناه، فلزم الأرض قتيلاً».

* «..عن صالح بن كيسان، قال: مرّ عثمان بن عفان بسعيد بن العاص، فقال: انطلق بنا إلى... عمر بن الخطاب نتحدّث عنده، فانطلقا.

قال (ابن العاص): فأمّا عثمان فصار إلى مجلسه الذي يشتهيه، وأما أنا فملتُ في ناحية القوم، فنظر إليّ عمر وقال: ما لي أراك كأنّ في نفسك عَلَيَّ شيئاً؟ أتظنّ أنّي قتلتُ أباك؟ واللهِ لوددتُ أنّي كنتُ قاتله، ولو قتلته لم أعتذر من قتل كافر، لكنّي مررتُ به يوم بدرٍ فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوَزَغ، فلمّا رأيت ذلك هبتُه ورغتُ عنه، فقال: إلى أين يا ابن الخطاب؟ وصمد له عليٌّ فتناوله، فوالله ما رمتُ مكاني حتّى قتله.

قال: وكان عليٌّ عليه السلام حاضراً في المجلس، فقال: اللهمّ غَفْراً، ذهبَ الشركُ بما فيه، ومحا الإسلامُ ما تقدّم، فما لك تُهيِّجُ الناس؟! فكفّ عمر.

قال سعيد: أما إنّه ما كان يسرّني أن يكون قاتلُ أبي غير ابن عمّه عليّ بن أبي طالب. وأنشأ القوم في حديثٍ آخر».

* «..عن عروة بن الزبير: إنّ عليّاً عليه السلام أقبل يوم بدر نحو طعيمة بن عديّ بن نوفل، فشجره بالرمح، وقال له: والله لا تخاصِمُنا في الله بعد اليوم أبداً».

* «.. عن الزهري، قال: لمّا عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، حضور نوفل بن خويلد بدراً، قال: اللّهمّ اكفني نوفلاً. فلمّا انكشفت قريش رآه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقد تحيّر لا يدري ما يصنع، فصمد له ثمّ ضربه بالسيف فنشب في حَجَفَتِه [التِّرس إذا كان من جِلد] فانتزعه منها، ثمّ ضرب به ساقه، وكانت درعه مشمَّرةً فقطعها، ثمّ أجهز عليه فقتله.

فلمّا عاد إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، سمعه يقول: مَن له علمٌ بنوفل؟

فقال له: أنا قتلتُه يا رسولَ الله. فكبّر النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقال: الحمدُ لله الذي أجاب دعوتي فيه».



ما لهم ملجأٌ إلا سيوفهم

هكذا سارت قريش إلى حتفها في «بدر»

§        العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

* هذه المقالة للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، مختصرة عن بحث روائي مطوّل أورده في سياق تفسيره الآيات (7-14) من سورة الأنفال، في الجزء التاسع من (تفسير الميزان).

قال رحمه الله: «تشير هذه الآيات إلى قصة بدر، وهي أول غزوة في الإسلام، وظاهر سياقُ الآيات أنها نزلت بعد انقضائها..».

«شعائر»

 

رُوي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لمّا نظر – يوم بدر - إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين، استقبل القبلة وقال: «اللّهمّ انجِزْ لي ما وعدْتَني، اللّهمّ إنْ تَهْلِكْ هذه العصابَةُ لا تُعْبَدْ في الأرضِ». فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ الأنفال:9... وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.

قال ابن عبّاس: «ولمّا أَمسى رسولُ الله وجَنَّهُ الليلُ، أَلقى اللهُ على أصحابِهِ النّعاسَ وكانوا قد نَزلوا في مَوضعٍ كثير الرّملِ لا تَثبتُ فيه قدَمٌ، فأَنزلَ اللهُ عليهِم المطرَ رذاذاً حتّى لبّد الأرض وثبّت أقدامهم، وكان المَطرُ على قُريش مثل العزالي [كصبّ القرب، إشارة إلى شدة وقع المطر]، وأَلقى اللهُ في قُلوبِهم الرُّعبَ، كما قال الله تعالى: ﴿..سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ..﴾». (الأنفال:12)

وفي تفسير (البرهان) عن ابن شهرآشوب: «قال النبيّ صلىّ الله عليه وآله وسلّم في العريش: اللّهمّ إنّكَ إنْ تهلِكْ هذه العِصابَة اليوم، لا تُعبَدْ بعدَ هذا اليوم، فنزل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ..﴾. فخرج يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر:45)، فأيّده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكثّرهم في أعين المشركين، وقلّل المشركين في أعينهم فنزل: ﴿..وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى..﴾، من الوادي خلف العقنقل... و﴿أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا..﴾ عند القليب...».

وقال أصحاب السِّيَر: أقبل أبو سفيان بِعِير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة (الإبل التي تحمل العطر)، وفيها أربعون راكباً من قريش، فندب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال: لعلّ الله أنْ يُنفِلكُمُوها، فانتدب الناس فخفّ بعضهم وثقل بعضهم، ولم يظنّوا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يلقى كيداً ولا حرباً، فخرجوا لا يريدون إلّا أبا سفيان، والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم.

فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلّى الله عليه وآله، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه

إلى مكّة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم - ويخبرهم أنّ محمّداً قد تعرّض لِعِيرهم في أصحابه، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة.

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم، قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليالٍ، أنّ رجلاً أقبل على بعيرٍ له ينادي: يا آل غالب، اغدوا إلى مصارعكم، ثمّ وافى بجَمله على «أبي قبيس»، فأخذ حجراً فدَهْدَهَهُ من الجبل، فما ترك داراً من دُور قريش إلّا أصابته منه فلذة، فانتبهت فزعةً من ذلك وأخبرت العباسَ بذلك، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة: هذه مصيبةٌ تحدث في قريش، وفشتِ الرؤيا فيهم، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطلب! واللات والعزّى لننظرنّ ثلاثة أيام، فإنْ كان ما رأت حقّاً، وإلّا لنكتبنّ كتاباً بيننا: أنّه ما من أهل بيتٍ من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم!

فلمّا كان اليوم الثالث، أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة. العِير العِير. ادرِكوا وما أراكُم تُدركون، إنّ محمّداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعِيركم فتهيّأوا للخروج، وما بقي أحدٌ من عظماء قريش إلّا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وقالوا: مَن لم يخرج نهدم داره، وأخرجوا معهم القيان يضربنَ الدفوف».

وفي حديث أبي حمزة: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أيضاً عيناً له على العير اسمه عديّ، فلمّا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبره أين فارقَ العِير، نزلَ جبرئيلُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبره بنفير المشركين من مكّة، فاستشار أصحابه في طَلَب العِير وحرب النفير، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، إنّها قريش وخيلاؤها، ما آمنتْ منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت، ولم نخرج على هيئه الحرب... فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلسْ، فجلس.

ثمّ قام عمر بن الخطاب، فقال مثل ذلك، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلسْ، فجلس.

ثمّ قام المقداد، فقال: يا رسولَ الله، إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنّا بك وصدّقنا وشهدنا أنّ ما جئتَ به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمرَ الغضا وشوكَ الهراس لَخضناه معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿..فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:24)، ولكنّا نقول: اِمضِ لأمرِ ربِّك فإنّا معك مقاتلون.

فجزاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيراً على قوله ذاك.

ثمّ قال: أشيروا عليّ أيّها الناس، وإنّما يريد الأنصار لأنّ أكثر الناس منهم... فقام سعد بن معاذ، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنّك أردتَنا.

فقال: نعم.

قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئتَ به حقٌّ من عند الله فمُرنا بما شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، واترُك منها ما شئتَ، واللهِ لو أمرتَنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعلّ الله عزّ وجلّ أنْ يُريَك مناّ ما تقرّ به عينُك، فَسِرْ بنا على بركة الله.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: سِيروا على بركةِ الله، فإنّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد وَعدَني إحدى الطائفتَين ولنْ يُخلِفَ اللهُ وعدَه، واللهِ لكأنّي انظرُ إلى مَصرعِ أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وفلان وفلان».

قال الطبرسي: «فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال أبو جهل: ما هم إلّا أكلةُ رأسٍ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد.

فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً أو مدداً؟

فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً، فجال بفرسه حتّى طاف على عسكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ رجع فقال: ليس لهم كمينٌ ولا مدد، ولكن نواضحُ يثرب قد حملت الموتَ الناقع، أما ترونهم خُرساً لا يتكلّمون، ويتلمّظون تلمُّظَ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلّا سيوفُهم، وما أراهم يولّون حتّى يُقتلوا، ولا يُقتلون حتى يَقتلوا بعددهم، فارتأوا رأيكم.

فقال له أبو جهل: كذبتَ وجبنتَ.

فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..﴾ (الأنفال:61)، فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا معشرَ قُريش، إنّي أكرهُ أنْ أبدأَ بكُم، فخلّوني والعرب وارجعوا.

فقال عتبة: ما ردّ هذا قومٌ قطّ فأفلحوا، ثمّ ركب جملاً له أحمر، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يجول بين العسكرَين وينهى عن القتال، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنْ يَكُ عندَ أَحدٍ خيرٌ فعندَ صاحبِ الجمل الأحمر، وإنْ يُطيعوه يرشدوا.

وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشرَ قريش، أطيعوني اليومَ واعصوني الدّهرَ، إنّ محمّداً له إل وذمّة، وهو ابن عمّكم، فخلّوه والعرب، فإنْ يكُ صادقاً فأنتُم أعلى عيناً به، وإنْ يكُ كاذباً كَفَتكُم ذؤبانُ العرب أمرَه.

فغاظ أبا جهلٍ قولُه، وقال له: جَبُنتَ وانتَفخ سحرُك.

فقال: يا مصفر (كذا) مثلي يَجبن؟ وستعلم قريش أيّنا ألأم وأجبن، وأيّنا المفسد لقومه؟

ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمّد أخرِج إلينا أكْفاءَنا.. (الخبر).

قال اليعقوبي في (تاريخه): وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، بعد مقدَمه صلّى الله عليه وآله وسلّم - يعنى إلى المدينة - بثمانية عشر شهراً.

 

وادي بدر

موقعه وتاريخه وشهوده على التوحيد

§        تحقيق: حسين الوائلي

 

* بدر الكبرى، هي أولى معارك المسلمين ضدّ مشركي قريش، وقعت بعد هجرة رسول الله إلى المدينة المنوّرة، وكانت بقيادته صلّى الله عليه وآله وسلّم.

* جرت أحداثها صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة، وانتهت عند منتصف النهار من ذلك اليوم.

 * أسفرت المواجهة العسكرية فيها عن هزيمة ساحقة للمشركين بالرغم من فارق العدد والعدّة؛ مردُّ ذلك إلى استغاثة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعائه، والبطولة الملحميّة لأمير المؤمنين عليه السلام، والمدد الإلهي بالملائكة المسوِّمين.

* أشار القرآن الكريم إلى هذه المعركة في عدّة آيات من سور (آل عمران)، و(الأنفال)، و(الحجّ)...وسمّاها «يوم الفرقان»: ﴿.. يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ..﴾. (الأنفال:41)

* تتناول هذه المقالة وقائع معركة بدر الكبرى بالاستناد إلى ما ورد في كُتب السيرة والمصنفات التاريخية، مع الإشارة إلى أن الأخيرة تذكر غزوتين أُخرَيَين تحت مسمى «بدر»: «بدر الأولى» أو «غزوة سفوان»، في جمادى الآخرة من سنة 2 للهجرة. و«بدر الموعد» في السنة الرابعة.

«شعائر»

 

 

تقع منطقة بدر على بعد 150 كلم جنوب غرب المدينة المنورة، وعلى مسافة 300 كلم تقريباً شمال مكّة المكرّمة.

تمتاز بوفرة مصادر المياه، وتبعاً لذلك بالواحات الخضراء. كانت قبل الإسلام منزلاً للقوافل التجارية في طريقها من وإلى بلاد الشام، وفيها سوق من أسواق العرب، وكانت تحضرها الشعراء ليتباروا في إلقاء قصائدهم، كلّ ذلك أكسبها شهرة واسعة.

مدينة بدر اليوم هي مركز وادي الصفراء، وتقع على مفترق الطرق بين مكّة المكرّمة ومدينتَي جدّة وينبُع، وهي محطّة أساسية للمسافرين إلى شمال الحجاز.

من معالم المدينة مسجد العريش الذي بُني في المكان الذي أُقيم فيه العريش لرسول الله يوم معركة بدر، وعلى مقربة منه مدافن شهداء بدر.

قريش تردّ بعنف على دعوات النبيّ للتفاوض

بعد هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين إلى المدينة المنوّرة اختلفت الأمور تماماً عمّا كانت عليه في مكّة المكرّمة، فالإسلام أصبحت له دولة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله يترأّس كياناً سياسياً أكثر تنظيماً واستقراراً من الكيان السياسي الذي تتوزّع الأُسَر القرشية رئاسته، ولم يعد المسلمون ضعفاء يخافون أن يتخطّفهم الناس، بل صارت لهم دولة تحميهم ووطن يأويهم ويدافعون عنه.

كما أنّ الوحي نزل بالإذن بقتال المشركين وذلك في الآية التاسعة والثلاثين من سورة (الحجّ) وهي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.

ما أن رتّب النبيّ صلّى الله عليه وآله الأوضاع الداخلية لكيانه السياسي في المدينة، حتى بدأ بإرسال الإشارات المتلاحقة إلى قريش لإشعارها بأنّ الأمور قد تغيّرت، وأنّ طريق تجارتها إلى الشام أصبح تحت سيطرته، فإن شاء تركها تمرّ وإن شاء منعها، ومن الخير لها أن تفاوضه، فهو لا يطلب الكثير، وليس له سوى شرط واحد، بل حقٌّ مُكتسَب، وهو أن تُخلي قريش بينه وبين قبائل العرب يدعوها إلى دينه بلا إكراه، وليس كثيراً على قريش أن تجيبه إلى طلبه، فإنّ اليهود والنصارى كانوا يدعون الناس إلى دينهم، ولا تعترضهم بطون قريش، بل إنّ عبَدة الأصنام يتمتّعون بذات الحقّ أيضاً، فلماذا لا تعامل قريش المسلمين كذلك وتخلّي بينهم وبين العرب؟

أرسل النبيّ صلّى الله عليه وآله سبع سرايا عسكرية خلال عام واحد لاعتراض قوافل قريش التجارية، وقد قُتل في السريّة الأخيرة من المشركين عمرو الحضرمي وأُسر صاحباه، ولكن قريشاً مضت في مكابرتها، وتجاهلها للواقع، وأصرّت على أن لا تفاوض المسلمين بأيّ شكلٍ من الأشكال.

الهدف الحقيقي لاستنفار قريش

في المرة الثامنة خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله، لاعتراض قافلة قريش القادمة من الشام، ومن مدينة غزّة تحديداً، بقيادة أبي سفيان الذي علم بخروج المسلمين لاعتراضه، فغيّر مسير القافلة، وأرسل أحد رجاله ويدعى ضمضم بن عمرو الغفاري من تبوك إلى قريش يستنفرها لحماية أموالها.

كان خروج المسلمين بعد نزول الوحي على رسول الله يأمره بالمسير إليهم: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ..﴾ الأنفال:7، و«إحدى الطائفتين» كما قيل في تفسيرها: «العِير أو النفير»، أي السيطرة على القافلة، أو الانتصار على جيش المشركين.

وحيث إنّ أكثر أهالي مكّة كانوا مساهمين في القافلة التجارية، فقد جهّزوا جيشاً من جميع القبائل وبمشاركة جميع أشراف مكّة - سوى أبي لهب الذي خاف أن يظفر به الرسول، فأرسل العاص بن هشام ليسدّ مسدّه - في ألف مقاتل وبقيادة عمرو بن هشام المخزومي (أبي جهل)، ووجّهوا الجيش نحو منطقة بدر.

 

 

ومن الجدير بالذكر أنّ بعض أشراف قريش، ومن الذين قُتلوا في المعركة كعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، لم يوافقوا على الحرب، بل أُجبروا عليها بضغوط من أبي جهل. كما تخلّف عن الحرب عدد من بطون قريش كبني زهرة، وبني هاشم، إلّا من أُكره منهم على الخروج تحت التهديد بالقتل.

بدأت قريش زحفها الآثم على المسلمين وهدفها المعلن هو حماية أموالها، إلّا أنّها صرّحت بهدفها الحقيقي بعد أن نجت القافلة، فقد أرسل أبو سفيان رسالة إلى قريش يقول فيها: «إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا»، لكنّ أبا جهل أصرّ على محاربة المسلمين، وقال: «والله لا نرجع بعد أن مكّننا الله منهم، ولا نطلب أثراً بعد عين، ولا يعترض لعِيرنا بعد هذه أبداً».

 

 

سمع النبيّ صلّى الله عليه وآله بخروج قريش بخيلها ورجلها وتصميمها على الوصول إلى بدر لقتال المسلمين، فخرج مع مجموعة من أصحابه من المدينة المنورة، في 12 أو 13 من شهر رمضان.

استقرار المسلمين في بدر

بعد العبور من منازل عدة، وصل رسول الله، في الخامس عشر من شهر رمضان، إلى منطقة «روحا»، وصلّى بالقرب من بئرها ولعن كلاً من أبي جهل وزمعة بن الأسود، وتحرّك بعد ذلك باتّجاه بدر، وبالقرب منها أخبره جبرئيلُ باقتراب جيش قريش، فأرسل صلّى الله عليه وآله رسلاً في مقدّمهم الإمام عليّ عليه السلام إلى أحد الآبار بالقرب منهم ليطّلع على الأخبار، وقد اصطدموا ببعض سقاة قريش وأسروا شخصين منهم. وبعد التحقيق معهما تبيّن أنّ عدد جيش قريش يتكوّن من 900 إلى 1000 مقاتل، وقد قدموا إلى بدر بمعية أغلب أشرافهم، واستقروا خلف التلال الرملية في العدوة القصوى. فقال الرسول صلّى الله عليه وآله: «هذه مكّة قد ألقَت إليكم أفلاذ كبدها»، وطلب أصحابه للشورى، فأبدى كلٌّ منهم رأيه. وينقل التاريخ عن مقداد -أحد المهاجرين- بأنّه قال: «يَا رَسُولَ اللهِ، امْضِ لِأَمْرِ اللهِ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِنَبِيّهَا: ﴿..فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ (المائدة:24)، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ».

وتكلّم أيضاً سعد بن معاذ زعيم الأوس وحامل لواء الأنصار، وأعرب عن كون قومه تحت إمرة الرسول صلّى الله عليه وآله فيما يأمر ومهما حصل، فسُرَّ النبيّ من كلام مقداد وسعد، وقال: «سيروا وأبشِروا فإنّ الله تعالى قد وَعدَني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظرُ إلى مَصارع القوم».

وعقد رسول الله صلّى الله عليه وآله، يومئذ الألوية، وفي الليلة نفسها هطلت الأمطار الغزيرة، الأمر الذي شلّ حركة المشركين حيث أصبحت منطقة سيرهم أشبه بالمستنقعات، ولكنها سبّبت من جهة أخرى استحكام الأراضي الرملية التي استقرّ عليها المسلمون، فلذا تحرّكوا باتّجاه بدر حتى وصلوها مساء السادس عشر من شهر رمضان.

كان لواء رسول الله وراية المهاجرين مع أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، وأمرَهم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أن لا يسلّوا السيوف حتى يغشاهم المشركون...

التقى الجيشان، فرفع النبيّ صلّى الله عليه وآله يديه إلى السماء، ودعا ربّه قائلاً: «اللّهمّ إنّك أنزلتَ عليَّ الكتابَ وأمرتَني بِالقتالِ، ووعدْتَني إحدى الطّائفتَين وأنتَ لا تُخلِفُ الميعاد، اللّهمّ هذه قريش قد أقبَلَت بِخُيَلائها وفخرِها، تُحادُّكَ وتُكذِّبُ رسولَك، اللّهمَّ نصرك الذي وعدْتَني، اللّهمَ أَحِنْهُم الغَداة».

استقرار المشركين في بدر

* العدوة القصوى .. محل استقرار المشركين

وصل جيش قريش إلى بدر، وكُلّف عمير بن وهب الجمحي بدراسة وضع جيش المسلمين، فجاء بالخبر اليقين مؤكّداً أنّ عددهم قليل ولكنّهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلّا سيوفهم، فلا يُقتل منهم رجل قبل أن يَقتل رجلاً من قريش، فهم على أتمّ الاستعداد للحرب والقتال. ويذكر الواقدي أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله، بعد نزول المشركين في بدر أرسل رسالة لهم وحذّرهم من القتال، وأعلن عدم ميله للحرب معهم.

* ذكر القرآن لمحلّ استقرار الجيشين

لقد وصف القرآن الكريم محل استقرار المسلمين والمشركين بدقة حيث يقول تعالى في الآية 42 من سورة (الأنفال): ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَٰكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

وقائع الغزوة

* اصطفاف الجيشَين وبداية المعركة

باقتراح من سعد بن معاذ بُني لرسول الله صلّى الله عليه وآله عريشٌ في منطقة مشرفة على مكان المعركة، وفي صباح يوم الغزوة عدّل صلّى الله عليه وآله، صفوف أصحابه. وبعد اصطفاف الجيشين، كانت الشمس خلف جيش الإسلام وفي وجه جيش قريش، فدفع رسول الله راية القيادة المسماة بـ«العقاب» إلى عليٍّ عليه السلام.

ومن أجل تحريك المشاعر قبل بداية المعركة، أمر أبو جهل عامرَ الحضرمي بأن يحلق رأسه ويلطّخه بالتراب مطالباً بدم أخيه. لذا يُقال بأنّ عامراً كان أوّل مَن هجم على معسكر المسلمين، ومن جهةٍ أخرى، كان أبو جهل يوبّخ عتبة، وأجبره أن يبدأ بالمبارزة في حرب كان يحاول إطفاء نارها، وهكذا بارز هو وولده الوليد إضافة إلى شيبة وبدؤوا الحرب.

فأخرج لهم الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، حمزة، والإمام عليّاً عليه السلام، وعبيدة بن الحارث لساحة القتال، فقتل حمزةُ شيبة، وقتل عليٌّ عليه السلام الوليد، ولكن عبيدة لم يتمكّن من هزيمة عتبة فكرّ حمزة وعليّ عليه السلام عليه وقتلاه.

 

* مصير المعركة

بعد مقتل عتبة وشيبة والوليد من قريش، اشتدّت نيران الحرب ولكن بالإمدادات الإلهية واستقامة المسلمين، فغُلب المشركون. ويُذكر بأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله، أخذ قبضةً من الحصى والتراب أثناء المعركة، ورمى بها على قريش، وقال: «شاهتِ الوُجوه، اللّهمّ أَرعِب قلوبَهم وزَلزِلْ أقدامَهُم»، ثمّ قال لأصحابه: «شدّوا»، وسبّبَ هذا العملُ هزيمة المشركين وفرارهم، حيث تركت قريش عدّتها في أرض المعركة ولاذت بالفرار، وانتشر خبر هزيمة جيشها حتى وصل إلى أهل مكّة.

وهكذا انتهت معركة بدر الكبرى باستشهاد 14 شخصاً من المسلمين (6 شهداء من المهاجرين و8 من الأنصار)، ومصرع 70 شخصاً من المشركين، إضافةً إلى أسر 70 آخرين منهم. ويُذكر أنّ نصف قتلى قريش قُتلوا على يد الإمام عليّ عليه السلام. هذا وتفرّق عدد كبير من المشركين في الصحاري والوديان، بانتظار الليل ليهربوا من قبضة المسلمين.

 

 

وأمّا أبو جهل الذي كان قائد جيش قريش، فقد لحق به المسلمون وأصابوه بجروح قاتلة، وضرب ابن مسعود عنقه فقتله، ففرح رسول الله صلّى الله عليه وآله، من مقتل أبي جهل، وقال: «إنّ اللهَ قتلَ فرعونَ هذه الأمّة أبا جهل، فالحمدُ لله الذي صدَقَ وَعدَه ونَصر عبدَه، اللّهمّ قد أَنجزتَ ما وَعدتَني فتَمِّم عليَّ نعمتَك».

لم تستمرّ غزوة بدر سوى بضع ساعات، ولكنّها تُعدّ إحدى أهم حوادث صدر الإسلام، حيث قال الرسول صلّى الله عليه وآله فيها: «ما أُريَ الشيطانُ يوماً هو فيه أصغرَ ولا أدحَرَ ولا أحقرَ ولا أغيَظَ منه في يوم عرفة.... إلّا ما أُري يومَ بدرٍ».

أحداث بعد المعركة

بأمرٍ من رسول الله صلّى الله عليه وآله، جُمعت الأموال والغنائم في مكانٍ واحد، وبعد دفن الشهداء من المسلمين، رُميت أجساد المشركين في القليب [البئر]، وخاطبهم الرسول صلّى الله عليه وآله قائلاً: «هل وَجدتُم ما وَعدَكُم ربُّكم حقّاً؟ فإنّي وجدتُ ما وَعدني ربِّي حقّاً». وعندما قيل له: كيف تخاطب الأموات؟ قال صلّى الله عليه وآله: «لقد سمِعوا ما قلتُ غير أنّهم لا يَستطيعون أن يَردُّوا شيئاً».

 

 

* صدى المعركة في المدينة

بقي رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثلاثة أيام في بدر، ومن ثمّ أرسل زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من أثيل إلى المدينة لكي يوصلا نبأ انتصار المسلمين إلى أهلها.

كان لمعركة بدر صدى واسع بين المسلمين واليهود والمنافقين في المدينة؛ فمكانة هذا الانتصار وعظيم شأنه سبّب عدم تصديق كلام زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من قبل اليهود والمنافقين وحتى بعض المسلمين، واعتبروا كلامهما هذياناً. ولكن مَن لم يشكّ بصحة النبأ خرج إلى «روحا» مستقبلاً الرسول صلّى الله عليه وآله، وكان من بينهم أشراف الخزرج، وباركوا للمسلمين الانتصار في بدر، ومَن لم يحضر الغزوة قدّم اعتذاره للرسول.

* صدى المعركة في مكّة

كان صدى بدر في مكّة أكثر اتّساعاً من صداه في المدينة، فأهل مكّة أيضاً أنكروا الخبر في بادئ الأمر واعتبروه هذياناً.

ومنع أبو سفيان المشركين من البكاء والنوح والرثاء على القتلى، كما حذّرهم من أي مظهر من مظاهر الفرح، وذلك لكي تبقى نار الغضب مشتعلة. ولكن بقيت مكّة شهراً كاملاً في الحزن والمأتم ولم يبقَ بيت إلّا وكان يرثى قتلاه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى معركة بدر في عدّة آيات، منها قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ -  ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..- ﴿.. يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ - ﴿.. يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ..﴾ - ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ..﴾.


معركة بدر الكبرى

قراءة في النتائج والتداعيات

ــــــــــــــــــــــــ المحقّق أحمد حسين يعقوب ــــــــــــــــــــــــ

 

* هذا المقال المنتخب من كتاب (المواجهة) للمحامي الأستاذ أحمد حسين يعقوب يتناول بالتحليل المقدّمات التي أدّت إلى استنفار «بطون قريش»، وفي مقدّهم بنو أمية، لقتال المسلمين، وكذلك النتائج التي أسفرت عنها معركة «يوم الفرقان»، والتي وَسمت مستقبل شبه الجزيرة العربية في العقود اللاحقة، مشيراً إلى أنّ الأمّة الإسلامية ما تزال تسدِّد بنحوٍ أو آخر ثمن الهزيمة المدويّة لبني أميّة، وقريش عموماً، يومَ بدر.

«شعائر»

 

 

التقى الجيشان يومَ بدر، فرفع أبو جهل يديه بالدعاء وقال بخشوعٍ مصطنع: «اللّهمّ أقطَعَنا للرّحِم، وآتانا بما لا يعرف، فأحِنْهُ الغداة»!

ورفع النبيّ صلّى الله عليه وآله يديه إلى السماء، ودعا ربَّه: «اللّهمّ إنّك أنزلتَ عليَّ الكتابَ وأمرتَني بِالقتالِ، ووعدْتَني إحدى الطّائفتَين وأنتَ لا تُخلِفُ الميعاد، اللّهمّ هذه قريشٌ قد أقبَلَت بِخُيَلائها وفخرِها، تحادُّكَ وتُكذِّبُ رسولَك، اللّهمَّ نصرَك الذي وعدْتَني، اللّهمَ أَحِنْهُم الغَداة».

تقدّم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد للمبارزة، ونادى مناديهم: «يا محمّد، أخرِج لنا الأَكْفَاء من قومنا».

فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يا بَني هاشم، قومُوا فقاتِلوا بِحقِّكُم الّذي بَعثَ اللهُ به نبيَّكم، إذ جاؤوا بِباطِلِهم لِيُطفِئوا نورَ الله»، وكلّف حمزة وعليّاً عليه السلام وعبيد الله بن الحارث أن يخرجوا للمبارزة، فكانت النتيجة أن قُتل المشركون الثلاثة، وقُطعت ساق عبيد الله، فحُمل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، ألستُ شهيداً؟

قال: بلى.

قال: أما واللهِ لو كان أبو طالب حيّاً لعلم أنّي أحقّ بما قال، حين قال:

كذبتم وبيتِ الله نُخلي محمّداً

ولمّا نُطاعنْ دونَه ونناضل

ونُسْلِمُه حتّى نُصَرَّعَ حولَه

ونذهلَ عن أبنائنا والحلائل

صُعقت بطون قريش لهذه النتيجة واهتزّت، وشهر أبو جهل سيفه وحرّض المشركين على الهجوم العام، والتحمت الفئتان، فئةٌ قليلةٌ مؤمنة، وأخرى كثيرةٌ مشركة.

وأبلى الحمزة بن عبد المطلب أسدُ الله وأسد رسوله بلاء حسناً، وقاتل أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام بقدرة تفوق الوصف والتصوّر، حتّى لفت أنظار أهل الأرض وأهل السماء، فنادى مَلَكٌ من السماء: «لا سيفَ إلّا ذو الفَقار ولا فتى إلا عَلِيّ».

لقد تألّق نجم وصيّ رسول الله في بدر، وأدرك كثيرون أنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته، فقد أثخن عليٌّ عليه السلام في المشركين، وقتل وحده نصف مَن قُتل من المشركين، وممّا يدعو للعجب أنّ بطولة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام صارت لاحقاً، وسيلةً للتحريض عليه، وإبعاده عن حقّه بالإمامة من بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فبعد عشرين سنة يقول (أحدهم) لسعيد بن العاص: «إنّي لأراك معرِضاً، تظنّ أنّي قتلتُ أباك، والله ما قتلتُ أباك»، يريد أن يذكّره بأنّ الذي قتل أباه في بدر هو عليّ بن أبي طالب.

وانجلتْ معركة بدر بهزيمة بطون قريش هزيمةً منكرة، وبقتل سبعين رجلاً من أفضل رجالات البطون، وبأَسْرِ مثلهم، وعلم العرب بنتائج المعركة، وأدركوا أنّ قوّةً خارقة تدعم رسول الله، وأنّ دِينه أصبح واقعاً مفروضاً، وأنّ طريقه هو طريق النصر والمجد.

الحسد والحقد في مِرجَل واحد

كان الحسد هو الدافع الأساسي لعداوة بطون قريش للنبيّ صلّى الله عليه وآله، ولبني هاشم، وكراهيتها أن يتميّز عليها الهاشميّون بميزةٍ لا تستطيع الإتيان بمثلها؛ وهي النبوّة.

وأمّا بعد معركة بدر وما سال فيها من دماء المشركين، فقد أُضيف دافع آخر للعداء وهو الحقد على رسول الله وآله، الذي امتلأت به نفوس البطون، وظلّ ينمو فيها على الأيام، ولم يفارقها لحظةً واحدة.

كيف يُمكن لأبي سفيان أن يحبّ عليّاً وقد قتل ابنه وعمّه؟!

وكيف يمكن لمعاوية أن يحبّ عليّاً وقد قتل شقيقه وجدّه وخاله وابن خاله وعمومته؟!

وكيف يمكن لخالد بن الوليد (ولفلان) والوليد بن عقبة بن معيط أن يحبّوا الحمزة وعليّاً، وسيوفهما تقطر بدم الآباء والأعمام والأخوال؟!

يسهل التصوّر أن يحبوا النبيّ، ويصعب التصوّر أن يحبّوا آل النبيّ، لقد لاحقهم الوتر، وأورثوه لذرّياتهم، وكُتب على أهل بيت رسول الله طوال التاريخ أن يدفعوا ضريبة باهظة لانتمائهم الصادق لرسول الله ولدين رسول الله صلّى الله عليه وآله...

الذين قُتلوا من بطون قريش تركوا جراحاً نازفة في قلوب ذويهم، سواء مَن بقي على الشرك منهم ومَن أصبح من أتباع رسول الله صلّى الله عليه وآله... فهل يعقل أن يُقتل خال (فلان)، وأولاد عمومة (فلان)، وعمومة (فلان)، ولا يترك قتلهم غصّاتٍ في قلوب ذويهم؟

غاية الأمر أنّهم يتمتّعون بقدرٍ من الدهاء وضبط الأعصاب، فيخفون مشاعرهم رغبةً أو رهبةً، ولكنّها لن تختفي إلى الأبد، ومن الممكن بكلّ المعايير الإنسانية أن تتهيّج هذه المشاعر كلّما شاهدوا عليّاً عليه السلام أو الحمزة أو النبيّ صلّى الله عليه وآله أو أحداً من بني هاشم.

لقد ظلّ الحقد يعتمل في قلوب ذوي المقتولين، ولم تهدأ جراحهم بوفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا بشهادة الحمزة وأمير المؤمنين عليه السلام، وإنّما بقيت نازفة يورّثها الآباء للأبناء.

وعندما جِيءَ برأس الإمام الحسين ورؤوس الطيبين من أهل بيت رسول الله بعد مذبحة كربلاء، ووُضعت بين يدي يزيد بن معاوية، تمثّل بقول ابن الزّبعري:

قد قتلنا القرمَ من ساداتهم

وعدَلناهُ ببَدرٍ فاعتَدَل

لستُ من خِنْدِفَ إنْ لم أنتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فَعَل!

 

فبعد 58 عاماً يُعرب حفيد أبي سفيان وهند عن مشاعره الدفينة، ويغمره الفرح والسرور بقتل الحسين عليه السلام، كما غمر أباه وأجداده عندما قُتل الحمزة وعليّ والحسن عليهما السلام.

ولم يقصر الحاقدون حقدهم على محمّدٍ وآلِ محمّد، بل حقدوا على كلّ الموالين لهم؛ فبعد مرور 58 عاماً على وقعة بدر، أرسل مسرف بن عقبة رؤوس الثائرين على يزيد بن معاوية من أهل المدينة، فلمّا أُلقيت الرؤوس بين يديه، جعل يتمثل بشعر ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزَعَ الخزرجِ من وقْع الأسَل

لأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا: يا يزيد لا تُشَل

لعبت هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

 

وبالإجمال: فإنّ نجاح النبوّة الهاشمية، وتأكّد التميّز الهاشمي، والجراح التي نتجت عن قتلى معركة بدر، والغُصص التي تجرّعها الذين اتّبعوا رسول الله من بطون قريش، تركت بصماتها على التاريخ الإسلامي كلّه، وظلّت تعتمل في النفوس، وكانت من أبرز الأسباب التي قوّضت النظام السياسي الإسلامي، وأفرغته من مضمونه ومحتواه، وأخرجت المنظومة الحقوقية الإلهية من دائرة التأثير.

نتائج المعركة واستعداد المشركين للانتقام

كانت النتائج المذهلة وغير المتوقّعة لمعركة بدر صدمة عنيفة لبطون قريش، وليهود المدينة، وللمنافقين، وكان البيت الأموي عامّة، وأبو سفيان خاصّة، من أكثر البطون إحساساً بالنكبة والفجيعة، فقد قُتل منهم في بدر «أحد عشر سيّداً من سادات الوادي» على حدّ تعبير أبي سفيان نفسه، منهم حنظلة الابن البكر لأبي سفيان.

وأمام ضغط الأُسرة وفيض مشاعر الحقد والإحباط، حرّم أبو سفيان على نفسه الدّهن حتى يثأر من المسلمين، ثمّ خرج مع مجموعة من أربعين أو مئتي فارس، ودخل المدينة ليلاً، ونزل في بيت سلام بن مشكم اليهودي، واستقصوا أخبار النبيّ صلّى الله عليه وآله، وخرجوا مع الفجر فقتلوا رجلاً من الأنصار وأجيراً له، وأهلكوا حرثه، وأحرقوا بيتين وأهلكوا حرثاً بالعريض، ثمّ ولّوا مدبرين.

واعتقد أبو سفيان أنّه قد تحلّل من يمينه، وأنّه قد أوصل بنفسه رسالة ضمنية لرسول الله وآل رسول الله بأنّ الثأر والانتقام لقتلى بدر قدَر لا مفرّ منه.

كانت العِير التي رجعت من الشام موقوفة في «دار الندوة»، لم توزَّع بسبب غيبة البطون في بدر، فاجتمعت زعامة البطون في «دار الندوة»، واتّفقت على تخصيص كامل هذه العير لتجهيز جيش يقوده أبو سفيان للهجوم على المسلمين، وشكّلت أربعة وفود لتسير في العرب وتطلب منهم النصر، وكانت هذه الوفود برئاسة عمرو بن العاص، وهبيرة بن وهب، وابن الزّبعري، وأبي عزّت الجمحي. وبالفعل تحرّكت هذه الوفود الأربعة، وحقّقت نجاحاً بتأليب العرب وجمعهم لقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ولكي تتذكّر البطون قتلى بدر، فلا ترجع حتى تدرك ثأرها أو تموت دونه، قرّروا إخراج النساء معهم، ولقد لقيَ هذا القرار معارضة في البداية، لكن هنداً زوجة أبي سفيان تصدّت للمعارضين، وأصرّت على خروج الحريم ليشهدنَ القتال والثأر «للأحبّة» الذين قتلهم المسلمون.

ولمّا أجمعت قريش على الخروج كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، يُخبره فيه بأنّ قريشاً قد أعدّت للهجوم عليه بثلاثة آلاف مقاتل... وهي الحرب التي عُرفت في التاريخ الإسلامي بمعركة أُحُد. 

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 0 ساعة

دوريات

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ 0 ساعة

إصدارات عربية

نفحات