الملف

الملف

25/05/2017

معركة بدر الكبرى


معركة بدر الكبرى

قراءة في النتائج والتداعيات

ــــــــــــــــــــــــ المحقّق أحمد حسين يعقوب ــــــــــــــــــــــــ

 

* هذا المقال المنتخب من كتاب (المواجهة) للمحامي الأستاذ أحمد حسين يعقوب يتناول بالتحليل المقدّمات التي أدّت إلى استنفار «بطون قريش»، وفي مقدّهم بنو أمية، لقتال المسلمين، وكذلك النتائج التي أسفرت عنها معركة «يوم الفرقان»، والتي وَسمت مستقبل شبه الجزيرة العربية في العقود اللاحقة، مشيراً إلى أنّ الأمّة الإسلامية ما تزال تسدِّد بنحوٍ أو آخر ثمن الهزيمة المدويّة لبني أميّة، وقريش عموماً، يومَ بدر.

«شعائر»

 

 

التقى الجيشان يومَ بدر، فرفع أبو جهل يديه بالدعاء وقال بخشوعٍ مصطنع: «اللّهمّ أقطَعَنا للرّحِم، وآتانا بما لا يعرف، فأحِنْهُ الغداة»!

ورفع النبيّ صلّى الله عليه وآله يديه إلى السماء، ودعا ربَّه: «اللّهمّ إنّك أنزلتَ عليَّ الكتابَ وأمرتَني بِالقتالِ، ووعدْتَني إحدى الطّائفتَين وأنتَ لا تُخلِفُ الميعاد، اللّهمّ هذه قريشٌ قد أقبَلَت بِخُيَلائها وفخرِها، تحادُّكَ وتُكذِّبُ رسولَك، اللّهمَّ نصرَك الذي وعدْتَني، اللّهمَ أَحِنْهُم الغَداة».

تقدّم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد للمبارزة، ونادى مناديهم: «يا محمّد، أخرِج لنا الأَكْفَاء من قومنا».

فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يا بَني هاشم، قومُوا فقاتِلوا بِحقِّكُم الّذي بَعثَ اللهُ به نبيَّكم، إذ جاؤوا بِباطِلِهم لِيُطفِئوا نورَ الله»، وكلّف حمزة وعليّاً عليه السلام وعبيد الله بن الحارث أن يخرجوا للمبارزة، فكانت النتيجة أن قُتل المشركون الثلاثة، وقُطعت ساق عبيد الله، فحُمل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، ألستُ شهيداً؟

قال: بلى.

قال: أما واللهِ لو كان أبو طالب حيّاً لعلم أنّي أحقّ بما قال، حين قال:

كذبتم وبيتِ الله نُخلي محمّداً

ولمّا نُطاعنْ دونَه ونناضل

ونُسْلِمُه حتّى نُصَرَّعَ حولَه

ونذهلَ عن أبنائنا والحلائل

صُعقت بطون قريش لهذه النتيجة واهتزّت، وشهر أبو جهل سيفه وحرّض المشركين على الهجوم العام، والتحمت الفئتان، فئةٌ قليلةٌ مؤمنة، وأخرى كثيرةٌ مشركة.

وأبلى الحمزة بن عبد المطلب أسدُ الله وأسد رسوله بلاء حسناً، وقاتل أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام بقدرة تفوق الوصف والتصوّر، حتّى لفت أنظار أهل الأرض وأهل السماء، فنادى مَلَكٌ من السماء: «لا سيفَ إلّا ذو الفَقار ولا فتى إلا عَلِيّ».

لقد تألّق نجم وصيّ رسول الله في بدر، وأدرك كثيرون أنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته، فقد أثخن عليٌّ عليه السلام في المشركين، وقتل وحده نصف مَن قُتل من المشركين، وممّا يدعو للعجب أنّ بطولة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام صارت لاحقاً، وسيلةً للتحريض عليه، وإبعاده عن حقّه بالإمامة من بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فبعد عشرين سنة يقول (أحدهم) لسعيد بن العاص: «إنّي لأراك معرِضاً، تظنّ أنّي قتلتُ أباك، والله ما قتلتُ أباك»، يريد أن يذكّره بأنّ الذي قتل أباه في بدر هو عليّ بن أبي طالب.

وانجلتْ معركة بدر بهزيمة بطون قريش هزيمةً منكرة، وبقتل سبعين رجلاً من أفضل رجالات البطون، وبأَسْرِ مثلهم، وعلم العرب بنتائج المعركة، وأدركوا أنّ قوّةً خارقة تدعم رسول الله، وأنّ دِينه أصبح واقعاً مفروضاً، وأنّ طريقه هو طريق النصر والمجد.

الحسد والحقد في مِرجَل واحد

كان الحسد هو الدافع الأساسي لعداوة بطون قريش للنبيّ صلّى الله عليه وآله، ولبني هاشم، وكراهيتها أن يتميّز عليها الهاشميّون بميزةٍ لا تستطيع الإتيان بمثلها؛ وهي النبوّة.

وأمّا بعد معركة بدر وما سال فيها من دماء المشركين، فقد أُضيف دافع آخر للعداء وهو الحقد على رسول الله وآله، الذي امتلأت به نفوس البطون، وظلّ ينمو فيها على الأيام، ولم يفارقها لحظةً واحدة.

كيف يُمكن لأبي سفيان أن يحبّ عليّاً وقد قتل ابنه وعمّه؟!

وكيف يمكن لمعاوية أن يحبّ عليّاً وقد قتل شقيقه وجدّه وخاله وابن خاله وعمومته؟!

وكيف يمكن لخالد بن الوليد (ولفلان) والوليد بن عقبة بن معيط أن يحبّوا الحمزة وعليّاً، وسيوفهما تقطر بدم الآباء والأعمام والأخوال؟!

يسهل التصوّر أن يحبوا النبيّ، ويصعب التصوّر أن يحبّوا آل النبيّ، لقد لاحقهم الوتر، وأورثوه لذرّياتهم، وكُتب على أهل بيت رسول الله طوال التاريخ أن يدفعوا ضريبة باهظة لانتمائهم الصادق لرسول الله ولدين رسول الله صلّى الله عليه وآله...

الذين قُتلوا من بطون قريش تركوا جراحاً نازفة في قلوب ذويهم، سواء مَن بقي على الشرك منهم ومَن أصبح من أتباع رسول الله صلّى الله عليه وآله... فهل يعقل أن يُقتل خال (فلان)، وأولاد عمومة (فلان)، وعمومة (فلان)، ولا يترك قتلهم غصّاتٍ في قلوب ذويهم؟

غاية الأمر أنّهم يتمتّعون بقدرٍ من الدهاء وضبط الأعصاب، فيخفون مشاعرهم رغبةً أو رهبةً، ولكنّها لن تختفي إلى الأبد، ومن الممكن بكلّ المعايير الإنسانية أن تتهيّج هذه المشاعر كلّما شاهدوا عليّاً عليه السلام أو الحمزة أو النبيّ صلّى الله عليه وآله أو أحداً من بني هاشم.

لقد ظلّ الحقد يعتمل في قلوب ذوي المقتولين، ولم تهدأ جراحهم بوفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا بشهادة الحمزة وأمير المؤمنين عليه السلام، وإنّما بقيت نازفة يورّثها الآباء للأبناء.

وعندما جِيءَ برأس الإمام الحسين ورؤوس الطيبين من أهل بيت رسول الله بعد مذبحة كربلاء، ووُضعت بين يدي يزيد بن معاوية، تمثّل بقول ابن الزّبعري:

قد قتلنا القرمَ من ساداتهم

وعدَلناهُ ببَدرٍ فاعتَدَل

لستُ من خِنْدِفَ إنْ لم أنتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فَعَل!

 

فبعد 58 عاماً يُعرب حفيد أبي سفيان وهند عن مشاعره الدفينة، ويغمره الفرح والسرور بقتل الحسين عليه السلام، كما غمر أباه وأجداده عندما قُتل الحمزة وعليّ والحسن عليهما السلام.

ولم يقصر الحاقدون حقدهم على محمّدٍ وآلِ محمّد، بل حقدوا على كلّ الموالين لهم؛ فبعد مرور 58 عاماً على وقعة بدر، أرسل مسرف بن عقبة رؤوس الثائرين على يزيد بن معاوية من أهل المدينة، فلمّا أُلقيت الرؤوس بين يديه، جعل يتمثل بشعر ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزَعَ الخزرجِ من وقْع الأسَل

لأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا: يا يزيد لا تُشَل

لعبت هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

 

وبالإجمال: فإنّ نجاح النبوّة الهاشمية، وتأكّد التميّز الهاشمي، والجراح التي نتجت عن قتلى معركة بدر، والغُصص التي تجرّعها الذين اتّبعوا رسول الله من بطون قريش، تركت بصماتها على التاريخ الإسلامي كلّه، وظلّت تعتمل في النفوس، وكانت من أبرز الأسباب التي قوّضت النظام السياسي الإسلامي، وأفرغته من مضمونه ومحتواه، وأخرجت المنظومة الحقوقية الإلهية من دائرة التأثير.

نتائج المعركة واستعداد المشركين للانتقام

كانت النتائج المذهلة وغير المتوقّعة لمعركة بدر صدمة عنيفة لبطون قريش، وليهود المدينة، وللمنافقين، وكان البيت الأموي عامّة، وأبو سفيان خاصّة، من أكثر البطون إحساساً بالنكبة والفجيعة، فقد قُتل منهم في بدر «أحد عشر سيّداً من سادات الوادي» على حدّ تعبير أبي سفيان نفسه، منهم حنظلة الابن البكر لأبي سفيان.

وأمام ضغط الأُسرة وفيض مشاعر الحقد والإحباط، حرّم أبو سفيان على نفسه الدّهن حتى يثأر من المسلمين، ثمّ خرج مع مجموعة من أربعين أو مئتي فارس، ودخل المدينة ليلاً، ونزل في بيت سلام بن مشكم اليهودي، واستقصوا أخبار النبيّ صلّى الله عليه وآله، وخرجوا مع الفجر فقتلوا رجلاً من الأنصار وأجيراً له، وأهلكوا حرثه، وأحرقوا بيتين وأهلكوا حرثاً بالعريض، ثمّ ولّوا مدبرين.

واعتقد أبو سفيان أنّه قد تحلّل من يمينه، وأنّه قد أوصل بنفسه رسالة ضمنية لرسول الله وآل رسول الله بأنّ الثأر والانتقام لقتلى بدر قدَر لا مفرّ منه.

كانت العِير التي رجعت من الشام موقوفة في «دار الندوة»، لم توزَّع بسبب غيبة البطون في بدر، فاجتمعت زعامة البطون في «دار الندوة»، واتّفقت على تخصيص كامل هذه العير لتجهيز جيش يقوده أبو سفيان للهجوم على المسلمين، وشكّلت أربعة وفود لتسير في العرب وتطلب منهم النصر، وكانت هذه الوفود برئاسة عمرو بن العاص، وهبيرة بن وهب، وابن الزّبعري، وأبي عزّت الجمحي. وبالفعل تحرّكت هذه الوفود الأربعة، وحقّقت نجاحاً بتأليب العرب وجمعهم لقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ولكي تتذكّر البطون قتلى بدر، فلا ترجع حتى تدرك ثأرها أو تموت دونه، قرّروا إخراج النساء معهم، ولقد لقيَ هذا القرار معارضة في البداية، لكن هنداً زوجة أبي سفيان تصدّت للمعارضين، وأصرّت على خروج الحريم ليشهدنَ القتال والثأر «للأحبّة» الذين قتلهم المسلمون.

ولمّا أجمعت قريش على الخروج كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، يُخبره فيه بأنّ قريشاً قد أعدّت للهجوم عليه بثلاثة آلاف مقاتل... وهي الحرب التي عُرفت في التاريخ الإسلامي بمعركة أُحُد. 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

25/05/2017

دوريات

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات