قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

منذ 4 أيام

كتاب في «الإبدال اللغوي»

كتاب في «الإبدال اللغوي»

(الاعتقاب) لأبي تراب «الخراساني»

ـــــــــــــــــــــــ عبد الرزّاق الصاعدي* ـــــــــــــــــــــــ

الكتاب: الاعتقاب (في اللغة)

المؤلّف: أبو تراب، محمّد بن الفرج (القرن الهجري الثالث)

تحقيق ونشر: د عبد الرّزّاق بن فرّاج الصّاعديّ

 

إنّ كثيراً من المتخصّصين في علوم العربية لا يعرفون عن «أبي تراب اللّغويّ» أو عن كتابه «الاعتقاب» إلّا الشيء اليسير، وقد لا يعرفون عنه شيئاً؛ فهو من علماء اللّغة المغمورين على الرّغم من تقدّمه وعنايته الفائقة باللّغة، وإعجاب معاصريه به، وتوثيقهم إيّاه، وتلقّيهم كتابه الاعتقاب بالقبول والرّضا، وهو ككثير من علماء اللغة المغمورين الذين لم يواتهم الحظّ، فقصّر في ترجمته المترجمون، وأهمله أكثرهم، ولم يكن كتابه أوفر حظاً منه، فقد أتت عليه عوادي الزمان، فضاع فيما ضاع من تراث العربيّة.

ولقد قيّض الله لأبي تراب من أبقى ذكره؛ بترجمة مختصرة نافعة، وحَفِظَ جلّ كتابه الاعتقاب بنقله نصوصاً كثيرة منه تُربي على ثلاثمائة نصّ، وهو الأزهريّ (370 هـجرية)، القائل في مقدمة معجمه الكبير «تهذيب اللغة» بعد أن ذكر أبا تراب وكتابه الاعتقاب: «وقد قرأتُ كتابه فاستحسنتُه، ولم أرهُ مجازفاً فيما أودعه، ولا مصَحِّفاً في الذي ألّفه، وما وقع في كتابي لأبي تراب فهو من هذا الكتاب».

وقد عَرَضَتْ لي فكرة هذا البحث منذ سنوات مضت وهي جمع نصوص كتاب الاعتقاب من كتاب «التّهذيب» وغيره، ودراسته من خلالها، والترجمة لمؤلّفه أبي تراب ترجمة ضافية، فعرضتُ الفكرة على أستاذي الدّكتور محمّد يعقوب تركستاني فاستحسنها، وحثّني على المضيّ في إتمامها، ثمّ حالت دون البدء فيه حوائل؛ منها ما وجدته في ترجمة أبي تراب من اضطراب في اسمه، وغموض في حياته العلميّة؛ فأرجأتُ الشروع في الكتابة إلى حين التّمكّن من جلاء ذلك الغموض، فبقيتْ فكرة البحث كامنة في نفسي، تبرز كلّما قرأت كتاباً في التّراجم أو التّاريخ أو التّراث اللّغويّ القديم، حتّى تمكّنتُ بحول الله وقوّته من كشف ذلك الغموض، وتصحيح الاضطراب، وجمع مادة الاعتقاب من مظانّها الأصلية كـ «التهذيب» للأزهريّ، وباقي معاجم اللّغة؛ كـ «الصحاح» للجوهريّ، و«التكملة» و«العباب» للصّغاني، و«اللّسان» لابن منظور، فبلغتْ النّصوص الّتي جمعتُها خمسة وسبعين وثلاثمائة نصّ لغويّ من نصوص كتاب الاعتقاب، وقد جعلتُ البحث في قسمين رئيسين:

 القسم الأول: أسميته «أبو تراب وكتاب الاعتقاب» وفيه بابان وفصول؛ وهما كما يلي:

الباب الأول: أبو تراب اللّغويّ. الفصل الأول: سيرته الشخصية. الفصل الثاني: حياته العلمية. الباب الثاني: كتاب الاعتقاب. الفصل الأول: مادّة الكتاب ومنهجه. الفصل الثاني: مصادره. الفصل الثالث: شواهده. الفصل الرابع: قيمته العلميّة وأثره.

القسم الثاني: نصوص من كتاب الاعتقاب (جمع وترتيب)، وفيه أبواب كثيرة بحسب موادّ الاعتقاب، وهي: أبواب اعتقاب الهمزة؛ أبواب اعتقاب الباء؛ أبواب اعتقاب التّاء؛ أبواب اعتقاب الثّاء؛ أبواب اعتقاب الجيم؛ أبواب اعتقاب الحاء .. إلخ.

اسم المؤلّف

ثمّة غموض واضطراب في اسم أبي تراب اللّغويّ، فهو:إسحاق بن الفرج، أو محمد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ. أمّا كنيته فـ «أبو تراب»، ولا خلاف في هذا.

ويعدّ الأزهريّ من أقدم المصادر التي ترجمت لأبي تراب في مقدّمة كتابة «تهذيب اللّغة» الّتي ترجم فيها لبعض العلماء، وقد أسهمتْ نُسخ هذا الكتاب المتناثرة في العراق وخراسان في ذلك الغموض والاضطراب، فهو «محمّد بن الفرج» في المقدّمة في بعض النّسخ القديمة الّتي اطّلع عليها ياقوت الحمويّ فيما نقل عنه الصّفديّ. وهو في بعضها: «أبو تراب الّذي ألّف كتاب الاعتقاب»، وهذا هو الّذي في الكتاب المطبوع المتداول.

ويبدو أنّ أبا تراب لم يكن مشهوراً في العراق، وربّما في خراسان - أيضاً - فلم يعرفه كثير من معاصريه في القرن الثّالث ومن جاء بعدهم في القرن الرّابع. ويمكن القول إنّ اسم المؤلف يحتمل الوجهين معاً، أو أحدهما، وهما: أبو تراب محمّد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ، كما في «الوافي».

أو أبو تراب إسحاق بن الفرج، كما يُفهم ممّا جاء في «التّهذيب».

مولد المؤلّف ووفاته

سكتت المصادر القليلة الّتي ترجمت لأبي تراب اللّغويّ عن ذكر تاريخ مولده أو وفاته. والحقّ أنّنا لا نطمع في معرفة ذلك مع هذا الغموض الّذي يلفّ اسمه وتاريخ حياته بعامّة، فليس لنا إلّا التّقدير بالاستعانة ببعض القرائن، كتاريخ وفيّات بعض شيوخه وتلامذته، فقد روى أبو تراب عن جماعة من العلماء وسمع منهم، وكلّهم من علماء القرن الثّالث، أو ممّن أدرك القرن الثّالث. وبهذا يمكن أن نستنتج أنّ النّشاط اللّغويّ لأبي تراب تركّز في النّصف الأوّل من القرن الثّالث، ويمكن القول: إنَّه عاش بين سنتي 200 و280 هجرية تقريباً، أو نقدّر أنّ مولده كان بين سنتي 190 و200، وأنّ وفاته كانت بين سنتي 270 و280.

موطنه ورحلاته

يعدّ أبو تراب من أهل خراسان، ولكن لا يُعرف على وجه الدّقّة مكان مولده، فقد يكون في إحدى تلك البلاد، وقد يكون في غيرها، وإن كنتُ أرى أنّ مولده كان في «نيسابور»، وهي المدينة الّتي نشأ بها وأخذ عن علمائها كأبي سعيد الضّرير الّذي استقدمه إليها ابن طاهر، وأخذ فيها عن الأعراب الرّواة الّذين استقدمهم ابن طاهر أيضاً. ثمّ توجّه أبو تراب إلى «هراة»، وهي من المدن الكبيرة الزّاخرة بالعلماء في خراسان.

ويبدو أنّ أبا تراب استطاب المقام في هراة فبقي فيها زمناً أملى فيه أجزاء من كتابه «الاعتقاب» قبل أن يعود إلى نيسابور، فيكمل إملاء الكتاب هناك. ولعلّه أمضى ما تبقّى من حياته هناك في تلك المدينة العامرة. ويُنسب لأبي تراب إضافة إلى كتابه هذا كتاب آخر بعنوان: «الاستدراك على الخليل في المهمل والمستعمل»، استدرك فيه المؤلّف على الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجم «العين»، وخطّأه في أماكن، وزاد ما رأى أنّ الخليل نقصه من اللّغة في أبوابه، ونقص ما رأى أنّ الخليل زاده في غير بابه.

معنى الاعتقاب    

التّعاقب في اللّغة بمعنى التّتابع، وهو مصدر قولك «تعاقبَ اللّيلُ والنّهار»؛ أي: أتى أحدُهما عقب الآخر. ويراد به في الاصطلاح: اللّفظان المتّفقان في المعنى المرويّان بوجهين بينهما اختلاف في حرف واحد، كقَضَم وخَضَم، وجاسَ وحاسَ، ونَبَأَ ونَتَأَ، ويُسمّى أيضاً «الاعتقاب». وهو الّذي اشتهر عند علماء اللّغة بمصطلح «الإبدال اللّغويّ»، وهو يختلف عن «الإبدال الصّرفيّ»، فهو - أي الإبدال اللغويّ – شائع وغير لازم ويقع في أكثر الحروف، وجمعَها بعضهم في قوله: «لِجَدٍّ صَرْفُ شَكِس آمنٍ طيَّ ثوب عزتِه». وقيل إنّه يقع في حروف الهجاء جميعاً.

نماذج من الإبدال اللغوي

قال ابن الفرج في (باب اعتقاب الفاء واللام): «تغلّفَ بالغالية إذا كان ظاهراً، وتغلّل بها إذا كان داخلاً في أصول الشَّعَر». فالاعتقاب هنا في «تغلّف» و«تغلّل» بإبدال الفاء في الأولى لاماً في الثانية.

وقال في (باب اعتقاب الفاء والميم): في الغِرارة ثُفْلة من تمر، وثُمْلة من تمر؛ أي: بقيّة منه. وروي عن أعرابيّ أنّه قال: «أصفقتُ الباب وأصمقتُه بمعنى أغلقتُه».

وقال في (باب اعتقاب القاف والكاف): الحَسَاكل والحَسَاقل صغار الصّبيان؛ وقال: الزّحاليك والزّحاليق واحد.

وقال أبو تراب في (باب اعتقاب القاف والميم): «سمعتُ شمراً وأبا سعيد يقولان: رجل حُزُقَّةٌ وحُزُمَّةٌ إذا كان قصيراً». ومن هذا الباب: «صَقَلَه بالعصا وصَمَلَه، إذا ضربه بها».

ومن (باب اعتقاب الكاف والهاء) قال: سمعتُ خليفة يقول: للبيت كِواءٌ كَثِيرةٌ وهِواءٌ كثيرة، والواحدة كَوّة وهَوّة.

ومن (باب اعتقاب اللام والميم) قال: سمعت مبتكراً السّلميّ يقول: دَقَل فلانٌ لَحْيَ الرّجل ودَقَمَه، إذا ضرب فمه وأنفه.

ومن (باب اعتقاب اللام والنّون) قال: قال المُؤَرِّجُ: حَطَبٌ جَزْنٌ وجزلٌ، وجَمْعُهُ: أجزُنٌ وأَجْزُلٌ، وهي الخشب الغلاظ. وروى ابن الفرج عن بَعضِهم أنّه قال: هو خَامِلُ الذِّكر، وخَامِنُ الذِّكْر، بمعنى واحد.

قال أبو تراب: سمعت غير واحد من الأعراب يقول: فلانٌ عِسْلُ مَالٍ وعِسْنُ مال؛ إذا حسن القيام عليه. وقال عن بعض القبائل: يقال لَجْلَجْتُ المُضْغَةَ ونَجْنجَتْهَا؛ إذا حَرَّكتَها في فِيكَ ورَدَّدْتَهَا، فلم تبتلعها. وقال أبو تراب: سمعت شُجاعاً السُّلَمِيّ يقول: لكع الرَّجُلُ الشَّاة؛ إذا نهزها، ونكعها؛ إذا فعل بها ذلك عند حلبها، وهو أن يضرب ضرعها لِتَدرّ.

ومن (باب اعتقاب الياء والألف اللّيّنة) روى أبو تراب عن عرّام: يقال: رأيت ضُوَاكةً من الناس، وضَوِيكةً؛ أي: جماعة من سائر الحيوان. ويقال: اضطَوَكُوا علـى الشيء واعْتَلَجُوا وادَّوَّسُوا؛ إذا تنازعوا بشدّة.

 

* محقّق الكتاب، وهذه القراءة مختصر ما كتبه، وفيها إضاءة على حياة المؤلّف، وشواهد من المادّة اللغوية موضوع البحث.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 4 أيام

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات