فكرٌ ونظر

فكرٌ ونظر

18/10/2017

مقام المعصوم

 

مقام المعصوم

مرتبة الحقّ لتدبير شأن الخلق

ــــــــــ الشيخ حسين كوراني ــــــــــ

أخذ الكلام على العصمة والمعصوم مساحة واسعة جداً في تاريخ الفكر الإسلامي، سواء على مستوى العقيدة أو على المستوى الكلامي. وقد دخل الجدل حول هذه القضية المقدّسة مسارب ومناهج لم تنجُ من التحريف والأوهام.

في هذه المقالة لسماحة العلامة الشيخ حسين كوراني إضاءات على مفهوم العصمة ومسعى لتأصيله في ضوء القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة وروايات أهل بيت النبوّة عليهم السلام.

تجدر الإشارة إلى أن هذه المقالة مختصرةٌ من كتاب سماحة الشيخ الذي صدر عام 2002م عن «دار الهادي» تحت عنوان: «في المنهج: المعصوم والنصّ»

«شعائر»

 

يتلازم الحديث عن العصمة والمعصوم عند الكثيرين، مع مرتكزٍ في «منهجية» مَن يضعون المعصوم في غير مرتبته التي رتّبه الله تعالى فيها، يصرَّح به أحياناً، ويشكّل في الأعم الأغلب المنطلق دون تصريح.

هذا المرتكز هو الفهم الخاطئ لبشرية الرسول صلّى الله عليه وآله، والمعصوم عموماً. وهو مرتكز شديدُ الخطورة، يتمّ التأسيس عليه لتحجيم الأبعاد الغيبية في شخصية المعصوم، وتبهيت ما يبقى منها، وأحياناً لنفي أيّ بُعد غيبي في بعض المعصومين صراحةً ودون أدنى حرج. ومن هنا كان التوفّر على بحث هذا «المرتكز» يحظى بالأهمية القصوى.

شُبهة «بشريّة» المعصوم

في سياق أوامره للمصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾. (الكهف: 110)

فما هو المراد ببشرية الرسول صلّى الله عليه وآله والمعصوم عموماً؟

يرى أصحاب الشبهة في فهم المراد بالبشرية، أن المقصود بطلان كلّ ما يُدّعى للمعصوم من مقامات يضجّ الحديث عنها بالغلوّ والطوباوية! من قبيل أن المعصومين الأربعة عشر كانوا« أنواراً مُحدِقة بالعرش»، ومن قبيل «إيابُ الخلق إليكم، وحسابُهم عليكم» وما شابه، وهو كثير جداً كما لا يخفى.

ويرون أن الآية واضحة الدلالة على أن المعصوم بشر ترقّى في مدارج الكمال بجهده وتوفيق الله تعالى له، فبلغ القمة، واستحق العصمة، أما الحديث عن الأبعاد الغيبية، ومقاربة سيرته وشخصيته بما يصدم روح العصر، فهو من إشكاليات الخطاب الديني المتخلّف، الذي ينبغي تجاوزه، وإلا فإن الزمن يتجاوزنا. فهل الأمر كذلك؟

دفْعُ الشُّبهة

يتم توضيح الجواب في نقاط:

أولاً: إن الآية بصدد إثبات أن الرسول صلّى الله عليه وآله من حيث البشرية، وبلحاظ كونه بشراً، وبقطع النظر عن أيّ لحاظ آخر، هو كغيره من البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما ورد في آية أخرى، وأكّد الله تعالى مضمونها، فإنْ أراد الله سبحانه أن يُنزل عليه آية فالأمر إليه عزّ وجلّ: ﴿.. إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ..﴾. (الأنعام:109)


)

ثانياً: لا علاقة لمعنى الآية نهائياً بنفي الأبعاد الغيبية عن الرسول، لأن الأبعاد الغيبية ليست من خصائصه البشرية التي يشترك فيها مع جميع الناس، بل هي عطاء إلهيّ إضافي، فالآية بمعنى «أني لست إلا بشراً مثلكم لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا أستطيع بقدرتي البشرية أن أجترح المعاجز، ولكن إذا أراد الله تعالى أن يتحقّق شيء من ذلك على يدي قدّمته لكم امتثالاً لأمره واعتماداً على قدرته التي تجعل البشر العادي قادراً على ذلك».

وهذا يعني أن الآية شديدة العلاقة بإثبات الأبعاد الغيبية في شخصيته صلّى الله عليه وآله كما سيأتي.

ثالثاً: لنُلقِ نظرة على رواية في تفسير الآية، ونماذج من كلمات المتقدّمين والمتأخّرين: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ قوله عليه السلام: «يعني في الخلق؛ أنه مثلهم مخلوق».

* وقال الشيخ الطوسي في (التبيان): «أمر اللهُ تعالى نبيّه صلّى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ لحمٌ ودم، ومن وُلد آدم، وإنما خصّني الله بنبوّته وأمرني برسالته وميّزني منكم بأني ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ الذي يستحقّ العبادة، ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا شريكَ له في العبادة».

* وقال الطبرسي في (مجمع البيان): «﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾: قال ابن عباس: علَّم اللهُ نبيّه التواضع، لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقرّ على نفسه بأنه آدميّ كغيره، إلا أنه أُكرم بالوحي، وهو قوله ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا شريك له، أي: لا فضل لي عليكم إلا بالدين والنبوّة، ولا علم لي إلا ما علّمنيه الله تعالى».

أضاف: «المعنى: ثم قال لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء الكفار: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ من وُلد آدم لحمٌ ودم، وإنما خصّني الله تعالى بنبوّته، وميّزني منكم بأنْ أوحى إلي، ولولا الوحي ما دعوتكم».

* وقال الشوكاني في (فتح القدير): «ثم أمر سبحانه نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يسلك مسلك التواضع، فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾، أي إن حالي مقصورٌ على البشرية لا يتخطّاها إلى (المَلائكيّة)، ومن كان هكذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكلمات الله، إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه، قال: ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر».

* وقال السيد الطباطبائي في (الميزان): «﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾: القصر الأول قصرُه صلّى الله عليه وآله وسلّم في البشرية المماثلة لبشرية الناس؛ لا يزيد عليهم بشيء ولا يدّعيه لنفسه قبالَ ما كانوا يزعمون أنه إذا ادّعى النبوّة  فقد ادّعى كينونة إلهية وقدرة غيبية، ولذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه إلا الله، لكنه صلّى الله عليه وآله وسلّم نفى ذلك كلّه بأمر الله عن نفسه، ولم يُثبت لنفسه إلا أنه يُوحى إليه».

ويستفاد من كلامه رضوان الله عليه حول آيات مشابهة، في عدة موارد أنه صلّى الله عليه وآله قد أُمر بأن يقول ذلك في مقابل مَن طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فالآية إذا بصدد نفي الألوهية عنه. والدليل على ذلك قوله تعالى في سياق آخر: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾. (الإسراء: 90-93)، وهو المضمون الذي تلحظه الآية التي نحن بصددها، وهي في سياقها كما يلي: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾. (الكهف: 102-110)

رابعاً: ما هي دلالة مثل هذا التعبير في اللغة العربية؟ هل يفيد التأكيد أو الحصر؟ في حين رأى بعض الأعلام أنه يفيد الحصر، هناك رأي آخر هو أنه لا يفيد إلا التأكيد. والظاهر أنه يفيد الحصر والتأكيد معاً، ولكنْ في ما يكون الكلام بصدده، أي بلحاظ الحيثية التي هي موضوع البحث ومصبّ الكلام.

خامساً: ما هو موضوع البحث هنا، في الآية ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾.. وبديهيّ أن الظهور لا ينعقد بجزء من البيان. أوَليس قيد ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ جزءاً من موضوع البحث؟

الموضوع، إذاً ،﴿بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ..﴾،  فالآية في مقام إثبات أن الرسول صلّى الله عليه وآله هو من حيث البشرية كغيره من البشر، إلا أنه يختلف عنهم بأنه يُوحى إليه، فهي تؤكّد بشريّته والوحي إليه، وتحصر ذلك به، دونهم.

ومن الوضوح بمكان أنه لا يُمكن نفي الأبعاد الغَيبية عمن «يُوحى إليه»، فالوحي باب الأبواب الغيبية كلّها، إلا أن مدى هذه الأبعاد مرتبط بدرجة هذا الوحي، وحقيقة الوحي، وهل أن المحدَّث «يُوحى إليه» بما لا يتنافى مع الثوابت والأسس، وغير ذلك، وجميعه بحث آخر.

سادساً: يجد المتأمّل في بعثة الأنبياء أن مقولة ﴿بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ أو ﴿بَشَرٌ﴾ أو ﴿بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء:3؛ المؤمنون:24 و33] أو ما يدلّ عليها مثل ﴿يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ (الفرقان:7)، أو ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ (هود:27)، وما شابه، كانت نغمة نشازاً واجه بها الجهلةُ الأنبياء جميعاً، وكان الأنبياء دائماً يؤكدون أن الله تعالى إنما بعث الرسُل بشراً لأنهم يخاطبون بشراً، ولو كان في الأرض ملائكة لبعث إليهم ملائكة، كما هو صريح قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾. (الإسراء:94-95)

كان هدف الأنبياء التأكيد على أنهم بشر كما يقول المتصدون لهم، ولكنهم مع ذلك رسُل من الله تعالى، فبشريتهم لا تمنع أن يكون لهم بُعد آخر يُخوّلهم دعوتهم لاتباعهم. ويؤكد هذا بمنتهى الوضوح قوله تعالى:

﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾. (إبراهيم: 10-11)

والنتيجة هي أن بشرية الرسول، إذاً، لا تُنافي الامتياز، الذي هو خارج الخصائص البشرية الاعتيادية، وهو مِنّةٌ من الله تعالى، وهذا يدلّنا على أن وصف ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ بمثابة ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، فالمشكاة واحدة، والظرف هو الظرف.

سابعاً: قد أثبت القرآن الكريم للمعصومين الذين أكّد بشريّتهم، من الأبعاد الغيبية ما يفوق التصوّر ويُذهل اللّبّ، فكيف يمكن أن تكون البشرية منطلقاً لنفي الأبعاد الغيبية.

* فهل الرسول صلّى الله عليه وآله «يُوحَى» إليه على غرار الوحي لآدم عليه السلام الذي أمر اللهُ تعالى ملائكته بالسجود له - وإنما سجدوا له - لانطباق هذه الصفة عليه؟

* أم على غرار الوحي لنبيّ الله إبراهيم عليه السلام الذي أراه اللهُ الملكوت وعجائبه والغرائب، ومنها: ﴿.. فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ..﴾؟ (البقرة:260)

* أم أن الوحي إليه صلّى الله عليه وآله من نوع الوحي لنبيّ الله موسى عليه السلام الذي ضرب بعصاه الحجرَ فانبجستْ منه اثنتا عشرة عيناً، وضرب بها البحر فكان كلُّ فِرقٍ كالطود العظيم؟

* أم أنه وحيٌ بمرتبة الوحي لنبيّ الله عيسى عليه السلام الذي كان يحدّث الناس بما يدّخرون في بيوتهم، ويُبرىء المرضى ويُحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير؟

* أم أن ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ عندما تُطلق على المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، فهي تحتضن من الأسرار ما لا تصل كلّ هذه الغرائب والأبعاد الغيبية إلى أدنى سفحها؟ الصحيح هو هذا دون أدنى شك، لأنه صلّى الله عليه وآله سيد النبيّين، ولم يُبعث نبيٌّ ولا كان معصومٌ إلا بالاعتقاد بنبوّته.

كما عرّفه الله تعالى

ولمزيد إيضاح ما تقدم، يجدر بنا أن نصدر في رسم الصورة التي تجمع ملامحها بين بشرية رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأبعادها الغيبية التي تفوق التصوّر، في ضوء ما تحدّث عنه به الله تعالى، في القرآن الكريم - بالإضافة إلى الآية التي نحن بصددها - في الآيات التالية:

1) ﴿.. قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾. (الإسراء 93)

2) ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. (آل عمران 31)

3) ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾. (النساء79- 80)

4) ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. (الفتح 10)

5) ﴿..وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..﴾. (الأنفال17)

6) ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾. (النجم3-4)

ومن الواضح أن النتيجة هي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله كما تقدّمه هذه الآيات المباركة، بشرٌ رسول، مَن أحبّ اللهَ اتّبعه، ومن أطاع الله أطاعه، وأن يده يدُ الله، وكلامَه كلامُ الله، ورَميته رميةُ الله تعالى، فهو في حال أنه بشرٌ إلهيّ إلى حد أنه مظهر علم الله وقدرته، فالعلم الإلهيّ هو الذي يجعل اتّباعه وطاعته تجسيداً لحبّ الله تعالى وطاعته، وكلامه وحياً منه عزّ وجلّ، والقدرة الإلهية هي التي تجعل يده ورميته يد الله سبحانه ورميته.

وما وراء عبادان قرية؟ هل بعد هذين البُعدين الغيبيّين؛ العلم والقدرة الإلهيّين، من بُعدٍ غيبيّ آخر؟

إنه لمذهل حقاً أن نصرّ على أن نرفع من قيمة الإنسان – حتى الفاشل في مدرسة الدنيا والوجود - إلى حيث تلامس الطروحات دعوى «أصالة الإنسان»، ونُصرّ في الوقت ذاته على خفض سقف مكانة المعصوم والتقليل من شأنه، إلى حيث تقل مرتبته عن الإنسان العادي غير الساذج.

لا يستقيم خطابٌ دينيّ في خط الإيمان بالغيب - الذي هو محض العقل، وهو بعدُ الواقع الموضوعي، ومن ظِلاله عالم الشهادة – إلا إذا انطلق من أن الأبعاد الغيبية في المعصوم هي الأصل في شخصيته البشرية - الإلهيّة، وما عداه هو الظلّ الذي يربأ الإسلام بالمؤمن العادي أن يخدعه بغروره، ويسقط في شباكه، فضلاً عن الإخلاد إليه وبانبهار يُفقِد التوازن حتى في التعامل مع سادة الوجود عموماً، وفي طليعتهم سيد الأنبياء، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

اخبار مرتبطة

  حدود الله

حدود الله

  دوريات

دوريات

18/10/2017

دوريات

نفحات