المُجتمع الجعفري

المُجتمع الجعفري

26/08/2011

.. كَمَنْ يَجمَعُ مصابيحَ السَّماء

المُستشار عبد الحليم الجندي

تحت هذا العنوان: «المجتمع الجعفري»، تحدَّث المُستشار عبد الحليم الجندي في كتابه النَّوْعي (الإمام جعفر الصَّادق: إمام المسلمين)، وقد جاء ت هذه المُقاربة ضمن بحثه في خصائص المجتمع الذي أَسَّس له الإمام الصَّادق عليه السلام. تَقتطِف «شعائر» من هذه الخصائص ما يَرتبِط بموضوع هذا الملف: «وصايا الإمام الصادق عليه السلام».

 الإمام مُبلِّغٌ عن النبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلم عِلْمَه. وهذا العِلْم أجناسٌ وأنواع، نُشير في هذا المَقام إلى بعضٍ منها في السِّياسة، والإجتماع، والإقتصاد، وهو حسْبُ أيِّ مجتمعٍ لِيُقيمَ دولةً راسِخة الأركان، وأُمَّةٍ تَعملُ كخليَّة النَّحل، لا مُجرَّد جمعيّةٍ للإصلاح، أو جماعة مُتطلِّعة للتَّقدُّم، كالجمعيَّات والجماعات التي تَزْخَر بها المجتمعات في العُصور الحديثة، بقصد إصلاحٍ جزئي، أو الدَّعوة لِمبادِئ معيَّنة.
وكثيرٌ مِن المَبادِئ التى سَنَتَحدَّث عنها، شَذَراتٌ من دروسٍ مُتداوَلة عن الإمام، لو حاولنا جَمْعها كنَّا كَمَنْ يَجمَع مصابيحَ السَّماء. وقد يكفي في هذا المقام ذِكْرُ بعض توجيهات الإمام «لشيعتنا» كما يقول. أو «للجعفري» الجدير بالإنتساب للإمام، كما يُسمِّي تابعيه.
 وإذ كانت هذه التَّوجيهات إشاراتٍ إلى مؤهِّلات الإنتساب إليه فهي تقطع بأنَّه كان يُعِدُّ «دُعاة» يَدْعون لِمجتمعٍ يَدين بِمَبادئه.

شموليّة التعاليم

هذه المبادئ، مُضافةً إلى الفِقْه المَدَني والجزائي ونظريَّة الإمامة، كافية لإقامة مَذْهَب مُتكامل تَقوم على قواعده «دَوْلة» تَكفل الجزاء والثَّواب، فالقاعدة القانونيَّة، مع العقيدة الدينيَّة والنظريَّات الخُلُقيَّة، كَالماءِ الذي يَسقي البُذور الصَّالِحة التي تَنتظِر الزَّمن لِتَشقَّ الأرض وتَظهر، في حماية الدَّولة.
ولقد كَلَّل اللهُ بالنَّجاحِ سَعْيَه. وظَهَرت دُوَلٌ ومجتمعات ازدهرت في العالم، مع اصطِناع التَّغييرات التي تَستدعيها حاجات السُّلطان والزَّمان والمَكان، أو الدِّعاية لِلدَّولة، كما كان الشَّأن في الدُّوَل والمُجتمعات الإسماعيليّة كَالفاطميِّين المُنتَسِبين إلى إسماعيل ابن الإمام جعفر. وأَحدَثَت هذه المبادئ آثاراً مُنجحة في المُجتمعات الشيعيَّة، في أُمَمٍ إسلاميّة أو غير إسلاميّة، أَنْمَت التَّمسُّك الدِّيني بِفَضائل الإسلام. وأَمْكَنَت من الدِّفاع عنه بِقوَّةٍ وإيمان. وأَبْدَعَت عبقريَّتها الإقتصاديّة التي طالما حَضَّت عليها تعاليم الإمام.
التَّعاليم الصَّادِرة عن الإمام الصادق ليست مُجرَّد أُصولٍ فقهيَّة أو فُروعٍ عِلميَّة كما هو دَأْب الأئمَّة من أهل السُّنَّة. بل هي تتعدَّى ذلك المجال إلى كلِّ مجالٍ لِلنَّاس فيه نشاطٌ سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي.
من أجل ذلك العُموم في رسالة الإمام ومقامه في الإسلام، كان شعور أبي حنيفة ومالك وسفيان الثَّوري وعمرو بن عبيد ونظرائهم أو المقاربين لهم، أنَّهم في مَجْلِسه تلامذة. واعتبار الأُمَّة أنَّهم هنالك كذلك وإن كانوا أئِمَّة.
ومن نَفاذ البَصيرة. وعَظَمَةِ الطَّريقة، وجَلال السَّمْت، واتِّساع العِلْم، كان اعتراف خُصوم المسلمين أنفسهم بأنَّه -بين الحجيج جميعاً- الفرْدُ العَلَم.

* * *


من الوصايا الخُلُقيّة والإجتماعيّة

 "هذه" كلمات، كالإشارات، عن المبادئ الخُلُقيّة والإجتماعيّة التي انتَخَبْنا بعضها لِتدلَّ على اتِّجاهه بها نحو تكوين مُجتمع قويّ، وإعداد الدعاة له. أَوْصى الإمامُ المفضَّلَ بن عمر بِخِصالٍ يُبلِّغهنَّ مَنْ وراءه مِنْ «شيعة أهل البيت». «أن تُؤدِّي الأمانة إلى مَنِ أئتمنَك. وأن تَرضى لِأخيك ما ترضاه لِنفسك. واعلم أنَّ للأمورِ أواخر، فاحذَر العَواقِب. وأنَّ لِلأمور بَغتاتٍ فَكُنْ منها على حَذَر. وإيَّاك ومُرتقى جبلٍ سهلٍ، إذا كان المُنحدر وَعِراً». وأوصاهم: «صِلُوا عشائركم. واشهدوا جنائزهم. وعُودُوا مرضاهُم. وأدُّوا حقوقهم. فإنَّ الرَّجُل منكم إذا وَرَع في دِينِه، وصَدَقَ الحديث، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خُلُقَه مع النَّاس قِيل: "هذا جعفريّ"، ويَسُرُّني ذلك. وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بَلاؤه وعارُهُ. وقيل هذا أَدَب "جعفر"! فوالله إنَّ الرَّجُل كان يكون في القبيلة من "شيعة عليّ" فيكون زَيْنها. آداهم للأمانة. وأقضاهُم للحقوق. وأصْدَقهم. يحمل إليه وصاياهم وودائعهم. تسأل العشيرة عنه ويقال: مَن مثلُ فلان؟».
 
وأوصاهم: «أُوصيكُم بِتَقْوى الله واجتِنابِ معاصيه. وأداء الأمانة لِمَنِ أئتَمَنَكُم. وحُسْن الصَّحابة لِمَن صَحبْتُموه. وأن تكونوا لنا دُعاة صامتين». فهو بهذا يَربط إحسان العمل بالإنتساب لأهل البيت ويضع القواعد المُثلى لِلتجمُّع. دخل عليه المُفضَّل بن قيس ذات يوم يسأله الدعاء. وكما قال: «فَشَكوْتُ إليه بعض حالي وسألته الدُّعاء، فقال: يا جارية هاتي الكِيس. فقال: هذا كِيس فيه أربعمائة دينار فاسْتَعِِن بها. قلتُ: ما أرَدْتُ هذا الكِيس، ولكن أردْتُ الدُّعاء لي. قال: ولا أَدَعُ الدُّعاء لك. ولكن لا تُخبِر النَّاس بِكُلِّ ما أنتَ فيه، فَتَهُون عليهم».

 هكذا تَتابَعَ منه العَطاء غير المطلوب، والدُّعاء المطلوب، والنُّصْح الواجب. فهو معلِّم في المقام الأوَّل. أعطى فأغنى. ثمَّ نَصَحَ، ليُقبل النُّصح منه. والأعمال أعلى صوتاً من الأقوال. وهو يَزيدُ العلاقة بين أصحابه وثاقَةً. قال يوماً لبعض أصحابه: «ما بال أخيك يشكوك؟ قال: يشكوني إذ استَقْصَيْتُ عليه حقِّي. فقال مُغضباً: كأنَّك إذا استَقْصَيْتَ حَقَّكَ لم تُسئ؟ أَرَأيتَ ما حَكَى الله عن قَوْمِ يَخافون سُوءَ الحساب؟ أَخافوا أنْ يَجورَ عليهم؟ ولكن خافوا الإستِقْصاء. سمَّاهُ اللهُ سُوء الحساب، فَمَنِ استَقْصى فقد أَساء».

أَرأيتَ إلى مدى ما يَستَنبِط الإمامُ من النَّصّ؟ وإلى مِقدار ما يُدْخِل في أَنْفُس أُمَّته من الإحساس الرَّقيق بِمتاعِبِ بعضهم. كالجِسمِ تَتَداعى أعضاؤه بإداركٍ مُرهَفٍ وتَكافُلٍ كاملٍ؟ ذلك أَدَب جدّه صلّى الله عليه وعلى آله. والإمام يُعلِّمهم أن تكون لهم اليَد العُليا بالإبتداء بالعَطاء. في السؤال رَهق. والصِّلة تَفقدُ رَوْنَقَها، وربَّما قيمَتها، إن لم تكن فيها مبادرة: دخل عليه رجل من خراسان، قال: «لقد قّلَّ ذات يَدي ولا أقدر على التَّوجُّه إلى أهلي إلَّا أن تُعينوني. فنظر الإمام لِلجالِسين، وقال: أمَا تَسمعون ما يقول أخوكم؟ إنَّما المعروف ابتداءً. فأمَّا ما أَعطيْتَ بعد ما سأل فإنَّما هو مكافأة لِمَا بَذَل من ماءِ وجهه. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: والذي فَلَقَ الحَبَّ وبَرَأَ النَّسْمة وبَعَثَني بالحقِّ نبيّاً، لَمَا يَتَجَشَّم أحدُكُم من مَسأَلتِه إيّاك أعظم. مِمَّا نالَهُ مِن معروفِك». فجمعوا له خمسمائة درهم. وبهذا اشترك الجميع في أداء الواجب. وهو القائل «أغنى الغِنى أَلَّا تكون لِلحِرْصِ أسيراً».

والتَّنبيه على الإرهاق في الإستقصاء، وعلى انعدام فضل المسؤول على السَّائل، خَصيصتان إسلاميَّتان ترفعان قدر الجماعة، بما فيهما مُؤالفة وتكافُل. والتَّعبيرات العالية عنهما تعبيرات إمام.
قال مصادف [خادم الإمام الصادق]: «كنتُ عند أبي عبد الله فدخل رجل، فسأله الإمام: كيف خلَّفتَ إخوانك؟ فأحسَنَ الثَّناء عليهم. فسأله: كيف عِيادة أغنيائهم على فُقَرائهم؟ قال الرجل: قليلة. قال الإمام: كيف مساعدة أغنيائهم لِفقرائهم؟ قال قليلة. قال الإمام؟ فكيف يزعم هؤلاء أنّهم "شيعتنا"».

اخبار مرتبطة

  الصورة الملكوتيّة

الصورة الملكوتيّة

  دوريات

دوريات

27/08/2011

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات