الملف

الملف

18/03/2018

المطلع الثاني للفجر المحمّدي

 

«.. فأَقرِئهُ منّي السلام»

المطلع الثاني للفجر المحمّدي

§      الشيخ حسين كوراني

* على الرغم من الإرهاب الفكري والسياسي الذي أشاعه الحكم الأمويّ المنحرف في أواخر القرن الهجري الأول، تمكّن الإمام الباقر عليه السلام أن يمهّد السبيلَ لأداء مهمّته التوحيديّة المتمثّلة بالتأسيس العلميّ لفقه أهل البيت وإقامة ركائز مدرستهم، ونأى بالجماعة المؤمنة عن دوائر الصراع السياسي، موجّهاً اهتمامهم ناحية العلم والتعليم، في وقتٍ شرع فيه الحكّام بترويج فقه وعّاظ السلاطين المداهنين للسلطة الظالمة.

تُضيء هذه المقالة المنتخبة من محاضرات العلامة الشيخ حسين كوراني في «المركز الإسلامي»، على دلالة «السلام النبويّ» الذي ائتُمن على إبلاغه للإمام الباقر الصحابيُّ الجليل جابر الأنصاريّ، وصِلته بالإنجاز الأبرز الذي أتاح الله تعالى تحقيقه على يدَيه صلوات عليه.

«شعائر»

 

 

يروي الذهبيّ في (سِير أعلام النبلاء: 4/404) بسنده عن الإمام الصادق قوله عليه السلام: «قالَ أبي: أجلسَني جدّي الحسينُ في حِجره، وقال لي: رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يُقرئك السلام».

كما يروي الذهبي بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «أتاني جابر بن عبد الله [الأنصاريّ]، وأنا في الكُتَّاب، فقال لي: ..أَمَرنِي رسولُ الله أن أُقرئك منه السلام».

وقال الزبيدي في (تاج العروس: 6/105): «ورد في بعض الآثار عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال له: (يوشك أن تبقى حتّى تلقى ولداً لي من نَسْلِ الحسين؛ يقال له: محمّد. يَبقُرُ العِلْمَ بَقْراً، فإذا لقيتَه فأقرِئهُ منّي السلام). خرّجه أئمّة النَّسَب».

وبَقْرُ العِلم، هو شقُّه وإخراج مخبآته. لكنّ عظيم الدلالة في شقِّ الإمام الباقر عليه السلام العلمَ، لا تكمن في تفسير اللّغويّين وإرسال العلماء لذلك إرسال المسلّمات، بل تكمن، بكلّ تأكيد، في أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي وصف حفيده الإمام الباقر بذلك، حين قال عنه: «يَبْقُرُ العِلْمَ بَقْرَاً».

نحن، إذاً، على أعتاب هذه العظَمة المحمّديّة التي حرص المصطفى الرؤوف الرحيم على أن تهتديَ العقول والقلوب إلى فرادة سرّها التوحيديّ.

والسؤال المركزيّ:

أيُّ سرٍّ في الإمام الباقر عليه صلوات الرّحمن جعلَ استمرار الرسالة المحمّديّة يدورُ مداره، لتشرقَ أنوارُ رسولِ الله على الأمّة بأجيالها، وعلى البشرية كلّها عبر القرون - وبعد أن خيّم الظلام الأمويّ الداجي - من مطلع الفجر المحمّديّ؛ محمّد بن عليّ الباقر سلام الله عليه.

ما هو هذا السرّ الذي جعل المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، يبلّغ سلامه لحفيده عن طريقين: أهل البيت، والصحابة: الإمام الحسين عليه السلام، وجابر.

وأيّ رسالةٍ هذه التي مدّ الله تعالى في عمر الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاريّ، ليبلّغها للأجيال في مظهر إبلاغها للإمام الباقر عليه السلام؟

التأسيس الثاني للبعثة النبوية

لا ريب في أنّ كلّ إمامٍ من الأئمة الاثني عشر مجدِّدٌ للبعثة النبوية في عصره، إلا أن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، يشتركان في التجديد الأعظم للبعثة النبوية المباركة.

منذ شهادة أمير المؤمنين إلى عصر إمامة الباقر، (حوالي نصف قرن)، لم تكن الظروف مؤاتية لتغرف الأمّة من معدن الوحي والتنزيل، وكانت كربلاء وشهادة الإمام الحسين عليه السلام خلال هذه المدة قد هزّت ضمير الأمّة وأقامت الحجّة التامّة عليها في ذهابها عريضاً في أودية آل أبي سفيان، إلا أن حاجزَي الترهيب والترغيب كانا ما يزالان بحاجة إلى تفكيك، وقد تمكّن الإمام السجّاد عليه السلام من إنجاز هذه المهمّة عبر تثبيت البُعد الروحي في الأمّة، وما إن أطلّت فترة إمامة الإمام الباقر عليه السلام حتّى أصبحت الأمّة توّاقة إلى فقه علوم التوحيد والقرآن والشريعة، وقد ساعد على ذلك أن الإمبراطورية الأمويّة كانت تواجه نهاياتها، ما أتاح للإمام الباقر عليه السلام أن يكون «محمّدَ عصره»، ليقوم بأعباء وصاية جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله، بالمستوى الذي جعله أبرز مجدّدٍ للبعثة النبوية.

وحيث إنّ هذه المرحلة الزمنية كانت مرحلة متقدمة في انتشار الإسلام وترامي رقعة الحكم باسمه، وتعاظم دخول الناس في دين الله أفواجاً على نطاقٍ واسعٍ جداً، فقد برزت حاجة النظام إلى المستنَد العقائديّ الذي يمكّن من مواجهات الشّبهات التي حملتها الثورة الثقافية المضادّة، وهو ما جعل لسان حال النظام في آخر الإمبراطورية الأموية، ما قاله المتوكّل العباسي للإمام العسكريّ في مواجهة معضلة عقائدية. قال المتوكّل: «أدرِكْ دينَ جدّك يا أبا محمّد».

لم يكن لإدراك الإسلام وإنقاذه في قلوب الناس من الشُّبهات إلا الإمام الباقر؛ فهو من أَمَر الله تعالى نبيّه بالنصّ عليه، وبامتياز.

صحيحٌ أن ذلك هو شأن كلّ إمامٍ في عصره، إلا أنّ إمامة الإمام الباقر هي البعثة النبوية الثانية لمَن لا نبيّ بعده صلّى الله عليه وآله. وكما كانت البعثة النبوية تأسيساً يتلخّص بالعنوان الأبرز الذي أطلقه رسول الله «قولوا لا إلهَ إلا الله تُفلحوا»، فكذلك كانت فترة إمامة الإمام الباقر عليه السلام تجديداً للتأسيس، وتثبيتاً له، واستمراراً لنقائه ودواماً.

ويمكن استيضاح موقع التأسيس الثاني من التأسيس الأول، من التأمّل في أنّ الثاني على يد الإمام الباقر لم يكتمل، ولم يتبلور ويبلغ مداه إلا على يد الإمام الصادق. روى الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «لمّا حضرتْ أبي الوفاةُ، قال: يا جعفر، أُوصيكَ بأصحابي خيراً.

قلتُ: جُعِلْتُ فِداك، وَاللهِ لَأَدَعَنَّهُم والرَّجلُ مِنهم يكونُ في المِصر، فلا يسألُ أحداً».

نستنتج ممّا سبق، فرادة المهمّة التي قام بها الإمام الباقر، وأنّ اكتمالها كان على يد الإمام الصادق عليهما السلام.

وفي الختام، ينبغي تأكيد أنْ لا سبيل إلى المحمّديّة البيضاء إلا بحبّ المولى الإمام الباقر عليه السلام، وحبّ أهل البيت عليهم السلام، وليس من المودّة في القربى أن يغفل القلب عن ذكرى ولادة مَن عرفتَ موقعه الأثير عند سيّد الخلق أجمعين.

اخبار مرتبطة

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات