الملف

الملف

14/07/2018

علم الأخلاق

علم الأخلاق

موضوعه وغايته

____ الفقيه الشيخ محمّد مهدي النراقي ____

تعالج هذه المقالة علم الأخلاق استناداً إلى القرآن الكريم وحديث المعصومين عليهم السلام. فقد تناول عالم الأخلاق الفقيه العارف الشيخ محمّد مهدي النراقي المسألة الأخلاقية من وجهيها النظري والسلوكي والغاية الإلهية من التخلُّق، وأثر ذلك على نفس الإنسان وعلى صلته بالله تعالى، ثمّ على علاقته بالبيئة المحيطة به، سواء لجهة الخُلق الحسن، أو لجهة سوء الخلق. كما تبيِّن المقالة الهندسة المعرفية لعلم الأخلاق الإسلامي والعوامل التي تؤدّي بالمسلم إلى الارتقاء بإنسانيته من حضيض الأهواء الفانية، إلى سموّ التمسّك بالفضائل الموصلة الى أعلى مراتب الإنسان الكامل.

«شعائر»

 

إنّ الحياة الحقيقية للإنسان تتوقف على تهذيب الأخلاق الممكن بالمعالجات المقررة في هذه الصناعة، ومن ثمّ يُعلم أنّه أشرف العلوم وأنفعها، لأنّ شرف كلّ علم إنّما هو بشرف موضوعه أو غايته، فشرف صناعة الطبّ على صناعة الدباغة بقدر شرف بدن الإنسان وإصلاحه على جلود البهائم.

 وموضوع هذا العلم هو النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ولبّه، وهو أشرف الأنواع الكونية كما بُرهن عليه في العلوم العقلية، وغايته إكماله وإيصاله من أوّل أفق الإنسان إلى آخره، ولكونه ذا عرض عريض متصلاً أوّله بأفق البهائم وآخره بأفق الملائكة، لا يكاد أن يوجد التفاوت الذي بين أشخاص هذا النوع في أفراد سائر الأنواع، فإنّ فيه أخس الموجودات، ومنه أشرف الكائنات.

وإلى ذلك التفاوت يشير قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّي وُزنتُ بِأمّتي فرجحتُ بهم»، ولا ريب في أنّ هذا التفاوت لأجل الاختلاف في الأخلاق والصفات، لاشتراك الكل في الجسمية ولواحقها.

وهذا العلم هو الباعث للوصول إلى أعلى مراتبهما، وبه تتمّ الإنسانية، ويعرج من حضيض البهيمية إلى ذُرى الرتب الملكية، وأيّ صناعة أشرف ممّا يوصِل أخسّ الموجودات إلى أشرفها، ولذلك كان السلف من الحكماء لا يطلقون العلم حقيقة إلّا عليه، ويسمّونه بالأكسير الأعظم، وكان أوّل تعاليمهم، ويبالغون في تدوينه وتعليمه، والبحث عن إجماله وتفصيله، ويعتقدون أنّ المتعلّم ما لم يهذّب أخلاقه، لا تنفعه سائر العلوم.

وكما أنّ البدن الذي ليس بالنقي كلّما غذيته فقد زدتَه شراً، فكذلك النفس التي ليست نقية عن ذمائم الأخلاق، لا يزيدها تعلّم العلوم إلّا فساداً. ولذا ترى أكثر المتشبّهين بزيّ العلماء أسوأ حالاً من العوامّ، مائلين عن وظائف الإيمان والإسلام، إمّا لشدّة حرصهم على جمع المال، غافلين عن حقيقة المآل، أو لغلبة حبّهم الجاه والمنصب، ظنّاً منهم أنّه ترويج للدين والمذهب، أو لوقوعهم في الضلالة والحيرة لكثرة الشك والشبهة، أو لشوقهم إلى المراء والجدال في أندية الرجال، إظهاراً لتفوّقهم على الأقران والأمثال، أو لإطلاق ألسنتهم على الآباء المعنوية من أكابر وأعاظم الحكماء، ولعدم تعبّدهم برسوم الشرع والملّة، ظنّاً منهم أنّه مقتضى قواعد الحكمة، ولم يعلموا أن الحكمة الحقيقية ما أعطته النواميس الإلهية والشرائع النبوية، فكأنهم لم يعلموا أنّ العلم بدون العمل ضلال، ولم يتفطّنوا قول نبيّهم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قَصَم ظهري رجُلان: عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ». ولم يتذكّروا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «البَلاهَةُ أدْنى إلى الإخلاصِ مِن فَطانةٍ بَتْراء»، وكلّ ذلك ليس إلّا لعدم سعيهم في تهذيب الأخلاق وتحسينها، وعدم الامتثال لقوله سبحانه: ﴿..وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا..﴾ البقرة:189.

فضائل الأخلاق ورذائلها

فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية، فالتخلّي عن الثانية والتحلّي بالأولى من أهم الواجبات، والوصول إلى الحياة الحقيقية بدونهما من المحالات. فيجب على كلّ عاقل أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق التي هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة، والاجتناب عن رذائلها التي هي الأطراف، ولو قصّر أدركته الهلاكة الأبدية. ".."

والأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية، والنفحات القدسية إذ هي بمنزلة الغطاء للنفوس فما لم يرتفع عنها لم تتّضح لها جليّة الحال اتضاحاً؛ كيف والقلوب كالأواني، فإذا كانت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها معرفة الله وحبّه وأنسه، وإلى ذلك أشار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: «لولا أنَّ الشّياطينَ يَحومُون على قلوبِ بَني آدمَ لَنَظَروا إلى مَلَكوتِ السّماواتِ والأرض».

فبقدر ما تتطهّر القلوب عن هذه الخبائث تتحاذى شطر الحقّ الأول، وتتلألأ فيها حقائقه كما أشار إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ لِرَبِّكُم في أيّامِ دَهرِكُم نَفَحاتٍ، أَلَا فَتَعرّضوا لها»، فإنّ التعرّض لها إنّما هو بتطهير القلوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الرديئة، فكل إقبال على طاعة وإعراض عن سيئة يوجب جلاءً ونوراً للقلب يستعدّ به لإفاضة عِلمٍ يقيني، ولذا قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾ العنكبوت:69.

فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية؛ مبذولة على الكلّ غير مضنونٍ بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها، لا يمكن أن يتجلّى فيها شيء من الحقائق، فلا تحجَب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الاحتجاب إنّما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضادّ ذلك.

ثمّ ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره، هو العلم الحقيقي النوراني الذي لا يقبل الشكّ، وله غاية الظهور والانجلاء لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقّة الربانية، وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وآله: «إنَّما هو نُورٌ يَقذفُهُ اللهُ في قلبِ مَن يَشاء»، وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، بقوله: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ الله إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ..»، إلى أن قال: «قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى. قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَمِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ..».

 فإذا كان بيت القلب مشحوناً بالصفات الخبيثة التي هي كلاب نابحة، لم تدخل فيه الملائكة. والحكم بثبوت النجاسة الظاهرة للمشرك، مع كونه مغسول الثوب نظيف البدن، إنّما هو لسراية نجاسته الباطنية؛ فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «بُنِيَ الدِّينُ على النّظافة»، يتناول زوال النجاستين. وما ورد من أنّ الطّهور نصف الإيمان، المراد به طهارة الباطن عن خبائث الأخلاق، وكان النصف الآخر تحليته بشرائف الصفات، وعمارته بوظائف الطاعات.

وبما ذُكر ظهر أنّ العلم الذي يحصل من طريق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية، من دون تصقيل لجوهر النفس، لا يخلو عن الكدرة والظلمة، ولا يستحقّ اسم اليقين الحقيقي الذي يحصل للنفوس الصافية، فما يظنّه كثير من أهل التعلّق بقاذورات الدنيا أنّهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه خلاف الواقع، لأنّ اليقين الحقيقي يلزمه «روح» ونور وبهجة وسرور، وعدم الالتفات إلى ما سوى الله، والاستغراق في أبحر عظمة الله، وليس شيء من ذلك حاصلاً لهم، فما ظنّوه يقيناً إمّا تصديق مشوب بالشبهة، أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات.

___________________________

* جامع السعادات: 1/36-51 – مختصر

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/07/2018

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات