الملف

الملف

14/07/2018

مكارم الأخلاق النبوية

مكارم الأخلاق النبوية

صفاتها وحقيقتها ومقاصدها

____ محمود ابراهيم ____

تمرّ الأمة الإسلامية اليوم في واحدة من أخطر الأحقاب على الصعد كافة. ولعلّ أعظم الابتلاءات ما تتعرّض له مجتمعاتنا من حروب على قيَمها الدينية والإيمانية والحضارية إنطلاقاً من الدائرة الأخلاقية. فقد بدا واضحاً حجم الأثر الكبير الذي تسببه حملات التضليل والتشويه التي تشن عن طريق وسائل التواصل ووسائل الإعلام إلى تدمير البناء الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية.

هذه المقالة تضيء على عقيدة مكارم الأخلاق كأصلٍ جوهري من أصول الإسلام الأصيل، وتذكير بحقيقة عظمى من حقائق ومقاصد البعثة النبوية الشريفة.

«شعائر»

لمكارم الأخلاق صفات تُمنح لها بحسب مقاصدها وتنزّلاتها. ولنا أن ندرج بعضاً منها تحت عناوين مجملة سنمر على تفصيلها لاحقاً..

أولاً: إنّها صفة النبيّ نفسه حيث بلغت به مآلها الأعظم واستحق بها رتبة الآدمي الأكمل.

ثانياً: إنّها صفة الإنسان الذي بُعث من أجله النبيّ الخاتم ليتمّم له إنسانيته. فإذا جرى هذا الإنسان مجراها، بالتصديق والتوحيد والإيمان والتخلّق حصَّل الحكمة. ومن علامات حكمته أنّه أنزل كلّ شيء منزلته، فلا يتعدّى به مرتبته، وأعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، ولا يحكم في شيء بغرضه ولا بهواه، ولا تؤثّر فيه الأعراض الطارئة، ولا يضع من يده الميزان. ولو تدرَّج الإنسان بالسير والسلوك والمجاهدة والتعقُّل اتّسعت آفاق نفسه، وتهيّأت لتلقي المعارف الإلهية والعلوم اللدنية التي بها ترتقي نفسه إلى الملأ الأعلى بعناية الله وتسديده. وهذه الحكمة  - المركّبة من العلم والعمل - هي تلك التي يُعبَّر عنها تارة بالقرآن، وتارة بالنور، وهي من فضل الله يؤتيها من يشاء، ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا البقرة:269.

ثالثاً: إنّ مكارم الأخلاق هي صفة للصراط المستقيم. فمن مشى على الصراط حلَّت عليه الاستقامة، فأدركها بالتقوى والورع والزهد. فمن اتّقى الله علّمه الله وأدخله في درعه الحصين، وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات. كما تعبّر الآية الكريمة: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ الأنعام:122.

رابعاً: إنّها صفة الأمّة الوسط، التي قال الله فيها مخاطباً نبيه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران: 110. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا البقرة:143.

خامساً: إنّها صفة للأبعاد المعنوية الباطنية التي تختزنها الشريعة المقدسة. وهي الأبعاد المتممة للبعثة النبويّة.

سادساً: إنّها الصفة التي يظهر فيه قول أهل العصمة على تمامه حين أشاروا إلى «الأمر بين الأمرين». فإذا كانت غاية ختم النبوّة حفظ مختزنها الإلهي بالمكارم، فقد تحصَّل لدينا السبيل إلى التوحيد على الوجه الأتم. وكان لنا من هذا السبيل الوقوف على أرض الاعتدال الأكمل لنميّز وجه اللطف والتدقيق بين الإفراط والتفريط، وبين الجبر والتفويض، وبين القضاء والقدر. والأمر بين الأمرين هو نفسه ما قيل في معنى الصراط والميزان والحكمة البالغة. وهو نفسه كذلك، الأمر الوسط الذي تتجلّى فيه مكارم الأخلاق كغاية عليا للشريعة المقدسة.

وأنّى تكن صفات المكارم ونعوتها، فقد كثرت الأحاديث في تحقيقها وبيان حدّها وتعريفها، إلّا أنّها آيلة إلى الغاية من الإيجاد الإلهي للإنسان. وإلى هذا، ما كان للنبيّ الخاتم أن يعيّن مبدأ بعثته المقدّسة ومنتهاها بمكارم الأخلاق، لولا ارتباطها بالغرض الأصلي من إيجاد الإنسان. فلو تقرّر أنّ الغاية الإلهية من إبداع النوع الإنساني استخلافه في الأرض، عرفنا العلّة الأصلية من وراء خلقه، وهي معرفة الخالق.

وباصطفاء محمّد صلّى الله عليه وآله نبيّاً خاتماً، وهادياً، ورحمة للعالمين، يكون قد خَتَمَ سبحانه شريعته  في العالمين وتمَّمها بمكارم الأخلاق. ثم لتستأنف من بعد المصطفى صلّى الله عليه وآله حركتها الهادية عبر ورثة الحقيقة المحمّدية من أئمّة الهدى وصولاً إلى الحجّة البالغة.

في مقدمة (تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم) للعارف بالله الفيلسوف السيد حيدر آملي، إشارات بيِّنات إلى المعنى المتسامي لمكارم الأخلاق ومكانتها الحاسمة في حفظ رسالة الوحي. فقد بيَّن أنّ سعيه إلى تأويل كتاب الله هو من أجل أن يكون مطابقاً لأرباب التوحيد وأهل الحقيقة. قد عنى بهذا أن يكون عمله التأويلي جامعاً للشريعة والطريقة والحقيقة، تأسيساً على حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله: «الشريعة أقوالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة أحوالي».

من كتاب (الفرائد والعوائد) يقتبس المحدِّث الحسن بن محمّد الديلمي عن أبي جعفر  الباقر عليه السلام، ما يفصِّل الأركان التي تنبني عليها مكارم الأخلاق النبوية، قوله: «إنَّ من آداب المؤمن حفظ الأمانة، والمناصحة، والتفكّر، والتقيّة، والبرّ، وحُسن الخلق، وحُسن الظن، والصبر، والحياء، والسخاء، والعفّة، والرحمة، والمغفرة، والرضا، وصلة الرحم، والصمت، والستر، والمواساة، والتكريم، والتسليم، وطلب العلم، والقناعة، والصدق، والوفاء... والعزم، والنصفة، والتواضع، والمشاورة، والاستقامة، والشكر، والحياء، والوقار».

ثم ذكر الخصال التي يجب على المؤمن تجنّبها، وهي: «البغي، والبخل، والدناءة، والخيانة، والغشّ، والحقد، والظلم، والشّرَه، والخرق، والعجب، والكبر، والحسد، والغدر الفاشي، والكذب، والغِيبة، والنميمة، والمكايدة، وسوء الظنّ، ويمين البوار، والنفاق، والمنّة، وجحود الإحسان، والعجز، والحرص، واللعب، والإصرار، والقطيعة، والمزاح، والسَّفَه، والفحش، والغفلة عن الواجب، وإذاعة السرّ».

في سياق المنفسح المعرفي نفسه قدّم الحكيم الإلهي ملّا صدرا شرحاً فلسفياً لحديث النبيّ صلّى الله عليه وآله: «إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارمَ الأخلاق» قوامها: «وكما أنّ للإنسان صورة ظاهرة، حسنُها بحسن الجميع واعتداله، وقبحها بقبح البعض فضلاً عن الجميع، وكذلك صورته الباطنة فإنّ لها أركاناً لا بدّ من حسن جميعها حتى يحسن الخلق وتحصل الحكمة والحرية».

ثمّ وضع لها أربعة معانٍ هي: «قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وقوة العقل، فإذا استوت هذه الأركان الأربعة التي هي مجامع الأخلاق التي تتشعّب منها أخلاق غير محصورة، اعتدلت وتناسقت وحصل حسن الخلق. أمّا قوة العلم فأعدلها وأحسنها أن تصير بحيث تدرك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأعمال، فإذا انصلحت هذه القوة واعتدلت من غير غلوٍّ وتقصير، حصلت منها ثمرةٌ هي بالحقيقة أصل الخيرات ورأس الفضائل وروحها. ومعنى حسن الخلق في جميع أنواعها الأربعة وفروعها هو التوسّط بين الإفراط والتفريط، والغلوّ والتقصير، فخير الأمور أوسطها وكِلا طرفي قصد الأمور ذميم. ومهما انحرف بعض هذه الأمور عن الاستقامة إلى أحد الجانبين لم تتمّ مكارم الأخلاق. وممّا يجب أن يُعلم في هذا المقام أنّ قوة النفس غير شرفها، كما أشير إليه وكل منهما قد  يزيد في الآخر، وقد يتفق لوازمها. أمّا أنّ كلاًّ من شرف النفس وقوتها قد يزيد على الآخر فلأن الشجاعة مثلاً قد تصدر لكبر النفس واحتقار الخصم واستشعار الظفر به، وقد تصدر لشرف النفس والترفع عن المهانة والذلة، حيث النفوس الشريفة تأبى مقارنة الذلّة، وترى حياتها في ذلك موتها، وموتها فيها حياتها».

نرانا لا نجد من فصل بين ختم النبوّة وتتميم مكارم الأخلاق في محضر البحث عن معنى ومقاصد قول النبيّ صلّى الله عليه وآله، في الحديثين الشريفين: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، و«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ». الحديثان متّصلان ومتلازمان ويؤلّفان وحدة قولية لا تباين في وحدتها. فالنبيّ من حيث هو خاتم النبوّة هو فاتح الولاية، لجهة أنّ الختم والفتح مرتبتان إلهيتان تنتظمان حقيقة البعثة المحمدّية، في مستهلّها وختامها.

وعلى قاعدة الاتّصال والتلازم بين ختم التشريع وفتح الولاية، تتحول الولاية إلى «نبوّة عامة» تستأنف حقائق «النبوّة الخاصة»، وتنقلها إلى حقيقة هادية للعالمين. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:107.

_____________

* باحث في الفكر الإسلامي.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/07/2018

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات