الملف

الملف

14/08/2018

مستحبّات تتّسع لكلّ دورة الزمن


سياحة علمية، وتلقين ثقافي هادف

مستحبّات تتّسع لكلّ دورة الزمن

من التوفيق أن يعرف المسلم فضيلة كلّ وقت يمرّ به، ومن كمال التوفيق أن يعمل العارف بفضيلة الأوقات بمقتضى علمه، فليس كلّ علم يتحوّل إلى عمل، وهنا مكمن الخلل الأخطر في حياة الإنسان.

والثقافة الحقيقية هي ثمرة المعلومات التي تنتقل من العقل إلى القلب، وتلتزم بها الجوارح.

ليست الثقافة كلّ المعلومات التي تختزنها الذاكرة، وإلّا فإنّ جهاز الحاسوب، أو المكتبة المركزية، أو مخزن الكتب الضخم، سادة المثقفين.

ويتوقّف نجاح كلّ مدرسة فكرية، أو منهج ثقافي على طبيعة بناء النظام التثقيفي الذي يمكّن من تذكير المنتمي إلى تلك المدرسة، أو ذلك المنهج، بأسس الثقافة التي يحرص على نشرها وتعزيزها.

إنّ تكرار التذكير بهذه المفردة الثقافية وتلك يعزّز فرصة تفاعل العقل معها، ويعزّز أيضاً فرصة نقلها من العقل إلى القلب الذي هو «أمير الجوارح» كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام.

ثمّ إنّ هذا التكرار وإتاحة الفرصة المشار إليها، عندما يكونان شاملين لكلّ المفردات الثقافية، فإنهما يشكّلان الدروس الدائمة والمتجدّدة المنتشرة على مساحة التذكير التي يشغلانها، فإن كانت المساحة تتّسع لكلّ دورة الزمن، كان الزمن كلّه جامعة تفتح أبوابها لينتظم المنتمون إلى ذلك المنهج الفكري في صفوفها.

وهذا هو بالتحديد وجه إعجازٍ يكاد يكون مضيّعاً في البناء الثقافي الإسلامي.

قدّم الإسلام فكراً في مجال الرؤية الكونية للوجود وبالخصوص الدنيا والإنسان، أي في مجال العقيدة، وسائر المفاهيم التي تتفرّع عليها، وقدّم القانون الإلهي الذي ينسجم مع تلك الرؤية الكونية والقيَمية.

دورة على مدار السنة

وحيث إنّ الثقافة التي يريد الإسلام إيصالها إلى كلّ فرد، لا يمكن أن تتحقق بالصورة الفضلى بمجرّد معرفة الفرد بها، بل لا بدّ من عملية التذكير المستمرة، الهادفة إلى امتزاج العارف بمعرفته، ليتحوّل هو إلى معرفة، كما يمتزج الشهيد بهدف شهادته، فيتحوّل إلى شاهد على موقف الناس من هذا الهدف، فإنّ الإسلام بنى نظامه التثقيفي على دورة الزمن، كما في قوله تعالى:

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة:36.

تجد بوضوح وأنت تتابع آلية توزيع المستحبّات على دورة السنة، أنّ المسلم الذي يتواصل مع هذه المستحبّات لا يمكن إلّا أن يكون بصيراً بما تغتذي به روحه، مجدِّداً العهد بأسس ثقافته القرآنية، متواصلاً مع كلّ ما انطوى عليه القلب في خطّ العقل، مجدّاً في تعزيز تفاعله معه، متّجهاً إلى حيث يتحوّل المعلوم عنده وفيه إلى عمل، فالعمل هو الهدف من الثقافة الإسلامية.

قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.. الملك:3.

وفي تفسير الآية ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «ليسَ يعني أكثرَكُم عملاً، ولكن أصْوبَكم عملاً، وإنّما الإصابةُ خشيةُ الله والنيّةُ الصادقة والخشية، ثم قال: الإبقاءُ على العملِ حتّى يخلص أشدُّ من العمل. والعملُ الخالص الذي لا تريد أن يَحمدَك عليه أحدٌ إلّا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضلُ من العمل، ألا وإنّ النيّة هي العمل، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ.. يعني على نيّته». (الإسراء:84)

ولأنّ حسن العمل والإصابة فيه رهن الممارسة وتكرارها، حيث لا علم بدون تطبيق، كان لا بدّ للمسلم من أن يوضع في الجو الذي يمكّنه من التطبيق العملي والذي يتيح له أن يحوّل المنظومة الفكرية العقيدية، والنظرية الثقافية المصاغة في ضوئها، إلى يقين يحرّره من أدنى شوائب الشك الذي هو مناخ التذبذب، والذي هو بدوره مكمن الانحراف في الشخصية التي لا تهتدي إلى مسار التدرّج في مراتب اليقين.

وفي هذا السياق يجب أن ينظر إلى ظاهرة دور العبادة في حركة الأديان باعتبارها في الأصل وبقطع النظر عن التفاصيل مراكز التثقيف الدائم، وأنّ المنطلق لهذه الخطّة الإلهية هو أنّ الثقافة والفكر أسمى من أن يحصرا بجانب من عمر الإنسان، هو عبارة عن مراحله الدراسية على اختلافها، بل يجب أن يكون الإنسان دائماً في خط العلم تلقّياً دائماً وإلقاءً حيث تتحقق القدرة على ذلك.

أمّا المادة المقررة لهذه المدارس والجامعات الدائرة أبداً، فهي بالدرجة الأولى الأحكام الشرعية «حدود الله»، والهدف هو تعميم ثقافة القانون، لتأخذ جميع المفردات الثقافية الأخرى موقعها الطبيعي في منظومة الفكر الملتزم، الذي يجسّد أفضل تناغم مع الثوابت التي حدّدتها العقيدة، وشكل القانون الناظم لها والحارس الأمين الذي يسهر على تأمين التوازن في شخصية الفرد والمجتمع.

وفي إطار ثقافة الأحكام الشرعية، تتاح للفرد دورات تطبيقية لا ينحصر مجالها ولا تقتصر ساحتها على المسجد، وهو الصيغة المتقدّمة للمركز التثقيفي العبادي، بل تستوعب حركة الحياة كلّها، فالقانون الناظم لهذه الثقافة هو فقه القلب والحياة، وطبيعي أن تكون ساحة التثقيف هي كلّ ساحة الحياة.

تواكب الدورات الثقافية التطبيقية المسلم في بيته ومحل عمله، وفي حلّه وترحاله، بل قد تفرض عليه الترحال عندما تحظى هذه الدورة الثقافية بصفة الإلزام كما هو الحال في الحجّ.

وقد تكون دون ذلك إلّا أنّها تحظى بدرجة متقّدمة من الحث عليها كما هو الحال في زيارة المراقد، التي يضيء على جانب من واقعيتها حرص الناس بطبيعتهم على الرحلات السياحية، أو ذات الطابع السياحي- العلمي، ليتّضح من خلال هذه الإضاءة أنّ في التواصل الحضاري مع مرتكزات التاريخ تلبيةٌ لحاجة فطرية للإنسان.

وليست هذه الحاجة في العمق إلّا ثقافية بامتياز، فإّن حصيلة تواصل القلب مع سِيَر المنارات الفكرية والعملية، سوف تظهر تلقائياً في قناعاته لتأخذ طريقها إلى الظهور في سلوكه.

سياحة النفس

وحيث إنّ السفر والترحال لا يمكن إلّا أن يملآ حيّزاً من حياة الفرد، كان من الطبيعي جداً أن تتاح إمكانية التواصل مع كل ركائز تاريخ الحركة الثقافية المنطلقة من الحقائق الكبرى، والمتفاعلة معها، أو المجسّدة لها.

ولا بديل في باب إتاحة إمكانية التواصل هذه، عما اصطلح عليه بالمناسبات الإسلامية الموزعة تلقائياً على كل دورة الزمن.

ومن الأمثلة على ذلك: مَن لا يستطيع الذهاب إلى الخليل لزيارة مقام نبيّ الله إبراهيم، فإن فكرة المناسبة تجعله حيث كان من أربع رياح الأرض، يتواصل في اليوم الأول من ذي الحجّة مع ذكرى مولده عليه السلام، فما دام لا يمكنه السفر للاعتبار، فإن المناسبة تسافر إليه ليتحقق الهدف.

ومن كان لا يستطيع السفر إلى عرفات في يوم الموقف العبادي العظيم، فإنّ أنوار المناسبة تشرق عليه حيث يقيم، لتمكنّه من المشاركة التي هي فعل روح ولا مدخلية للجسد فيها إلّا لتعزيز تفاعل الروح ليعظم فعلها.

وتكفي نظرة سريعة في توزيع المناسبات الإسلامية على مدار السنة، ليخشع القلب في محراب عظمة هذا البناء الثقافي الفريد الذي يتكفّل صيانة المرتكزات الثقافية المختلفة، لتعزيز مرتكزاتها الفكرية والعقيدية.

وتتجلّى فرادة الروعة حين ندرك مدى فاعلية إخراج التأمل في المناسبة والاعتبار بها من دائرة الرتابة القائمة على التلقين من هذا الدليل، أو ذلك المحاضر، إلى الفعل الذي ينبغي لكل فرد أن يقوم به، ليدخل في دورة تطبيقية هي أبعد أثراً وأوفر حصيلة في العقل والقلب والوجدان.

من هنا اقترنت المناسبات كما أرادها الإسلام بما يعرف بالأعمال العبادية.

فهناك أيام يستحب صومها.

وهناك صلوات بترتيب خاص ورد الترغيب الكبير بها.

وثمة أدعية يشكّل كل منها مقاربة محكمة السبك البرهاني المستثيرِ لكلّ ومضة عقل، والمتناغم مع كلّ خفقة قلب والملامس لكلّ نبضة إحساس.

وثمّة أذكار خفيفة على اللسان إلّا أنها مداميك للرؤى، ومرتكزات لطبيعة الوعي وتصويب المسار لحركة الفكر.

ولا مجال إطلاقاً لتجاوز حقيقة كبرى هي أعظم تجليات هذا البناء الثقافي الإلهي الفريد. إنّها الحرص على تقديم ذلك كلّه بلغة المستحب بعيداً عن صرامة الإلزام، واستفزازها التلقائي حتى لمَن قرر الإلتزام.

لقد خلق الله تعالى الإنسان مفطوراً على الحرية، لا يمكن لأيّ قدرة في الدنيا أن تجبره على القناعة بما لا يريد، والثقافة بالإجبار هي النقيض الطبيعي للثقافة.

هكذا قد ندرك بوضوح فداحة الخسارة الفكرية والثقافية المرعبة التي نلحقها بإنسانيتنا، حين نصرّ على تهميش المستحبات والاستخفاف بها!

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات