بين صوم الفرد وصوم الأمة

بين صوم الفرد وصوم الأمة

منذ 0 ساعة

رأينا بما لامزيد عليه كيف أن آلافاً من الصائمين الحقيقيين من مجاهدي المقاومةالإسلامية والإنتفاضة تمكنوا بحول الله تعالى أن يمنحوا الأمة من اليقين بإمكان تحقيق النصر، ماعجزت عن أدنى سفحه كل الأنظمة طيلة أكثر من نصف قرن.

رأينا بما لامزيد عليه كيف أن آلافاً من الصائمين الحقيقيين من مجاهدي المقاومةالإسلامية والإنتفاضة تمكنوا بحول الله تعالى أن يمنحوا الأمة من اليقين بإمكان تحقيق النصر، ماعجزت عن أدنى سفحه كل الأنظمة طيلة أكثر من نصف قرن.



بسم الله الرحمن الرحيم


بين صوم الفرد وصوم الأمة

الشيخ حسين كَوْراني


* الضيافة العالمية:
"أيها الناس .. إنه قد أقبل إليكم شهر"...." دعيتم فيه إلى ضيافة الله".

ذلك هو مفتتح الدعوة التي حملها المصطفى الحبيب ، إلى كل إنسان.


لاتقتصر هذه الدعوة على المؤمنين، و لا على المسلمين، بل تتعداهم إلى كل إنسان، ليأخذ موقعه النظري في رحلة البحث عن الحقيقة، لتتضح الرؤية ويتحدد المسار فيأخذ موقعه العملي في مدارج تجلي الحقيقة، التي يسمى حدها الأدنى "العدالة" وهي بدورها الحد الأدنى للكمال الإنساني .


ونظرة في مفتتح الدعوة النبوية، وختام آيات الصوم، كفيلة بإيضاح عالمية هذه الضيافة الإلهية: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون.


وبديهي أن الرشد الإنساني رهن التزام الحقيقة، وأن دعوة التزام الحقيقة لاتستثني أحداً من الناس.


* في الدلالات:


في عصر الفهم الإفتراسي للعولمة، يشتد التمايز بين مدرسة العقل الذي يضبط حركة الغرائز، وبين مدرسة الغرائز التي تهيمن على العقل وتستعمركل مواقعه، و " كم من عقل أسير تحت هوى أمير" كما يعبرالإمام علي عليه السلام.


والنتيجة الطبيعية لذلك هي اختلال منظومة القيم، فإذا بالقذيفة السبعة أطنان، " قيمة "! تفوق حقوق الإنسان! ويخرس عن التنديد بها أكثر الصائمين، وإذا بالشعب - أي شعب - أصغر من أن يشكل وحدة وكيانية.

إن هو إلا مدى للهيمنة وفرض السلطة والنفوذ، وسوقاً لتصريف الإنتاج، وخانة في جداول الربحية و الجدوى الإقتصادية.


حيث يسود منطق غرائزي من فَيْح هذا الحمإ المسنون، هل يعقل أن تكون للفرد قيمة إلا قيمة السلعة، أو حديث عنه إلا بمقدار الحاجة إليه.


لم تعد إنسانية الإنسان المحورَ ومصبََّ العناية والإهتمام، بل "شيئيتُه": كونه شيئاً يدخل في حساب الربح و الخسارة، إن في المجال التعليمي، كرقم"قسط" يلحظ في الناتج الإجمالي، أو في المجال التنظيمي كرقم يضاف إلى المؤيدين، أو في المجال الإنتخابي، أو في الحديث عن المواطنية التي تمس حاجة الجميع إلى المناداة بها كل وفق حساباته: الدولة للإستقواء على المعارضة، والمعارضة للي ذراع الدولة، وهكذا.


في عصر هذه بعض سماته، يحتاج المرء إلى كثير من الجهد ليفهم دلالات أن يدعو الله تعالى" الحقيقة المطلقة " جميع الناس إلى ضيافته.


تتهاوى أوجه الشبه بين هذه الدعوة وكل الدعوات، ويسجد العقل على أعتابها، ويعصف بالقلب الهيام، مرددا: ألحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لاذنب لي!

" إنك تدعوني فأولي عنك، وتتحبب إلي فأتبغض إليك، وتتوددإلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي و الإحسان إلي ".


إنها دعوة كريمة محورها إنسانية الإنسان لا شيئيته.


الإنسانية، تلك الجوهرة الفريدة، التي أرادها الله تعالى عصية على كل ألوان الإكراه والهيمنة فضلاً عن القمع أوالبطش، فلا تنفعل إلا بإرادتها هي، ولا تستجيب إلا لها : لاإكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي!


هذه الجوهرة الإلهية تمسك حقيقة بناصية الإختيار، ولها وحدها حق تقرير المصير، وهي مدعوة دائما إلى صقل ذاتها واكتشاف خزين طاقاتها، و إزالة كل الركام عنها حتى إذا كان بحجم الدنيا وجبابرتها وكل أخطبوطهم الإعلامي بل الإعلاني الذي ينفخ في أتون النزوات و الحيوانية والإفتراس.


الإنسانية نفحة من روح الله، و كلمته، و أمره.


إنها المشروع الإلهي. مشروع: ياابن آدم خلقتك للبقاء. أنا حي لاأموت، أريدك حياً لاتموت.


كم يحرص الأب الرؤوف على استصلاح فلذة كبده حتى إذا كان عاقاً، بل كم تضحي الأم من أجله، فهل ندرك أن كل مابذله الآباء والأمهات عبر القرون الغابر منها والآتي، ليس إلا رشحة من فيض حب الله تعالى لنا.


وهل هذه الدعوة الكريمة و الضيافة الإلّهية إلا ومضة سنىً، وطيف حقيقة، والتماع برق من معدن العظمة.


ألأسود و الأبيض، العربي والعجمي، المؤمن و الكافر، الغارق في بحار المعاصي والحيوانية بسوءاختياره، والمقبل على الحقيقة، وقد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.. جميعهم يصغون إلى نداء واحد: لاتقنطوا من رحمة الله !!


* هدف الدعوة - الضيافة:


إلا أن هذه الرحمة الإلهية الواسعة، لاينبغي أن تفهم انفتاحاً مغلوطا ألفناه ودرجنا عليه، إلى حيث تلغي المرونة الموقف، وتصادر المصلحة الآنية المبدأ، ويتداخل التكتيك بالإستراتيجية حتى تغدو طارئاً " تكتيكياً" ثقيل الوطأة و الظل، ويستحيل هذا المدعى انفتاحاً، تماهياً مع قول الشاعر:


سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً و سهلاً بعده بجهنم!!


إن هذا هو النقيض لإنسانية الإنسان التي تدور مدار الحقيقة.


وبماأن الوصول إلى الحقيقة هو الهدف من شهر رمضان، فلا يعقل أن تكون الدعوة مصادرة للهدف.


نحن مدعوون من أجل اكتشاف القيم التي تحول بيننا وبينها الحجب.


مدعوون لندرك أهمية التفريق بين الوهم و المنطق، بين االعقل والنكراء- الغريزة المتربعة على عرش العقل المستلَب- بين الظاهر والباطن، بين الروح و الجسد.


مدعوون كي نرى الأمور كما هي فلا نكبرصغيراً، ولا نصغر كبيراً.


ونقطة الدائرة في ذلك كله معرفة النفس: "من عرف نفسه فقد عرف ربه ".


ألإنسان روح و جسد، وجوهر الروح الإرادة، و جوهر الإرادة العزم، و جوهر العزم النية، وقيمة النية بسلامتها، فالنية حق أوباطل، أو مزيج من هذا و ذاك.

ولشدما تكون باطلاً بلبوس الحق.

ولاتتاح سلامة النية إلا بالمعرفة، فهي من الروح الروح، ولا تَشوُّه للنية وبالتالي لجوهرة الإنسانية إلا بالباطل، وهو في حقيقته خلط بين حكم العقل و جور الغرائز.

ومنشأ ذلك كله العكوف على تلبية حاجات الجسد على حساب الروح، وهو مايتم إنتاجه في دائرة النفس الواهمة، لضحالة معرفتها، الأمارة بالسوء، لجهلها.


إن دورة تدريبية على تغليب مقتضيات الروح على متطلبات الجسد الكثيرة التي يكفيه بعضها، كفيلة - شرط التنبه و الإستمرار - بتصحيح المسار.

فهل نحن فاعلون؟

هل نريد أن نصوم؟


* حقيقة الصيام:


الصوم فعل ممانعة واعتراض، ينطلق مع القسم الأول من كلمة التوحيد "لاإله إلا الله" إيذاناً ببدء عملية الصوم عن الباطل، تطهيراً للروح من شوائبه، وتأهيلاً لها للدخول إلى حرم الحقيقة المطلقة "إلا الله".


وليس شهر الصوم إلا تكثيفاً لعملية مستمرة.

وليست هذه الضيافة إلا ضيافة خاصة في سياق العامة الدائمة.


وبلغة متداولة: ليس الصوم في شهر رمضان إلا بمثابة خدمة العلم التي هي تكثيف للروح الوطنية، المفترض توفرها على الدوام، وإنما يتم تعزيزها خلال مدة التجنيد الإلزامي.


الصوم عملية دائمة، ومرماها الإنسانية الصالحة، المعبر عنها بالتقوى، التي تتفاوت مراتبها، بتفاوت درجة صقل النفس، لتظهر في مرآتها مكارم الأخلاق.


وشهر رمضان موسم الإعداد، والمناخ الأفضل للقيام بهذه المهمة: " لعلكم تتقون ".


تتلخص رسالة الصوم في إدراك حقيقة التوازن والعدالة، وإعطاء كل ذي حق حقه، فليس للروح أن تلغي الجسد، وبديهي أنه ليس للجسد أن يتطاول على الروح، فضلاً عن الإصرار على إلغائها. إنما هو وسيلة لتحقيق أهدافها، والعكس مأساة. إنها الحيوانية " بل أضل سبيلا".


صوم الفرد.. والأمة:


للفرد شخصيته وهي روح وجسد، وللأمة شخصيتها وهي ظاهر ومعنى، قشر ولب، شكل وحقيقة، ولئن كانت الروح باطن الفرد وحقيقته، فإن القيم معنى الأمة ولبها والحقيقة.


وكما يكون الفرد صفراً في الميزان مالم يُعْنَ بإنسانيته، تكون الأمة صفراً إذا فقدت المعنى والباطن، حتى إذا امتلكت في الظاهر أعظم الأدوات المادية.


لاتنبع قيمة الفرد من ظاهره مهما علا في الجمال كعبه، ومهما أوتي من حظ عظيم في الموقع، ووفرة الإمكانات.

مدرسة الجمال في الإسلام هي جمال الباطن الذي يفيض على الظاهر بهاءً وألقاً متأصلين، في مقابل مدرسة الظاهر التي هي التصنع والإدعاء، المصرة باستعصاء على التفلت من الإعتراف بالآخر "الباطن" فلا تقيم له وزنا.


كذلك لاتنبع قيمة الأمة من بريق المظاهر، وعظيم البهارج، والأدوات والوسائل:

" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ".


صوم الفرد امتناع مدروس عن المغريات طلبا ًلما هو أسمى، وصوم الأمة كذلك.


صوم الفرد تغليب لمقتضيات المعنى والروح، الذي يعني تغليباً للعقل على جامح الرغبات.


وصوم الأمة انتصار للقيم على الترغيب والترهيب، الأمر الذي يعني التزام الحق مهما غلا الثمن.

وفي طليعة هذه القيم : ألموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين.


و ليس صوم الفرد إلا مدخلاً إلى صوم الأمة.


الصوم إذاً إعداد للفرد ليكون المقاوم الصلب في مجتمع المقاومة الذي لايمكن أن يعطي بيده إعطاء الذليل، ولا يقر على الظلم إقرار العبيد.


ولقد رأينا بما لامزيد عايه كيف أن آلافاً من الصائمين الحقيقيين من مجاهدي المقاومةالإسلامية والإنتفاضة تمكنوا بحول الله تعالى أن يمنحوا الأمة من اليقين بإمكان تحقيق النصر، ماعجزت عن أدنى سفحه كل الأنظمة طيلة أكثر من نصف قرن.


إن أبسط تعبيرات الوفاء للمقاومة في فلسطين ولبنان أن نقرر الصوم عن البضائع الأمريكية، بل أن نربأ بأنفسنا عنها على وهج المجازر والقذائف الأطنان التي تستهدف "خطأ!ً" حتى دور العبادة ومستشفيات الولادة، ليكون ذلك دليلاً على صوم حقيقي للفرد والأمة.

فمتى نصوم؟



الشيخ حسين كوراني

المركز الإسلامي _ بيروت

5 شهر رمضان المبارك 1422هج

[email protected]

اخبار مرتبطة

نفحات